رياض البغدادي ||
بين الايمان بالفكر والسعي إلى تطبيق اهدافه ، ضمن ممارسات يومية صائبة ، والتي تمثل الروافد المشكلة للاستراتيجية المؤدية الى الأهداف الكبيرة ، تقع مساحة كبيرة يصعب على غير المجاهدين في سبيل الله ، المستوعبين للفكر الاسلامي بوضوح لا يقبل اللبس ، والذين يعيشون في المجتمع كخيط متجانس ومتميز في النسيج في آن معا ، ان يلموا بسبل الربط السليم بسلاسل متينة بين ما يحملونه من فكر ، وكيفية تجسيده في الساحات الاجتماعية المختلفة .
ولاستحداث تلك السلاسل المتينة اشتراطات أهمها : ۔
أ - جدارة واضحة في تبصّر الشأن العام والخاص ، الموجّه للمسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة ، الذي يعالج المشاكل سواء كانت سياسية أو اجتماعية او اقتصادية .
ب ۔ ضمان حضور هذه البصيرة لدى المجاهد في اعماله الجهادية كافة، بين المجتمع ، وبدءاً من أهمها وصولاً الى تفاصيل عمله اليومي •
ج ۔ ضمان تماسك سلسلة الوعي لدى المجاهد ، المبتديء طرفها العلوي بالفكر الاسلامي المحمدي الأصيل ، ماراً بالبصيرة الحاضرة مع طرفها الآخر الذي يقضي الى التطبيق ، والمجاهد في عمله الممازج للظرف الذي يعيشه المجتمع ، عليه أن يعي بوضوح أن الممازجة لاتستهدف معايشة جمود الوسط الاجتماعي ، ولا يترك الفرصة للوسط أن يجره بعفوية او عن قصد ، إلى مواقف مغايرة لتلك النابعة من الفكر الاسلامي الاصيل الذي يحمله ، وإنما تأتي الممازجة لتتيح له تحريك ذلك الوسط ، باتجاه اهداف الفكر ، وقد يبدو هذا التمازج المطلوب أمراً مستحيلاً في بعض ظروف الجهاد ، ذلك لما يبدو من تعارض بين متطلبات الفكر ، وبين ما تقتضيه الممازجة من مرونة ، وفي مثل هذا الظرف الجهادي المقاوم تُختبر حنكة وعزيمة وحسن إدراك الفكر من قبل المجاهد من جهة ، والعمل بالممکنات دون اليأس والتخاذل من جهة أخرى ، ويحدد هذه الممكنات اساساً الظرف الذاتي الذي يعيشه الوسط الاجتماعي ، والذي قد يكون بعيدا عن إمكانية مباشرته بالمجال الاستراتيجي ، الأمر الذي يشترط على المجاهد اللجوء الى تكتيكات بالغة الدقة ، وقد يعجز المجاهد لأسباب خارج إراداته عن أن يحقق الربط السليم فقد يكون : ۔
اولاً - يكون الفكر « خیالیاً » كالذي عرضه الاشتراكيون الخياليون ، فقد دعوا إلى اشتراكية طوعية بين البرجوازي والعامل ، في حين ان البشرية تيقنت عبر تاريخ حافل بالأحداث بأن البرجوازي لا يعطي ما تملَّكه ظلماً بطريقة طوعية ، بل ولا يعطيه الا إثر ظرف قاهر .
ثانياً - أو يفتقد الفكر الاسلامي الذي يؤمن به المجاهد الخصوصية الدينية . وواضح أن النسيج الديني في البناء الفكري ، يتيح أفضل ظروف الممازجة لطرف سلسلة الوعي والبصيرة ، التي تقضي الى التطبيق ، وبعيدا عن التعجيز يواجه المجاهد صعوبات حقة، أهمها : ۔
أ- عدم احتواء أي فكر كان على حلول جاهزة لكافة الاشكالات التي تواجه المجاهد ، وهذا أمر لا ينتقص عليه الفكر وإنما هي ظاهرة انشأتها وتنشئها الحياة ،وعاصرتها البشرية طيلة تاريخها ، فالحياة و في تطورها تفرز في كل يوم ، وفي شتى المناحي أشكالاً لم يسبق للمجتمع أن واجهها . ولا يسع أي حركة اجتماعية في مجال حركتها الفكرية ، أن تُصدر دورية يومية تعالج فيها الإشكالات اليومية التي تعترض منتسبيها ، ويحول دون هذه الامكانية عاملان :
(1) - الوقت حيث يتطلب الامر إنشاء دورة متكاملة لتناقل المعلومات ، ومن ثم إستيعابها وإعطاء التوجيه بها ، من قبل المركز المخصص لمثل هذه المعالجات ، وفي احسن الحالات فان الوقت المستغرق يفوّت على المجاهد المنتظِر المعالجة اللازمة في زمنها المناسب .
(2) - الكادر المطلوب ، وهو بالتأكيد سوف يكون من الضخامة ، بحيث يمتص جميع ما لدى الحركة من كوادر ، اذ يقتضيه الامر توجيهها لمعالجة أمور تفوق أهمية ما سوف يعهد اليها ، و بالتالي تعاني الحركة من تلكؤات خطيرة في مجال تطوير ركائز فكرها الاساسية .
ب - الحرب غير الشريفة وغير المشروعة ، التي تشنها الفئات المتضررة من مسيرة التوعية الفكرية ، التي يمثل المجاهد قيادتها في ذلك الوسط الاجتماعي ، وهي في العادة - أي تلك الفئات - تسعى بالدرجة الأولى لتعبئة الوسط الاجتماعي ، بطريقة يصعب على المجاهد بعدها فتح قنوات تفاهم بينه وبين الوسط الاجتماعي الذي يتحرك فيه.
ج - كثرة المهام الموجهة للمجاهد ، والتي قد تؤدي الى إبتعاده عن الوسط الاجتماعي لفترات زمنية غير قصيرة .
د - التخلف الزمني بين حركة المجاهد والتطور اليومي لحركة الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه ، وهذا قد يُفقِد جبهة المقاومة فعاليتها وقدرتها على التأثير في الوسط الاجتماعي المحيط بها ، التي هي جزء منه.
وهناك أحداث ثابتة ، قد تُجبر جبهة المقاومة على التراجع فيها عن قرارات تصب اساساً في ستراتيجية خلق المجتمعات ( المجتمعات الحاضنة )، لقصور في عمل المجاهدين من الناحية الزمنية ، ذلك لأن شرح الأبعاد الحقيقية للقرارات التي تتخذها جبهة المقاومة ، مهمة جهادية أساسية ، وبدون التدخل المباشر للمجاهد في توضيح هذه الأبعاد ، تفقد الجماهير الصورة الحقيقية ، او تستلم الصورة مضبّبة أو محرّفة .
هـ - كبح جماح النفس في محاولات التميّز لمجرد الانتساب لجبهة المقاومة ، والتي تأتي بدلا من التميّز عبر الجدارة التي يثبتها المجاهد للامة .
و - مواصلة زيادة انتشار الفعل الايجابي للمجاهد بين الاوساط الاجتماعية ، حيث تستوجب الحياة في تطورها وفي توسعها وفي تشابك فعالياتها ، أن تنتشر فعالية المجاهد بصورة متصاعدة ، لضمان موقعه القيادي ، وان عدم مواصلة زيادة الانتشار لا يعني في الحقيقة ، الا انكماشاً وجموداً غير مقبول لفعالية المجاهدين ، وان الجمود والانكماش سمة غير حياتية وغير حركية . ان المجاهد عبر استهدافه التأثير بالاقطاب المهمة المؤثرة في الوسط الاجتماعي ، يُمَكِّنه من زيادة انتشاره دون مجهودات اضافية كبيرة . وعلى المجاهد ان يعي بانه في حالة زيادة انتشاره بنسب تساوی نسب الزيادة السكانية ، يبقى فعله متسماً بالجمود ، ولا يستطيع كسر هذا الطوق الا بعد تفوق هذه النسبة على نسبة الزيادة السكانية في وسطه الاجتماعي.
ز ۔ مواصلة الروح الاقتحامية . ان الاقتحام وما يفرزه من ظروف و متغيرات ، أمر لا يجرؤ عليه الا المجاهد الواثق من نفسه ، والمؤمن بجدارة ما يحمله من فكر محمدي أصيل ، في وضع الحل الجذري لمشاكل مجتمعه . إن ظروف الاقتحام تحمل مفاجآت لغير المجاهد لا يسعه تحمل أوزارها ، بينما يتمكن المجاهد عبر فراسته العميقة من توقع اغلب المفاجآت ، وبالتالي التخطيط للتغلب على السلبية منها . وبما يحمله المجاهد من احتياطي معرفة و جهاد ، يتمكن من تحمل وزر اية مفاجأة تفرزها عملية الاقتحام ،وتقتضي القدرة على الاستمرار في الاقتحام ، من قبل المجاهد إمتلاکه صفات استثنائية متميزة ، تمكنه من مواصلة تعريض النفس للاختبارات المتوالية ، فالاقتحام أشبه ما يكون بالنسبة لما يتطلبه استعداد عال وتهيئة متواصلين . فالانسان الطبيعي مستعد ان يخوض الاختبارات في مجالات محددة ، ولعدد محدود من المرات ، وفي حدود سنٍّ معينة ، ولكنه يحاول التملص من تعريض نفسه لاختبارات جديدة حيثما أمكنه ذلك . فالاستعدادات والتهيئة الخاصة المطلوب توفرها قبل خوض أي اختبار ، أمر شاق على النفس البشرية عند تتابعه .
ح - مواصلة التضحية المطلوبة منه كقائد لوسطه ، وتتراوح درجات التضحية من موقف لآخر ، فقد تجبره ظروف المقاومة ، أن يكون أول من يستشهد في موقف ما ، في حين عليه أن يكون في آخر طابور المستفيدين مما تفرزه عملية الانتصار من إيجابيات ، وقد يكون من السهل ان يتعرض المجاهد لأحد الموقفين ويفي بالتزاماته ، ولكنه من الصعب جداً ان يخوض المجاهد المعتركين ويضحي بما مطلوب منه .
ان ما أوردناه يبين لنا بوضوح الدور المتميز والصعب للمجاهد في مجمل حركته الاجتماعية .
فعبر نجاح المجاهد في مهماته ( والمؤشر بالتفاف المجتمع حوله في ذلك الوسط ، مشكله حلقات تقترب من المركز الجهادي لتؤلف رافد جبهة المقاومة المستمر ، وحلقات تبتعد عن المركز الجهادي ، مؤلفة جماهير المؤيدين والاصدقاء ) تتحقق جبهة المقاومة من نجاح صياغتها ، لستراتيجية العمل الهادفة الى تحقيق طموحات الامة •
وبعد قطع اشواط كبيرة في رحلة جبهة المقاومة في طريق الجهاد ، وتحقيق انتصارات واضحة في جبهات عديدة ، اصبحت جبهة المقاومة حقيقة ، لا يمكن تجاوزها في رسم اي خطط من قبل الاصدقاء ، و اي مؤامرات من قبل الاعداء ، وقد انعكس هذا النجاح الكبير لجبهة المقاومة ، ايجابياً على الوعي العام للأمة ، واصبح المجاهد المجس الامين والدقيق لقيادة جبهة المقاومة ، فهو في عمله وسط الجماهير ، يشبه ما يؤديه اصبع الطبيب على نبض الانسان ، اذ هو بامانته ودقته وفراسته ، يعكس لقيادته ردود أفعال الناس ، لكل الانعطافات الأساسية في المسيرة الاستراتيجية لجبهة المقاومة وحركتها .
هذا المجس الأمين ، يتفادى جبهة المقاومة السير في طريق لم تزل غير معبده ، أي يتفادى تطبيق أمور لم ينضج الظرف الذاتي بعد لاستقبالها والتفاعل ايجابيا معها . وللامانة والدقة اهمية بالغة في هذا المجال ، اذ ان هوامش الخطأ في مثل هذا العمل ، قد تؤدي بالقيادة الى تغيير ستراتیجي ما ، دون وجود حاجة اساسية لذلك ، او الاستمرار في ستراتیجية يتوجب عليها تأجيل تطبيقها او ابدالها ، اذ ان مبالغة المجاهد في نقل رد فعل الجماهير الايجابي ، او السلبي او التقليل من شأنه ، أمور قد تفوق تداعياتها السلبية ، الارتدادات الملحوظة آنياً على صعيد الموضوع والذات .. إن القيادة في مبادراتها لتنفيذ خططها الستراتيجية ، وعبر افعالها تعتمد ( بالاضافة الى استقراءاتها المعتمدة على المعرفة الوطيدة بالمجتمع ) على ما يعكسه المجاهدون لها عن المجتمع ، لذا فان أي هامش خطأ في عکس ردود الأفعال ، يؤثر في الصور التي ترسمها قيادة الجبهة لبرامجها المرحلية وتكتيكاتها الآنية ، وان هذه الصور المستحدثة تتجاوز تأثيراتها الفعالية الآنية ، فترى بصمات تأثيراتها في قرارات مستقبلية واضحة ، وتبدأ القيادة في حالة تعارض المعلومات المفرزة من معرفتها الوطيدة بالمجتمع ، والمعلومات المنعكسة عبر وجهات نظر المجاهدين ، التفتيش عن آخر ما يمكن اعتماده ، لترجيح كفة ميزان احد الجانبين المتعارضين.
جبهة المقاومة ومجاهدوها
إن جبهة المقاومة لا يسعها عند استعراض مسيرتها ، الا ان تفخر بمجاهديها الذين ضربوا امثلة في التضحية ، يعتز بها ابناء الأمة كافة .
فجبهة المقاومة الاسلامية ومجاهدوها ، استقطبوا منذ إنطلاقتهم الأولى ، احقاد كافة القوى المعادية لسير الامة باتجاه تحقيق اهدافها ، المتمثلة في تحرير الانسان المسلم من السيطرة الاستعمارية ، وإعادته الى مسار الاسلام المحمدي الاصيل ، وان هذا الاستقطاب ، استوجب على المجاهدين خوض معارك ، بُنيت خلالها أُسسٌ غير متزعزعة لصفات الصلابة والمواصلة والتضحية ، ومن جراء خوض المجاهدين المعارك المتواصلة ودون هوادة ، رأيناهم ينضجون بوتائر اسرع مما حسبته السنوات عليهم ، وقد واجه المجاهدون ظروف جهاد متباينة تطلبت منهم خوض المعارك ، بستراتيجيات مختلفة ، منسجمة مع كل ظرف وبتضحيات متنوعة .
ولم يعرف عن المجاهد في جبهة المقاومة ، أي تلكؤ في تقديم التضحيات ، وخاصة أعزها على النفس البشرية ، بل كان من سبيل الامة واهدافها في مختلف الساحات والاوقات ، اوائل المتشرفين بالاستشهاد .. وعبر مشاركة المجاهدين الذين لم يعيشوا فترة التأسيس ، في المعارك الجهادية مع المجاهدين الأوائل ، اكسبهم الصفات الجهادية الصعبة ، وبذلك افرزت تلك المعارك محصلات تفوقت ايجابياتها على أي تضحية قدمتها جبهة المقاومة في تلك المعارك .. ويبقى المطلوب من المجاهدين في جبهة المقاومة التميز ، ما دامت اهدافهم متميزة ، وتمثل اقصى طموح تهدف له الامة الاسلامية الواسعة ، وما دامت الطريق أمامنا طويلة ووعرة ، فلا بد للمجاهد من أن ينفرد ويتميز بسبل مواصلة الجهاد ، وبصيغ تصعيد قدراته في المقاومة والجهاد ، وما دام المتخندقون المعترضون مسار امة الاسلام المحمدي الأصيل في الوصول الى اهدافها بهذه الشراسة ، ويمتلكون ويستخدمون أحدث السبل العلمية في هذا الاعتراض ، يتوجب على جبهة المقاومة الاسلامية ، أن تواصل تصاعد قدراتها للمقاومة والتصدي ، فقرار المقاومة لم يعد قرار المجاهدين الملتحقين بالجبهة فحسب وانما هو قرار الامة بأسرها ...
https://telegram.me/buratha