د.نعمه العبادي ||
يتذكر جيلنا ومن سبقنا، ان مادة اللغة العربية تصبح من الصف الخامس الابتدائي (وربما في أجيال سبقت من مرحلة أبكر) مكونة من عدة أقسام، تتمثل في (المطالعة والنصوص، القواعد، الانشاء، الخط، الاملاء)، وتتكفل كل مفردة من هذه المفردات في تعليم التلميذ جانباً من جوانب اللغة، بما في ذلك تحسين الخط من خلال كراسة خاصة معدة لهذا الغرض.
يقسم علماء اللغة العربية الجمل الى قسمين، الاول: الجملة الفعلية، وهي ما تخبر عن واقع قائم منفصل عنها تم وجوده قبل إنشائها، والثاني: الجملة الانشائية، وهي التي تنشأ الواقع وتوجده، فلا شيء في ارض الواقع قبل النطق بها، ويتشكل الواقع بحسب مضمونها.
فلسفياً، تعد الجملة الانشائية أقوى أثراً في الواقع، وتمثل جملة (كن) التي اقترن بها وجود الخلق بكل تفاصيله، والمنسوبة الى الخالق جل وعلا، الجملة التي اوجدت الواقع بكل تفاصيله، وبها يمكن تصور القيمة العملية للجملة الانشائية، ومن الاخطاء الشائعة وصف الكلام الخالي من الحجة او غير المقنع لسامعه بالكلام الانشائي او النص الانشائي، فالصحيح، القول، ان هذا الكلام لا حجة فيه او انه مجرد رأي او استحسان شخصي، وأما الكلام الانشائي، فله أغراض مهمة، ودواع ضرورية، وهو القسم الأهم في اللغة.
جرت العادة على تكليف التلاميذ والطلاب بكتابة الانشاء في عنوان او اكثر من العناوين التي يختارها المعلم او المدرس، واحيانا يتم الاختيار بالوفاق مع الطلبة، وعادة ما كنا ننجز هذا الواجب في البيت، ونحضره الى المدرسة، وفي بعض الاحيان يصر بعض الاساتذة على كتابة الانشاء داخل الصف خلال المدة المخصصة للدرس، ومما اتذكره فيما يتعلق بدرس الانشاء، اننا كنا نقرأ بشكل فردي وأمام الزملاء ما نكتبه من انشاء، إذ يتم مناقشة كل طالب من قبل الزملاء والاستاذ، وكانت هذه المناقشة وهذه الفعالية من احب الدروس والاوقات الى قلبي، ولطالما احسست بالنشوة والزهو، وانا اقرأ ما اكتبه من مادة انشائية مضمنة بالكثير من الافكار والشواهد واللغة الانيقة، ويدخل الانشاء كمتطلب اساس في اسئلة أمتحانات نصف السنة وآخرها، أبتداءاً الخامس الابتدائي وحتى السادس الاعدادي، كما يتم الاعتماد على الدرجات المثبتة في دفتر الانشاء، والتي يحصل عليها الطالب خلال كتابته في الموضوعات المطلوبة في نشاط درس الانشاء خلال العام الدراسي، والتي على اساسها تقدر درجة الفصل الاول والثاني.
مما لا شك فيه، ان القدرة على الكتابة تعتمد بالدرجة الاساس على الموهبة والخصائص الذاتية، ويطورها وينميها القراءة الواعية، والمحاولات المستمرة للتعلم والاستفادة من الملاحظات، والتدريب المنتج إلا ان هناك قدراً مطلوباً من التعبير عن الافكار والموضوعات، لا مناص من اجادته من قبل كل متعلم بحسب مستوياته، وهذا القدر المشار إليه، ساهم درس الانشاء بصيغته التي عرضتها على تطويره عند المعظم، ومع ان غالب الناس لا تلتفت الى تفاصيل مداخل تعلمها بشكل دقيق إلا ان جميع الاجيال التي اشرت إليها تستطيع تذكر وتفحص مكانة درس الانشاء في تطوير قدراتهم، وتمكينهم من التعبير والكتابة، بل وحتى ادامة التواصل مغ الآخرين.
في ازمنة التسطيح والتجهيل، والتراجع الفكري والعلمي، وكحال الكثير من المعارف، تراجعت كل الفعاليات التي تحث على تطوير الكتابة والابداع وفي مقدمتها درس الانشاء، فلم تعد له مكانة عند الطلبة والاساتذة، وبحسب معلوماتي، يندر تكليف طلبة الدراسة الابتدائية بل وحتى المتوسطة بكتابة موضوعات انشائية جادة، ومع التكليف، فمن المستبعد جدا ان يتم عرض الموضوعات في مناقشات علنية امام الجميع، وهو ما يدفع المعظم الى الاعتماد على سرقة النصوص من الانترنيت او الكتب والمجلات او الاعتماد على شخص آخر في الكتابة.
لم يتوقف التراجع عند هذا الحد، بل ذهب الى ما هو أسوء، إذ يتم تحفيظ الطلبة ( مقدمات او نصوص)، تستخدم في كل انشاء، ومن الغريب، بل والمخجل، ان الاساتذة في الدروس الخصوصية يحفظون الطلبة نصوصا محددة يتم استعمالها في امتحانات البكالوريا، وينال الطلبة عليها درجات عالية، وكأن هذه النصوص مفصلة على كل العناوين والموضوعات، ولهذا يحرص الطلبة على البحث عن انشاء الاستاذ الاكثر قبولا وتوفيقا في الامتحان.
وبمناسبة التعرض لهذا الموضوع اختم الحديث بمجموعة توصيات وهي كالآتي:
١- اعادة درس الانشاء الى مرحلة الخامس الابتدائي على ان تكون كتابته داخل الصف في المراحل من الخامس الابتدائي وحتى الثالث المتوسط، ويمكن المزاوجة بين هذا الاسلوب والواجب البيتي، والاهم مناقشة الموضوعات بشكل علني امام الطلاب والاستفادة من الملاحظات.
٢- الحرص على انتخاب موضوعات متصلة بشكل وثيق بالحياة والمعرفة، والابتعاد عن الخيارات الرتيبة، ومراعاة مدارك الطلبة، وتنويع الخيارات في كل واجب، والحرص على لفت انتباه الطلبة الى الحياة وشؤونها عبر اختيار الموضوعات التي تحفزهم على للتفكير وتدفعهم للبحث والقراءة.
٣- ان الطريقة المثلى في تحسين كتابة الطلبة، تتمثل في تشجيعهم على القراءة ومساعدتهم في خياراتها، ولا بأس بتحفيظ الطلبة بعض الشواهد والامثال والحكم وفي مقدمة ذلك الايات والروايات والعبائر الجذابة لبعض الروائيين والكتاب ليتم تضمينها في الموضوعات والاستفادة منها على ان يتم الابتعاد كليا عن تحفيظ المقدمات والنصوص.
٤- ان الامتحان وخصوصا الامتحانات العامة البكالوريا وسيلة للفحص والاختبار لمدى استيعاب الطالب للمواد والدروس التي اخذها، ولهذا ينبغي ان يكون وضع الاسئلة وطريقة الاختبار موفية بهذا الغرض ( ومع وجود كلام لي طويل الذيل في كل ما يتصل بالامتحانات واهدافها وكيفياتها ليس هنا محله وربما يتسنى لي عرضه في نص خاص به)، اختصر الاشارة الى امتحان الانشاء، والذي ارى فيه وجوب اختيار عناوين جذابة، ومراعية لمستوى المرحلة، وظروف الامتحان، وتتضمن القدرة على فحص كفاءة الطالب، كما يمكن وضع مخصص في كل عنوان يجعل كتابة كل طالب مختلفة عن غيره، فمثلا يمكن اختيار انشاء تحت عنوان ( اكتب عن الجوار مضمنا ذلك تجربتك الاسرية)، وهكذا يكتب كل طالب عن جواره وبيته وخصوصيته، إذ لا بد أن تكون الموضوعات آخذه بعين الاعتبار ظروف الامتحان والوقت المخصص له، لذا يستطيع المصحح الحاذق اكتشاف قدرة الطالب على الكتاب بعيدا عن المقدمات المنمقة والنصوص الجاهزة، بل من الضروري اعتبار المقدمات الجاهزة والنصوص المحفوظة المكررة بمثابة الغش لتجنيب الطلبة من الوقوع في هذا الفخ ودفعهم الى الاعتماد على النفس.
٥- ان ممارسة الانشاء والكتابة امر منتج ومطور للجميع بغض النظر عن كونه متطلبا دراسيا، لذا انصح بممارسته من قبل الجميع.