السيد علي الأكبر الحائري ||
· شمولية الأحكام الإلهية (دراسة نقدية لفكرة تغيّر الأحكام الشرعية وفقاً للظروف الاجتماعية)
الخطوة الثامنة
· مدى تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة
في ضوء الخطوات السابقة يظهر المعنى الذي قصده جملة من علمائنا الأخيار بقولهم أنّ مقتضيات الزمان والمكان قد تؤثّر على الأحكام الشرعيّة.
توضيح ذلك: أنّ تأثير مقتضيات الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة ليس بمعنى أنّ جملة من الأحكام الشرعيّة التي كانت منصبّةً على عناوين كليّة مأخوذة في متعلّقاتها أو موضوعاتها تكون خاصّة بالعناوين الكليّة المناسبة للظروف والملابسات الاجتماعيّة القديمة وماشابهها من ظروف وملابسات، وهي تزول بزوال تلك الظروف والملابسات الاجتماعيّة، وتقوم مقامها أحكام اُخرى منصبّة على عناوين كليّة اُخرى مناسبة للظروف والملابسات الاجتماعيّة الجديدة، كما يستفاد من السيّد الحيدري في المقطع الفيديو الذي انتشر عنه باللغة الفارسيّة، ولعلّه في تصريحات اُخرى صادرة عنه أيضاً .
بل إنّ تأثير مقتضيات الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة إنّما هو بالمعنى المستحصل ممّا عرضناه في الخطوات السابقة في هذا البحث، وحاصله أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعية ينحصر على الحالات الثلاث المشار إليها سابقاً وهي:
الحالة الاُولى: ما إذا كان الشيء المتغيّر بحسب ظروف الزمان والمكان عبارة عن المقدمات والوسائل التي تُتّخذ لتحقيق العناوين الكليّة الدخيلة في الأحكام، بحيث لا تتغير الأحكام حقيقة بتغيّر تلك الأشياء، وإنّما تتغير المقدمات والوسائل فحسب، مثل تغيّر وسائل دفع الأعداء عند مداهمتهم لبلاد المسلمين، أو تغيّر وسيلة الوصول إلى الميقات لأداء أوّل جزءٍ من أعمال الحجّ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تكون من هذا القبيل.
والواقع إنّ مقتضيات ظروف الزمان والمكان في موارد هذه الحالة لا توجب تغيّر الحكم حقيقةً بها وإنّما توجب تغير وسائل امتثال نفس الحكم الصادر من الله تعالى في العصور القديمة، ولكن قد يعبّر عن ذلك بتأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة بشيء من المجاز والتسامح في التعبير.
وأنت ترى أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة بالمقدار المطروح في هذه الحالة لا يبرّر ما يريده السيّد الحيدري من تغيير الأحكام وفق الظروف والملابسات الحديثة في أمثال حكم حجاب المرأة وحكم إرثها وشهادتها ونحو ذلك.
الحالة الثانية: ما إذا كان الشيء المتغير بحسب ظروف الزمان والمكان عبارة عن مصاديق العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام مع بقاء العناوين الكليّة على حالها ومن دون أيّ تصرّفٍ فيها، من قبيل تغيّر مصاديق عنوان (ما يستر به تمام بدن المرأة عدى الوجه والكفّين) الذي هو العنوان الكلّي المأخوذ في حكم الحجاب للمرأة، ومن قبيل تغيّر مصاديق عنوان (الإحسان) الذي هو العنوان الكلّي المأخوذ في جملة من الأحكام، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تكون من هذا القبيل.
ففي موارد هذه الحالة نجد أيضاً أنّ مقتضيات الزمان والمكان لا توجب تغيّر الحكم حقيقةً بها وإنّما تجب تغيّر مصاديق العنوان الكلّي المأخوذ في الحكم مع الحفاظ على أصل العنوان الكلي الذي أخذه الشارع في الحكم في عصر التشريع، ولكن قد يعبّر عن ذلك أيضاً بتأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعية بشيء من المجاز والتسامح في التعبير كما في الحالة السابقة.
وأنت ترى أيضاً أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة بالمقدار المطروح في هذه الحالة لا يبرّر أيضاً ما يريده السيد الحيدري من تغيير أمثال أحكام المرأة.
الحالة الثالثة: التي هي أهمّ الحالات الثلاث عبارة عمّا أشرنا إليه أيضاً في الخطوات السابقة، وهو ما إذا كان الشيء الذي تستدعيه الظروف والملابسات الجديدة قد تحوّل ببركة تلك الظروف إلى المصداقية لعنوانٍ كلّي من العناوين التي عينها الشارع تبارك وتعالى لأحكامه، وذلك من خلال اتصافه ببعض الصفات التي لم يكن متصفاً بها سابقاً، وكانت تلك الصفات دخيلةً في ذلك الحكم الكلّي.
وهذا يعني أنّ هذا الشيء قبل اتّصافه بهذه الصفة الحديثة الدخيلة في حكمه اليوم كان محكوماً بحكم آخر بمقتضى قاعدة (أنّه ما من حادثة إلّا ولله فيها حكم) فما دام هو لم يكن محكوماً بالحكم الذي جرى عليه بعد اتّصافه بتلك الصفة فلابدّ وأن يكون في ذاك العهد محكوماً بحكم آخر غير الحكم الذي جرى عليه بعد اتّصافه بتلك الصفة، فالشيء الواحد كان محكوماً بحكم سابقاً وأصبح محكوماً بحكم آخر بسبب اتصافه بصفةٍ لم يكن متّصفاً بها من قبل، وبما أنّ اتّصافه بتلك الصفة كان منوطاً بظروف زمانية أو مكانيّة معيّنة أمكن القول بأنّ هذا من تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي.
وقد مثّلنا لهذه الحالة بمثالين فيما سبق، والآن اُريد التنبيه على أنّ الأمثلة النظريّة لهذه الحالة قد تكون كثيرة بقطع النظر عن تشخيص مواردها والتأكّد من تحقّقها أو عدم تحقّقها بالفعل في العصر الحديث.
فمثلاً حرمة لباس التشبّه بالكفار، قد تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها اتّصاف لباسٍ واحد بالتشبّه بالكفار تارةً، وعدم اتصافه بذلك تارة اُخرى.
وحرمة استعمال آلات اللهو واللعب، قد تتغيّر بتغير الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها اتّصاف آلة واحدة بكونها من آلات اللهو واللعب تارة، وعدم كونها منها تارة اُخرى.
وحرمة آلة القمار، قد تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها اتصاف آلة واحدة بكونها من آلات القمار تارةً، وعدم كونها منها تارة اُخرى.
إلى غير ذلك من الأمثلة التي يمكن تصويرها نظرياً وقد يتحقّق بعضها حقيقةً في الواقع المعاش.
وهذه الحالة الثالثة يمكن أن نعتبرها من أهم الحالات التي يتمّ فيها تأثير مقتضيات الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة، ولكن لابدّ فيها من التنبيه على اُمور:
أوّلاً: أنّ نتيجة تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي في الحالة المذكورة ليست دائماً بصالح تصحيح مقتضيات الظروف والملابسات الحاصلة في العصر الحديث، بل قد تكون منافية ومضادّة لذلك، فمثلاً عندما تتوجّه الظروف والملابسات في العصر الحديث نحو شياع المقامرة بآلةٍ معيّنة، تصبح تلك الآلة محرّمةً شرعاً لاتصافها بصفة كونها من آلات القمار بعد أن لم تكن متّصفة بهذه الصفة في العصور القديمة فكان حكمها الجواز سابقاً، فإن نتيجة تبدّل حكم هذه الأدلّة باختلاف حالها في هذه الصفة ليست بصالح تصحيح مقتضى الظروف والملابسات الحاصلة في العصر الحديث.
فالميزان في تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي في الحالة المذكورة يدور مدار تحقّق الصفة الدخيلة في الموضوع الكلي المأخوذ في الحكم سلباً وإيجاباً، سواء كان الحكم الجديد الحاصل بتبدّل حال تلك الصفة في صالح مقتضيات الظروف والملابسات الحديثة في العصر الجديد، أو كان منافياً ومضادّاً لها.
وهذا يعني أنّنا يجب أن لا نتوقّع دائماً إمكان تصحيح مقتضيات الظروف والملابسات الحاصلة في العصر الحديث بما ذكر في هذه الحالة.
ثانياً: إنّ الحالة المذكورة لتأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي لا تختصّ بموارد تغيّر الظروف والملابسات العامّة في المجتمع في زمانٍ حديث أو في مكان معيّن، بل إنّ هذه الحالة تحصل عند تبدّل الشيء الخارجي من كونه موضوعاً لحكمٍ إلى كونه موضوعاً لحكم آخر بسبب تبدّل صفةٍ فيه دخيلةٍ سلباً وإيجاباً في العنوان الكلي المأخوذ في ذينك الحكمين، حتى وإن كان ذلك من باب الصدفة في شيء معيّن من دون وقوع تغيّرٍ في الظروف والملابسات العامّة في المجتمع، ولهذا يمثّلون للحالة المذكورة بمثال تبدّل الخمر إلى الخلّ أو تبدّل الميتة إلى التراب أو نحو ذلك، رغم عدم وجود علاقة لهذه الأمثلة بالظروف والملابسات العامّة في المجتمع.
وهذا ممّا يؤيّد أيضاً ما قلناه من أنّ فكرة تدخّل الزمان والمكان في الحكم الشرعي ليست ذات علاقة دائماً بمقتضيات الظروف والملابسات العامّة.
ثالثاً: إنّ كون صفةٍ معيّنة دخيلةً في العنوان الكلّي المأخوذ في حكمٍ من الأحكام سلباً وإيجاباً بحاجة إلى دليل إثباتي، ولا يمكن البناء على تبدّل الحكم بتبدّل صفةٍ من الصفات إلّا بعد إثبات كون تلك الصفة دخيلةً في العنوان الكلّي المأخوذ في ذلك الحكم سلباً وإيجاباً، ولا يجوز البناء على دخالتها في ذلك جزافاً واعتباطاً، أو لمجرّد كون تلك الصفة مناسبة للظروف والملابسات العصرية، بل لابدّ من إثبات ذلك بحسب الموازين الشرعيّة الصحيحة لاستنباط الحكم الشرعي في عصر الغيبة، كما ثبتت دخالة صفة (الإعداد للقمار) مثلاً في العنوان الكلي المأخوذ في حرمة آلات القمار، وكما ثبتت دخالة صفة (التشبّه بالكفّار) مثلاً في العنوان الكلي المأخوذ في حرمة اللباس، وإلى غير ذلك. وأمّا صفة (التناسب أو عدم التناسب لمقتضيات الظروف والملابسات الشائعة في العصر الحديث) فهي ممّا لا يمكن إثبات دخالتها في العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام ـ كما في حكم حجاب المرأة ، أو حكم كون سهم الاُنثى بقدر نصف سهم الذكر في الإرث، أو حكم كون شهادة إمرأتين معادلةً لشهادة رجل واحد، او نحو ذلك من الأحكام ـ فإنّ الموازين الشرعيّة الصحيحة لاستنباط الحكم الشرعي في عصر الغيبة لا تساعد على إثبات دخالة الصفة المذكورة في العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام.
وبمجموع الاُمور الثلاثة التي نبّهنا عليها يظهر أنّ فكرة تدخّل الزمان والمكان في الأحكام لا يمكن التمسّك بها في أكثر الأحكام الشرعيّة لإثبات اختصاص الحكم بالظروف المشابهة لظروف تشريعها وعدم جريانها في الظروف والملابسات الجديدة في العصر الحديث.
ـــــــ
https://telegram.me/buratha