خالد جاسم الفرطوسي ||
أدناه نبذة مختصرة عن تصورات الفيزيائيين القديمة والوسطى والحديثة حول الكون ومنشأه قمنا باختصارها وتهذيبها من عدة كتب اهتمت بهذا الموضوع، لنذكر الموقف منها بعد ذلك:
1- التصورات القديمة بنظر الفيزيائيين:
ظل الماديون طوال قرون في تردد بالنسبة لأزلية المادة، فقد ظنوها بادئ الأمر هذه النجوم والكواكب الضخمة التي يشاهدونها، لأنها بحسب ما يظن بقيت على حالها التي عرفها آباؤنا وأجدادنا وكل البشر قبلهم، وما المانع من أن تظل هكذا إلى الأبد؟! وإذا كانت أزلية فإنها لا تحتاج إلى خالق..
وقد كان المفكرون المتدينون فيما مضى يجهدون أنفسهم في استخراج الأدلة العقلية على بطلان هذه الفكرة، ولكن العلم في تطوره اكتشف أن هذه العناصر هي بدورها مركبة من ذرات... فهل الأزلي هو هذه الذرات؟!
2- الفيزياء الكلاسيكية:
في هذه الفترة جاء نيوتن فكان تصوره كتصور المسلمين بالنسبة للذرة من حيث اعتقاده أن الله تعالى هو الذي خلقها وقدر ما يتعلق بها، فهو يقول في كتابه {البصريات ص400}: (بعد أخذ كل هذه الأشياء في الاعتبار، يبدو لي من المحتمل أن الله كوَّن المادة في بداية الأمر في شكل جزئيات مصمتة، كتلية، صلبة، لا تخترق، وقابلة للتحرك، وفي أحجام وهيئات وبخصائص أخرى، ومقادير بالنسبة إلى الفضاء، هي في غاية الملائمة للهدف الذي من أجله كوَّنها).
فليس إذاً حتى في فيزياء نيوتن ما يثبت أن الذرات التي تتكون منها المادة أزلية، وإنما القول بأزليتها كان مجرد افتراض لم يلبث تطورُ علم الفيزياء أن أبطله كما سيتبين لدينا لاحقاً بعونه تعالى.
3- الفيزياء الحديثة:
هل الذرة هي المادة الأزلية؟ كلا! فقد أبطل تطور علم الفيزياء هذا الظن أيضاً، إذ قد تبين أن الذرة نفسها مركبة من أجزاء أخرى عرفنا منها أولاً (الالكترون والنيوترون والبروتون)، ثم تبين أن هذه المكونات هي نفسها مركبة من أجزاء، آخر ما عرفه الفيزيائيون منها هو ما يسمى ب(الكوارك).
قد يقول قائل: وإذاً فقد وصلنا أخيراً إلى المادة الأزلية، إلى الجزء الذي لا يتجزأ: إنه هذه الكواركات..
والرد على هذا من ناحيتين:
أولاً/ أنه قول بغير علم، إذ ليس في هذه الكواركات ما يدل على أزليتها، وعدم تكوّنها هي الأخرى من أجزاء أصغر منها.
ثانياً/ إذا كان الشيء أزلياً لا بداية له فهو بالضرورة مستغنٍ عن غيره. أعني أنه لا يعتمد في وجوده ولا استمرار وجوده على غيره.
وإذا كان الشيء قائماً بنفسه مستغنياً في وجوده عن غيره فإنه لا يفنى ولا يتغير ولا يتبدل.
فماذا نقول عن آخر أجزاء الذرة التي وصلنا إليها حتى الآن؟!
إن العلم كما قلنا لم يثبت بعد أن لها مكونات، ولكنه أثبت ما هو بالنسبة لموضوعنا أهم من ذلك، لقد أثبت أن هذه الأجزاء قابلة لأن تتحول إلى طاقة، وأن الطاقة نفسها قابلة لأن تتحول إلى مادة، فما نسميه مادة كالهيدروجين مثلاً وما نسميه طاقة كالضوء هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة كما بيَّن إينشتاين في معادلته الشهيرة: أي أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.
وهكذا تبين أن قابلية التحول هذه تعني أن بقاء المادة في هيئتها المعينة كان معتمداً على ظروف خارجة عن ذاتها، فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة، وإذاً فهي ليست معتمدة في وجودها على نفسها، وعليه فقد استحال أن تكون أزلية.
إذاً فالمادة في كل شكل من أشكالها المعينة قابلة للفناء، فهي إذاً حادثة.
ولنقرب ذلك للأذهان بصورة أدق وأوضح نقول:
إذا قلت لإنسان له المام بعلم الكيمياء والفيزياء أن المادة تفنى، وضربت له مثلاً على ذلك بموته هو مثلاُ..
قد يجيبك على الفور:- انني لم افن، وانما تحولت إلى مواد أخرى.
فإذا قلت له:- ولكن هذه المواد الأخرى تفنى.
قال محتجاً:- ولكنها هي بدورها تتحول إلى مواد أخرى.
وهكذا يضل مستمسكاً برأيه بأن هنالك وراء كل هذا مادة لا تفنى..
وللتوضيح أكثر نأتي بالمثال الآخر:-
هب أنه مات لأم طفلها، فهل يعزيها أن تقول لها أن ابنكِ لم ينته ولم يفن وإنما تحول إلى مادة أخرى ؟ بالطبع لا..
لماذا ؟ لأن الذي فقدته واسيت على فقده هو مادة في صورة معينة وخصائص معينة، ومما لا شك فيه أن هذه المادة – إذا افترضنا جدلاً أن الإنسان مادة فحسب – قد فنيت وانتهت.
وما يقال عن الإنسان يقال عن كل مادة مُعينة أخرى، فكل مادة في شكل مُعيَّن لها خصائص تعرف بها، فإذا تحللت وتحولت زالت هذه الخصائص، فزالت بزوالها تلك المادة التي كنا نعرفها.
وعليه فالمادة تفنى وتستحدث. ومن كان يتصف بذلك فهو محتاج إلى غيره، ومن كان محتاجاً لغيره احتاج في وجوده للغير، وذلك ينتهي بنا إلى القول بالتسلسل أو الدور وهما باطلان عقلاً ولا يبقى غير القول بوجود واجب الوجود وهو المطلوب.
ـــــ
https://telegram.me/buratha