د.علي المؤمن ||
يعدّ الفقيه والمفكر الشيعي العراقي السيد محمد باقر الصدر (1935 - 1980) أول فقيه شيعي يقنن أحكام الفقه السياسي الإسلامي، ويحولها إلى أسس دستور دولة إسلامية خارج المحددات القانونية الوطنية في عصر غيبة الإمام المهدي (وفق عقيدة مدرسة الإمامة). وتتسع هذه الأسس لمشروع تحرك إسلامي يهدف إلى تأسيس دولة إسلامية أيضاً.
وقد وضع السيد الصدر هذه الأسس لتكون النظرية الفقهية الفكرية السياسية لحزب الدعوة الإسلامية الذي كان الصدر أبرز مؤسسيه العشرة في العام 1957(1)، وتتألف من (31) أساساً، نشر منها حزب الدعوة تسعة أسس فقط. وهذه الأسس هي مجموعة من القواعد والمفاهيم الإسلامية المقننة التي كُتبت بلغة هي إلى لغة القانون أقرب، وقُرنت بما يثبت شرعيتها من أدلة فقهية تفصيلية مشروعة. وتأتي أهمية هذه الأسس من ناحية فقهية، وكذلك من ناحية قانونية من أنها أول مجموعة أصول للدستور الإسلامي، إذ لم يعهد - قبلها - أن وضعت أصول للدستور الإسلامي؛ ذلك أن الدول الإسلامية المتعاقبة على مديات التاريخ الإسلامي لم يدوّن فيها دستور إسلامي، فضلاً عن وضع أسس له وتدوينها، فلم نعثر في الوثائق السياسية(2).
وهذه الأسس هي قواعد وأصول نظرية حزب الدعوة للدولة الإسلامية التي يهدف إلى إقامتها؛ فالدعوة كما يقول المفكر السعودي الدكتور عبد الهادي الفضلي «كان أهم هدف لها - آنذاك - هو إقامة الحكم الإسلامي في العراق، والحكم لابد له من دستور، وأنظمة تنبثق عن الدستور. ومن الطبيعي أن الدستور الإسلامي يتطلب وضع أصول تعتمد في وضعه، ويستند إليها المقننون له حال وضعه، فكان لابد من البدء بها أولا ثم يأتي دور وضع الدستور. فالدعوة - في ضوء ما أشرت إليه - كانت بحاجة إلى الدستور، وكان هذا يقتضي أن يسبق بوضع الأسس له»(3).
وقد وضع السيد محمد باقر الصدر هذه الأصول لتكون قمة هرم المنظومة التي نظّر وأصّل لها؛ فهي تسبق نشاة الدستور نفسه، وتعرف بـ "قبليات الدستور". أما الدستور فيمثل إطار منظومات القوانين التفصيلية للدولة. وبرغم أهمية هذه الأصول والقواعد بصفتها التأسيسية التي تشكل منعطفاً في مسيرة الفقه السياسي الإسلامي الشيعي، وقِدمها الذي يعود إلى العام 1959؛ إلّا أنها لم تحظ بالأهمية التي حظيت بها المحاولات التي سبقتها أو أعقبتها لمفكرين وفقهاء شيعة وسنة. والسبب يعود إلى أن هذه الأسس ظلت حبيسة النشرات الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية، الذي عاش سرية في فكره الخاص وتنظيماته حتى العام 1979(4). ولم تخرج هذه الأسس إلى العلن إلّا في العام 1974، وبشكل محدود في كتاب «مقالات إسلامية» الذي طبعه الحزب في لبنان، وهو كتاب يحتوي على عدد من النشرات الفكرية الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية، وقد كتبت بأقلام عدد من مفكري الحزب ومنظرية. وبالتالي؛ لم تحمل تلك الأصول والقواعد اسم السيد محمد باقر الصدر، ولكنها نشرت باسمه في العام 1981 في الجزء الأول من مجموعة «ثقافة حزب الدعوة الإسلامية».
وقد استند السيد محمد باقر الصدر في الأسس النظرية الدستورية المذكورة الى مبدإ الشورى في قيادة حزب الدعوة للعمل الإسلامي ومشروع الدولة الإسلامية؛ بناء على ما كان يعتقده من دلالة آية ((وأمرهم شورى بينهم))(5) على الشورى في الحكم وفي إدارة الدولة الإسلامية. ولكنه عدل عن رأيه الفقهي المبني على الشورى فيما بعد، وتوصل في العام 1979 إلى رأيه الفقهي النهائي الذي بيّنه في أطروحة دستورية تجديدية رائدة؛ جمع فيها بين مبدإ الشورى في الحكم وولاية الفقيه، والتي تتلخص في كون الأمة تمثل خط خلافة الله على الأرض، وأن الفقيه (الولي في عصر الغيبة) يمثل خط الشهادة على الأمة، وحين تنتخب الأمةُ الفقيهَ لولايتها ورئاسة الدولة؛ ينتج عنه لقاء بين خط الخلافة وخط الشهادة، وبه تتجسد شرعية الدولة الإسلامية ومشروعية سلطتها. وقد حملت أطروحته هذه عنوان: «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية». وفصّلها في دراسة أخرى حملت عنوان: «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء».
وقد قدّم السيد محمد باقر الصدر هذه الأطروحة إلى الإمام الخميني في خضم النقاش الذي كان حامياً في إيران وكثير من البلدان الإسلامية حول مسودة دستور الجمهورية الإسلامية. فجاءت أطروحة السيد الصدر داعماً أساسياً لنظرية الإمام الخميني بشأن الدستور الإسلامي وقبلياته وأصوله، وفي تثبيت مبدإ ولاية الفقيه في الدستور؛ إذ أصّل الصدر في أطروحته لأهمية الدستور وموقعه في النظام القانوني للدولة الإسلامية، ودور الولي الفقيه الذي تختاره الأمة في قيادة الدولة ونظامها السياسي، وموقع الشريعة الإسلامية في عملية وضع المنظومات القانونية للدولة.
وفي المقدمة النظرية التأسيسية للدستور، ربط السيد الصدر بين إرادة الشعب الإيراني في اختيار الإسلام وتحكيم شريعته، وبين نوعية الدستور الذي ينبغي أن تنشأه هذه الإرادة. أي أن الدستور الإسلامي ينبغي أن يمثل خيار الشعب عن وعي وقناعة وانتماء، ولايفرض عليه فرضاً من أية سلطة. وهو ماتحقق بالفعل خلال مرحلتين:
الأولى: هي التي صوّت فيها الشعب الإيراني على خيار «الجمهورية الإسلامية» في الإستفتاء العام.
الثانية: حين صّوت الشعب الإيراني على الدستور نفسه بعد أن أقرّه مجلس الخبراء، واشترك الشعب لأكثر من ستة أشهر في مناقشة مواده.
ولذلك يقول السيد الصدر: «يؤمن الشعب الإيراني العظيم إيماناً مطلقاً بالإسلام بوصفه الشريعة التي يجب أن تقام على أساسها الحياة، وبالمرجعية المجاهدة بوصفها الزعامة الرشيدة التي قادت هذا الشعب. وعلى أساس هذا الإيمان يقرر الأمور التالية:
1 - إن الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً. ومادام الله تعالى هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي أن تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية.
2 - إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية، وذلك على النحو التالي:
أ - إن أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور؛ سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.
ب - إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.
ت - في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو ايجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور.
3 - ان السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور.
4 - إن المرجعية الرشيدة هي المعبر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية، وعلى هذا الأساس يتولى ما يلي:
أ - إن المرجع هو المثل الأعلى للدولة والقائد الأعلى للجيش.
ب - المرجع هو الذي يرشح أو يمضي ترشيح الفرد أو الأفراد الذين يتقدمون للفوز بمنصب رئاسة السلطة التنفيذية. ويعتبر الترشيح من المرجع تأكيداً على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور، وتوكيلاً له على تقدير فوزه في الانتخاب، لاسباغ مزيد من القدسية والشرعية عليه كحاكم.
ت - على المرجعية تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.
ث - عليها البت في دستورية القوانين التي يعينها مجلس أهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ.
وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط، يعود إلى الأمة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام»(6).
وقد وردت أغلب أفكار السيد الصدر في الدستور الإسلامي الإيراني؛ بعد أن اعتمدها مجلس خبراء الدستور باعتبارها أحد مصادره الأساسية في بناء الهيكل العام لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ إذ يقول الباحث الأمريكي «هراير دكمجيان» بأن آية الله الصدر يعد «أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية، وأن آراءه الفكرية والسياسية عملت بشدة على تقوية موقع آية الله الخميني فيما يتعلق بمنصبه كفقيه للحكومة الإسلامية»(7).
ويدافع الدكتور عبد الهادي الفضلي، وهو أحد مفكري حزب الدعوة الإسلامية خلال ستينات القرن الميلادي الماضي، عن خيار الدستور الإسلامي، ويؤكد ضرورة التأسيس لعلم أصول الدستور الإسلامي، ويقصد به القانون الدستوري الإسلامي؛ إذ يقول: «وحيث لم يكن هناك لدى المسلمين التفكير في تدوين دستور إسلامي للدولة الإسلامية القائمة خلال المدة الممتدة من القرن الأول الإسلامي وحتى عصرنا هذا للأسباب التي أشرت إليها، لم يكن لدينا ما يماثل أصول القانون. أما الآن وقد وضع أكثر من دستور إسلامي لأكثر من دولة إسلامية... أصبحت الحاجة ماسة لوضع علم لأصول الدستور الإسلامي تكون هذه الأسس الإسلامية مركزه ومحوره الذي تدور حوله وتنطلق منه، ليأخذ هذا العلم مكانة ومكانته في مجالات وحقول الدراسات القانونية»(8).
وتتطابق نظرية حزب الدعوة الإسلامية في موضوع الدستور مع رأي مؤسسه السيد محمد باقر الصدر؛ حتى بعد العدول عن رأيه في مبدإ الشورى؛ إذ تبنى الحزب نظرية الصدر التي لخّصها في دراسته عن «دستور الجمهورية الإسلامية» ودراسة «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». ويذهب حزب الدعوة في إحدى نشراته الفكرية الصادرة في العام 1980 إلى أن ما يقصده بالدستور الإسلامي «يشمل ما يلي:
أولاً: التصورات والقوانين العامة التي تشخص الإطار العام للقوانين الحاكمة في الدولة الإسلامية، والتي لها قابلية الثبات؛ أما إلى الأبد؛ على أساس أنها من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، أو إلى أمد معتد به؛ على ضوء الظروف المنظورة، على أساس أنها وإن كانت من منطقة الفراغ التي تملأ وفق الظروف؛ ولكن لوحظت في ملئها ظروف طويلة.
ثانياً: المقررات الهامة الثابتة؛ حتى لو أنها لم تكن تعين الإطار العام؛ كلون العلم وأمثال ذلك.
كما نصطلح بالقانون على كل ما يوضع من قوانين لاتمتلك الصفة الدستورية الآنفة. وكل مادة من مواد الدستور أو القانون لايمكن الإستغناء في تحديدها عن آراء الفقهاء؛ يجب أن توضع من قبل الفقيه»(9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) المؤمن، علي، «جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي»، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017، ص87.
(2) الفضلي، د. عبد الهادي، «هكذا قرأتهم»، ج2 ص216.
(3) المصدر السابق، ص218.
(4) المؤمن، علي، «سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، ط4، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017، ص289. (5) سورة الشورى، الآية 38.
(6) الصدر، السيد محمد باقر، «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية»، من كتاب «الإسلام يقود الحياة»، ص11.
(7) انظر: دكمجيان، هراير، «الأصوليات الإسلامية في العالم العربي»، ترجمة: عبدالله الواحد سعيد، دار الوفاء، المنصورة، 1989، ص146 - 148.
(8) الفضلي، الشيخ عبد الهادي، «هكذا قرأتهم»، ص224.
(9) صوت الدعوة (النشرة الفكرية الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية)، العدد 32، شوال 1400 (آب 1980).
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha