محمد مكي آل عيسى
شبهة فكرية من أقوى الشبهات التي تثار بين الحين والآخر يعترض فيها المعترضون وتتكاثر الأقاويل بشأنها ولا تلبث أن تهدأ حتى تثار مرة أخرى لسبب أو لآخر.
تتعلق هذه الشبهة بشخصيات ربما تكون مبدعة أو معطاءة في مجالات معينة كأن تكون علمية أو فنية أو أدبية وتقدم عطاءاً انسانياً غزيراً لكنها في نفس الوقت تفتقر للإيمان بالله تعالى أو تكون معلنة إلحادها وعدم التزامها بأي دين ناكرة لحكم السماء.
مثل هذه الشخصيات تكون مثار الجدل بين المؤمن الذي ينظر لها أنها كافرة برب السماوات والأرض لا تستحق الثناء ولا تستحق السعادة الأخروية وبين غير الملتزم الذي يراها شخصية معطاءة أعطت الكثير من الخير والفائدة للناس فهي أحق بالثناء وأحق بالفضل وأحق بالسعادة الأخروية بل ويعتبرها رمزاً إنسانياً يحتذى به.
ويبقى الجدل دائراً بين الطرفين كل ينظر بمنظاره . .
أما الفكر الإسلامي فإنه يتناول الأمر بدقة عالية وبنظرة عميقة ليصل الى القول الحق في ذلك ويثبت لنا قواعد الفكر الصحيح للتعامل مع هذه القضايا.
فهنا يبين لنا الإسلام أنه لا يهتم بحسن الفعل بقدر ما يهتم بحسن الفاعل الذي صدر منه الفعل . . يعني إذا ظهر فعلٌ جميلٌ حسنٌ من فلانٍ من الناس فإن المهمَّ في الإسلام أن يكون فلانٌ هذا حسناً أيضا وليس فعله فقط . . يعني أن الإسلام هنا يفرّق بين الفعل والفاعل !!
فربما يكون الفعل حسناً جميلاً فنثني عليه حين نراه لكن المحتوى الداخلي لنفس الإنسان الذي يفعله غير حسن ..
فمثلاً رأينا زيداً من الناس يقوم بتوزيع الأموال على المحتاجين . . هذا العمل عمل خير, وعمل حسن ويحبه الله , لكن ما يحبه الله أكثر وما يؤكّد عليه الإسلام هو نية زيد , غاية زيد من توزيع هذه الأموال , فإذا كانت نيته سليمة يبتغي وجه الله ويرى أن للضعيف حقاً في ماله وعليه أن يعطي هذه الأموال , كان هنا المحتوى النفسي الداخلي لزيد محتوى حسناً طيباً ودوافع زيد للعطاء دوافع مشروعة , هنا تحقق مراد الإسلام في بناء نفس زيد وتزكيتها لتكون نفساً خالصة طاهرة مرضية.
أما إذا كان توزيع زيد للأموال يستبطن غاية غير مشروعة ويستبطن نيّة غير سليمة فإن الإسلام لا يرغب بعطاء زيد هذا لأن دوافعه خبيثة مهما كان حجم هذا العطاء ومهما ترتب عليه من أثر وأن نفس زيد هنا نفس غير طيبة غير حسنة.
نعم فالإسلام نبّه الى أن العطاء الإنساني مهما كان غزيراً ومهماً فإنه من غير الدوافع الشريفة يُعد قنبلة قد تدمّر البشرية في أي وقت . . وقد لمسنا فعلاً أن العطاء العلمي لكثير من العلماء والباحثين قد تحوّل الى قنابل نووية وإلى أسلحة بايولوجية جرّت العالم الى الويلات لأن العطاء العلمي هذا كان لايمتلك الدوافع الشريفة والنوايا الحسنة.
لذا نجد أن الإسلام العزيز مدح مواقف معينة وأثنى عليها بسبب النية الخالصة لفاعليها مع أنها بسيطة ظاهراً . .
ففي القرآن مع أن عطاء أهل البيت ع كان مجرّد أرغفة من الخبز والتي لا يكون ثمنها باهضاً على الأغلب نجد أن نصّاً قرآنياً جاء مادحاً هذا الفعل لأنه كان خالصاً لوجهه تعالى لا تتحدد حدوده بالمصالح الدنيوية { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } .
وهنا قد يتساءل أحدنا قائلاً وكيف أعلم بالنوايا ؟؟ نحن نرى الأفعال فحسب والنوايا في النفوس لا يعلمها إلّا الله !!
وهذا حق . . نحن نرى ظاهر الفعل لا نرى الدوافع والنوايا فكيف سنحكم ؟. .
واقعاً نحن لا نستطيع الحكم إلّا من خلال ما يصرّح به الفاعل بنفسه من أسسه الإعتقادية التي يبني عليها رؤيته الكونية , فإذا وجدنا الفاعل لا يؤمن بالدار الآخرة لا يؤمن بالله . . علمنا أن أهدافه لابد أن تكون محددة بالحياة الدنيا لأنه لا يؤمن بالآخرة أصلاً , ومن تكون أهدافه محددة بالحياة الدنيا لايمكن أن يكون رمزاً إنسانياً لأن حدود الإنسانية لا تتحدد بحدود الدنيا الدنيّة وظهرت لنا دوافعه ونيته من خلال معتقده.
فإذا كان الفاعل أصلاً لا يؤمن بالدار الآخرة معناه أنه لم يسعَ لها أصلاً فكيف نرجو له السعادة فيها ؟!
وهذا ما يحاول أعداء الإنسانية ترويجه . . فما إن ظهر عطاءٌ لأحدهم حتى قامت ماكنتهم الإعلامية الضخمة بالترويج له وإبرازه كمتفضل على الإنسانية طارحة لشخصه كرمز للإنسانية من دون النظر لدوافعه ونواياه التي غالباً ما تكون مادية دنيوية بحتة إن لم تكن خبيثة مدمّرة , لتشويه الصورة الحقيقية للرموز الإنسانية الفعلية ولتدمير محتوى الفرد فلا يميز بين هذا وذاك .
فينبري الفكر الإسلامي ليحافظ على الفرد المسلم بأن لا يكون ساذجاً إلى حد الإنخداع بما يطرح أمامه من نماذج تحاول أن تكون رموزاً للإنسانية مع بعدها الشديد عنها.
ويشجع المسلم أن يبذل ما يستطيع من العطاء العلمي والفكري والإنساني محافظاً على نظافة محتواه وطيب نيته وحسن دوافعه من خلال ربطه بالعالم الأخروي السامي الذي لا حدود له.
كما ويقدّم الإسلام للفرد نماذج إنسانية حقيقية بكل أبعادها متمثلة بالمبعوث رحمة للعالمين وآله الطاهرين ليكونوا هم الأسوة الذين تتمثل الإنسانية في كل نواحي وجودهم لا من جهة واحدة فحسب.
فنيوتن وأديسون وآينشتاين و. . و . . وكثير من العلماء والباحثين والأطباء قد قدموا خدمات جليلة للبشرية جمعاء بل أن منهم من فقد روحه في هذا المجال . . هؤلاء فعلهم حسن خير أفادوا به الناس . . فإذا كانوا قد عملوه لآخرةٍ يرجونها فعملهم لن يضيع أما إذا لم يعترفوا بآخرة , وكان نظرهم لا يتعدى حدود الدنيا فإن مايرجونه أيضاً سيبقى محدداً بحدود الدنيا وفقاً لدوافعهم ونواياهم , كما أنهم ليسوا رموزاً للإنسانية لأننا لم نرَ سوى جانباً واحداً منهم , والرمز الإنساني لابد أن يكون متكاملاً في إنسانيته من جميع النواحي ويمكن أن نعتبرهم رمزاً لما أبدعوا به فحسب , كما صار أخو طيٍّ رمزاً للكرم لا رمزاً للإنسانية.
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha