د. علي العمار
في العقود القليلة الماضية نشأت أدبيات جديدة نوع ما حول العديد من مسائل النمو الإقليمي أو التنمية الاقتصادية المكانية وعلى المستويات (الحضرية والاقليمية) ولما بعد الأحداث الصادمة والتي تشتمل على الأحداث قصيرة الأجل مثل الكوارث الطبيعية كالعواصف والفيضانات والزلازل والاوبئة ، فضلا عن الحوادث البشرية التي تنشأ عن التلوث جراء التوسع والافراط بالصناعات الملوثة او تلك الناشئة عن وسائط النقل وغيرها, وكذلك الأحداث طويلة الأجل والتي هي في معظمها تلك التي تكون من صنع البشر وتشتمل هذه ( الصراعات والحروب والحوادث النووية مثلا) مسالة تحليلاتها ستستغرق فترات انتعاش طويلة نظرا لحجم الاثر.
ان الدراسات التي تعالج الأحداث قصيرة الأجل وهي قضايا محدودة ستكون ذات صلة وثيقة باستئناف النمو بسرعة لما لها اثر في حياة الناس، في حين أن الدراسات التي تعالج الأحداث طويلة الأمد تميل إلى أن تكون أكثر التكهنات لها تتعلق , حول الإمكانيات المتاحة في المناطق المتأثرة والتي يتطلب استئناف مسارات التنمية فيها وقتا طويل نسبيا, الا اننا ومن باب عدم التحيز العلمي نجد ان كلا النوعين من الأحداث مناسبان للغاية للدراسة والتحليل وخصوصا على مستوى البلدان التي تعاني الامرين كحالة العراق مثلا,,,!!!
فعلى الرغم من وجود أدبيات سابقة، بما في ذلك الكثير من دراسات الإدارة البيئية والأخطار الطبيعية ، مثال ذلك دراسة تحليل آثار الأعاصير ( كدراسة اعصار أندرو في جنوب فلوريدا ) من قبل ولينزي واخرون (1994) والذي لا يزال معلما من بين مجموعة الدراسات الحقيقية قصيرة الأجل للأحداث, حيث ان هؤلاء الكتاب قدموا خدمة كبيرة وجليلة من خلال تسليط الضوء على العديد من المشاكل المفاهيمية والاجرائية والتي ترتبط بتقدير مثل هذه الأحداث والتي لم يعرف مدى الكارثة المترتبة عنها بسرعة؛ حيث لا تقتصر الآثار المدمرة على قطاع او نشاط واحد أو عدد قليل من القطاعات؛ بل تتأثر كثير من الموضوعات فيه , والتي لها صلة بالعرض والطلب ؛فمثلا قضايا مثل (توزيع الثروة على مستوى المحافظات العراقية ) ستؤثر على طبيعة وتوقيت الانتعاش المكاني؛ وأخيرا، يمكن ان يكون للمواقف المجتمعية من شركاء التنمية المحلية أو الإقليمية دورا مهما في ذلك ايضا ولكن الاهم في ذلك كيف ستمكنهم من ذلك وهو الاهم .
كما ان بعض الانشطة الاقتصادية والخدمية التي تتعلق بحجم المشكلة يجب ان تخضع الى اعادة نظر في الادارة وفي تحديد صلاحياتها فهناك قرارات مركزية يجب ان تيقى كذلك وخصوصا ما يتعلق الامر بها مثل الامن والصحة والاقتصاد مع اعتماد التدرج في ذلك وخصوصا في اتخاذ القرارات الحاسمة بشأن مسارات الانتعاش , وكذلك في مسألة تحديد الأضرار الجسيمة التي لحقت بقطاعات مهمة وبشكل مباشر كقطاع الصحة والخدمات المرتبطة بها والتي يجب ان تتعرض بالكثير من دراسات البحث والتحليل والنقد الموضوعي وكذلك في ضمان المحاسبة في ذلك كضمان للشفافية في البحوث المقترحة وللإجابة على العديد من التساؤلات , والمحددة بمشاكل التقدير على المدى القصير ومنها:
- هل سيستنزف الناس مدخراتهم لتكملة التأمين الصحي واين دور الحكومات المحلية وحكومة الاقليم في تلبية ذلك؟
- هل سيميل الناس المتضررين من المشكلات الصادمة للحل من طرق اخرى ؟
- هل ببساطة سيهاجر الناس إلى اماكن اخرى اكثر استقرارا واكثر تطور في مستويات الخدمة الصحية والبيئة ؟
وكما قام العديد من المؤلفين والباحثين بإعمال مثيرة للإعجاب عن كيفية تطويع النماذج الإقليمية في التقليل من حجم المشكلات المكانية واثارها اللاحقة للوصول الى تحليل لواقع المجتمعات لما بعد المشكلة فأننا نجد ان الموضوع سيكون مهم في الوقت الحاضر على وفق التحليل التالي:
اننا في واقع الحال الحالي نجد ابتداء ان هذا هو الوقت الملائم جدا في البحث عن مجالات جيدة للبحث حيث اننا نبحث في الاسس المنطقية لعالم ما بعد الجائحة , بحيث ان العلماء والمخططين الإقليميين وبما يمتلكونه من مهارات علمية مختلفة في التحليل الاقتصادي للمكان وخصوصا وفق التحليل الاستراتيجي المبني على واقع ومؤشرات حقيقية جدا يمكن لها أن تقدم مساهمات كبيرة في هذا التصور القادم للعالم , ويمكن للأشخاص المهتمين بالتنمية الاقتصادية المكانية من مخططين او متخذي قرارات او حتى اولئك الذين يهتمون بمسألة المفاضلة الاستثمارية للنشاط الاقتصادي لما بين الأقاليم ان يحددوا اكثر المناطق جذبا للنشاط او تلك التي يرجح لها أن تتأثر بحدث كبير كالوباء او الجائحة ؛ كما يمكن للأشخاص المهتمين بمواضيع مثل الاستثمار في مشروعات مثل مشاريع الإسكان او التصنيع ولأي اتجاه صناعي يتجهون , من تقدير فيما إذا كانت طبيعة ومواقع او نوع الصناعات ستتغير بعد الحدث الوبائي؛ في حين أن المهتمين بدراسة تطوير رأس المال الاجتماعي وحتى موضوع الإحساس بالمكان يمكنهم ايضا البحث في قياس مدى استجابة المجتمعات أو مناطق معينة لتلك الأحداث الصادمة.
في جامعة جنوب كاليفورنيا مثلا, تم دراسة العديد من الدراسات المماثلة ، والتي تركز على الكوارث الطبيعية والتهديدات الإرهابية منها دراسة شاملة ل (ريتشاردسون وآخرون، 2008) والتي نظرت عن الاسباب في اضطراب الحياة في نيو اوريليانز وما حولها بعد إعصار كاترينا حيث خلصت الدراسة أن ابرز ما توصلت اليه ان الاحداث الكلاسيكية تقليديا قد نجمت عن سوء الإدارة والقرارات التي ساهمت في تفاقم الكارثة , كما يؤكد المؤلفون في هذا العمل وغيره من الأعمال أن الفيضانات والعواصف واسعة النطاق ستترتب عليها آثار خطيرة على التشغيل للاقتصادات الإقليمية المترابطة بسبب نمط الادارة والقرارات التي تتخذها الشركات.
وعلى وفق ذلك نرى ان وجود تطور كبير في الأدبيات المتعلقة بنمط المعيشة بعد الاحداث الصادمة وخاصة ما يتعلق منها بمعالجة مسألة إعادة الجدولة الإنتاجية للأنشطة الاقتصادية وخصوصا تلك القطاعات التي يؤمل منها ان تساهم في رفد الاقتصاد الوطني بالتمويل اللازم وذلك من خلال إجراء محاولات لقياس درجة المرونة الموجودة في النظم الاقتصادية الإقليمية والمحلية للعراق وبما يساهم في تقليل حجم الاثر على الاقتصاد الريعي ككل والاتجاه نحو تفعيل العوامل النسبية مثل تطوير الميزة النسبية باتجاه تطوير قطاعات انتاجية ذات ميزة نسبية محلية اخرى غير قطاع النفط كالزراعة والتصنيع المحلي والسياحة وغيرها والابتعاد قدر الامكان عن الاستهلاك والانتاج الريعي وكذلك الابتعاد عن الاستثمارات غير الانتاجية .
حيث اثبتت التجربة كما تشير العديد من الدراسات إلى أن التكاليف الإجمالية لهذه الاضطرابات الإقليمية او العالمية يمكن أن تكون أقل من التكاليف , حيث تم تقديم توصيات حول كيفية توفير رأس مال أكثر مرونة لأصحاب العقارات الذين تأثروا بشدة بالكوارث .
إن الأدبيات المتعلقة بالأحداث طويلة الأجل ليست متطورة تماما والدليل على ذلك فشل الكثير من الدول المتقدمة في تحديد توقعات المشكلة او التصدي للتوقعات غير المنظورة او الكوارث ومنها هذا الوباء الذي اجتاح العالم المتقدم اكثر من الدول النامية ، حيث يبدو أن الكثير من التفكير كان يقتصر على عدد قليل من البحوث للتقصي الاقليمي مع الحدث مع استمرارية البحث و التوسع في الانتاج لقطاعات انتاجية ملوثة على حساب اخرى كقطاع الصحة الوبائية , في هذا يشير غلايزر وشابيرو (2001) إلى أن التهديدات الوبائية او الارهابية سيكون لها آثار طرد مركزي على أنماط المستقرات البشرية فمن ناحية سيكون الناس امام خيارات محدودة فهم:
- اما سيكونون عرضة للتفريق من أجل تجنب السكن في المناطق الحضرية الكثيفة
- ولكن من ناحية أخرى، قد ينتقلون إلى المدن الاصغر خصوصا وان أنظمة النقل بين المدن سوف ينظر إليها على أنها معرضة للخطر هي الاخرى , فيما يرى دافيس ووينشتاين (2002) الذي ركز على نتائج واثار قصف المدن اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية ، حيث وجدا أن التأثير العام على النمو السكاني كان مؤقتا فقط ، وأن المدن اليابانية استأنفت مسارات نموها بعد فترة وجيزة من وقف الأعمال القتالية , وتؤيد النتائج التي توصل إليها الرأي القائل بأن لكل مدينة حجمها "الطبيعي" نظرا للظروف الديموغرافية الا ان المثير والذي يجب الوقوف عنده كثيرا ما يتعلق بتغير شكل النظم التكنولوجية الوطنية في اليابان نحو اتجاهات جديدة وبميزة نسبية هامة مثل التوسع والتطور الهائل في الصناعات الالكترونية وصناعة السيارات والتي ما لبثت ان غزت الاسواق العالمية وبتنافسية واضحة ، ووجدا ايضا أن معظم المدن ستعود إلى هذا الحجم حتى بعد الصدمات الكبيرة والمطولة اما وجهة النظر البديلة تقول بأن إنتاجية المدينة ستعتمد على حجم سكان المدينة والآثار غير المباشرة ، وعندما يصاب كلاهما بصدمة شديدة، فإن المدينة قد لا تتعافى أبدا ولا يمكنها ان تتحمل ببساطة نمط نمو مختلف براكمان إت آل (2004) والذين يجدون ان ابرز مثال لهذه الافتراضات , هناك موضوع التنافس بين المدن الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية حيث وجد أن أكثر المدن تضررا (وخاصة في قطاع السكن) والتي شهدتها مدن ألمانيا بشطريها الا ان المدن الغربية منها فهي نمت نموا سريعا في الفترة لما بعد الحرب، ولكن بالمقارنة مع المدن في المانيا الشرقية والتي تضررت بشدة الا انها لم تشهد هذا النمو وأسباب ذلك معقدة إلى حد ما، ولكنها تنطوي جزئيا على سياسات مختلفة جدا للحكومتين وكيفية ادارة الازمة فيها وخصوصا ما يتعلق بتعزيز إمدادات المساكن من الخدمات وغيرها من الانشطة الساندة لحياة الناس .
على ضوء ما تقدم من تحليل وتجارب فان اننا نرى ومن واجبنا العلمي والاخلاقي ان الأحداث الأخيرة ومنها ما يتعرض اليه العالم اليوم من جائحة الكورونا هي صدمة وبائية وصحية عالية الاثر الا اننا نجد وبذات الوقت هي فرصة سانحة لإعادة التوازن الاقتصادي على مستوى البلد او على مستوى المحافظات واقليم الشمال ، فنجد إن المنظور قصير الأجل و طويل الأجل للأحداث يجب ان يكونا حاضرين وموضوعا يستحق وبوضوح مزيدا من الاهتمام والتحليل العلمي من جانب منظري العلم الاقليمي ومخططي الاقتصاد المكاني والذي يجب اعطاءهم دورا اكبر في المشاركة في بناء استراتيجيات التنمية الوطنية وتحفيزهم للقيام بأجراء دراسات تطبيقية عملية بعيدا عن الاسس التقليدية والاستشارية الحالية للبحث العلمي , وأن تكون هذه الأبحاث مفيدة ومقيسه في اختبار بعض الاستنتاجات الأولية ، ولا سيما بالنسبة للأحداث طويلة الأجل وان التمكين في هذا الموضوع سيعطي الباحثين في الشؤون الاقتصادية سواء على نطاق التحليل الاقليمي او الحضري للنشاط وحتى على مستوى الباحثين في التحليل الاقتصادي الجزئي والكلي المزيد من التركيز والتحليل وان يكون على اختيار مجموعة واسعة من العوامل تتراوح بين تحليلات ( رأس المال الاجتماعي والتنوع الاقتصادي الإقليمي وتوقيع الخدمات ومنها الصحية والبيئية ) وكذلك في مجالات اخرى تتعلق بخيارات تتعلق بقطاعات منها قطاع النقل والاتصالات وقطاعات الخدمات المجتمعية وعلى مستوى المدن الصغيرة والمتوسطة والكبيرة وكذلك يجب ان تركز بحوثا اخرى على فهم الاقتصاد العراقي لما بعد الجائحة والانكماش الاقتصادي العالمي المتوقع , في المزيد من البحث والتحليل عن اي الانشطة الاقتصادية الاكثر والاسرع نموا وباتجاهات منها التقليل من الاتجاه نحو ايرادات الاقتصاد النفط الريعي وخصوصا ان العالم لما بعد الجائحة سيكون عالما اقتصاديا منكفئا على نفسه , مما يجعل من تحفيز اقتصادات الميزة النسبية للأنشطة الاساسية وغير الاساسية وعلى المستوى المحلي ستكون هي الاكثر اهتماما من غيرها وان تحقيق الاستقرار الاقتصادي للناس وقبل غيره من المؤشرات الاخرى كالأمن والصحة والسياسة سيجعلها امرا واقعا للتغيير نحو الافضل .
ـــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha