أ . م . د . أحمد عدنان كاظم الكناني، علوم سياسية / جامعة بغداد
المقدمة :
باتت مناطق النفوذ الموازية مثل الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ التي كانت تشغلها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سابقاً في مرحلة الحرب الباردة ضمن حدود الصراع والتنافس الدوليين عرضة لكثير من المتغيرات بسبب الصراعات المحتدمة فيها من جانب ، وتصاعد وتيرة التنافس التي تقودها القوى الكبرى الصاعد حالياً مثل الصين وروسيا بالتعاون مع فواعل إقليمية عدة ( إيران وتركيا والسعودية وما سواها ) من جانب آخر . لنشهد أنماط مُضافة من الصراع والتنافس من أجل النفوذ المُمتد إلى آسيا الوسطى وبحر الصين الجنوبي وحتى الشرقي ، فضلاً عن سعي اليابان المُنافس القوي للصين من أجل تدعم نفوذها من خلال دعم استقلال تايوان عن الصين ، والاستمرار في ممارسة الضغط على كوريا الشمالية للتخلي عن أسلحتها النووية التي تقلق أمن المنطقة بأكملها ( وبخاصة في شبه الجزيرة الكورية ) . في الوقت الذي تركز فيه الصين على تطوير قدراتها العسكرية الهجومية والدفاعية من أجل تحقيق تحول نوعي على مستوى القوات العسكرية سيما الجوية والبحرية منها ، لتمكين هيمنتها على بحر الصين الجنوبي يناظره الهدف نفسه على مياه شرقي آسيا من أجل اثبات وجودها التنافسي حيال اليابان . أما إقليم شرق آسيا الممتد من بحر اليابان إلى بحر الصين الجنوبي وحتى الشرقي الذي يشهد هو الآخر حالة من انعدام الاستقرار والتوتر بسبب الصراع والتنافس الياباني – الصيني المحتدم منذ عقود طوال ، ناهيك عن رغبة الصين في تغيير موازين القوى في شرقي آسيا لتوسيع مجالها الحيوي وتمكين هيمنتها على الإقليم بأكمله ( يناظره التوتر في شبه الجزيرة الكورية وحتى أقصى شرق بحر اليابان وصولاً إلى جزر الكوريل التي تطالب بها اليابان من روسيا في شمالي المحيط الهادئ كونها تقع ما بين جزر كامتشاتكا الروسية وجزيرة هوكايدو اليابانية ) . وفي الشرق يبدأ مركز الحركة الصينية من الناحية الاستراتيجية مقابل الحركة اليابانية التي تعتمد على عدد من الجزر المتجاورة معها ، لتبقى شبه الجزيرة الصغيرة في الشرق الأقصى تدخل ضمن حيز اهتمام الاستراتيجية الأمريكية انطلاقاً من كوريا الجنوبية .
أما التواجد العسكري الأمريكي في أسيا الوسطى والقوقاز فأنه مازال يشكل تهديداً آخراً للنفوذ الروسي في المناطق المتاخمة لها ، لأنها تمثل حلقة الوصل بين قارتي أوربا وآسيا وهي بمنزلة حلقة الوصل التي تربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب على حد سواء . ليبقى مضيق تايوان الذي يطلق عليه مضيق فرموزي ويقع ما بين الصين وتايوان وهو جزء من بحر الصين الجنوبي ضمن مناطق النفوذ والمصالح الصينية كونه يتصل ببحر الصين الشرقي من جانب منطقة الشمال الشرقية تحديداً ، إذ مازالت الأخيرة تُعّد من مناطق الصراع والتنافس المحتدمة التي شهدت اجراء العديد من التجارب الصاروخية من جانب دولة الصين الشعبية حول مياه تايوان بما فيها المضيق نفسه ( التجارب التي اجريت في الحادي والعشرين من تموز عام 1995 والثالث والعشرين من آذار عام 1996 ) . وبالمقابل تأتي أهمية مضيق هرمز الاستراتيجية من كونه الممر المائي الاستراتيجي والحيوي الذي يربط مياه الخليج العربي بخليج عُمان وبحر العرب وصولاً إلى المحيط الهندي ، ومن خلاله يجري التحكم بمجرى الملاحة البحرية الممتد شرقاً وغرباً ، من هنا أكدت إدارة معلومات الطاقة الأميركية بأن نسبة ( 18.5 ) مليون برميل من النفط قد مرّ يومياً من خلال مضيق هرمز في عام 2016 ، ليشكل ما نسبته ( 30 % ) من النفط العالمي المنقول عبر هذا المضيق ، وخلال عامي 2017 و 2018 تضاعفت الصادرات النفطية المنقولة منه أيضاً من ( 17.2 ) إلى نسبة ( 17.4 ) مليون برميل يومياً .
أولاً : تحالفات التقارب الصيني - الروسي - الإيران حيال الشرق الأوسط والخليج العربي :
شهدت الكثير من مناطق العالم سيما منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي عموماً صراعاً وتنافساً محتدم باتت أطرافه الدولية وحتى الإقليمية تتكأ على جملة من المقومات من أجل استثمار مكامن القوة والتفوق في قدراتها الاستراتيجية لتأمين مناطق النفوذ والمصالح التي تدور في فلكها ([i]) ؛ ولكن اللافت للنظر تغير مسارات الصراع منذ مرحلة الحرب الكونية التي يقودها الغرب الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 ، بسبب تنامي ظاهرة الإرهاب الدولي بدءًا من تنظيم القاعدة الإرهابي وصولاً إلى تنظيم (داعش) الإرهابي في ظل تصاعد موجة العنف التي تقودها هذه التنظيمات المسلحة المتطرفة التي تروم اضعاف مجتمعات ودول الشرق الأوسط وما سواها من الداخل ، فضلاً عن تنامي مخاوف القوى العظمى من عدم السيطرة على صراعات مناطق النفوذ الاستراتيجية التي بدأت تأخذ منحى آخر ،مما يؤشر حدوث حالة من الفراغ الجيو – سياسي أو ربما تداعيات فوضى الصراعات الحاصلة هناك، مما يتطلب تحرك القوى العظمى الفاعلة في العالم ومنها الولايات المتحدة الأمريكية لضبط حركة التفاعلات البينية التي تجري بين الفاعلين الإقليميين في داخل مناطق التوتر والصراع الممتدة نفسها ( الشرق الأوسط ، الخليج العربي ، بحر الصين الجنوبي ، شبة الجزيرتين الكورية والهندية وما سواها ) ،لا سيما وأن عالمنا اليوم مازال يشهد تصاعداً متسارعاً في موجات العنف وفي ظل التحذيرات التي تطلقها وزارة الدفاع الأمريكية بين الحين والآخر بشأن قدرة هذه التنظيمات على إعادة تنظيم نفسها في أي وقت ، على الرغم من التقدم الكبير الذي حققته الدولة العراقية منذ عام 2016 بعد الانتصارات الكبيرة التي أربكت المشهد العسكري والأمني على حد سواء في منطقة الشرق الأوسط ( تغير بوصلة معادلة التحكم الاستراتيجي في المنطقة ) ، والشيء نفسه يحدث في سوريا عندما تمكن التحالف الروسي – الإيراني من استعادة الأمن في سوريا بعد مواجهات محتدمة ضد التنظيمات الإرهابية المسلحة وما سواها التي استمرت لسنوات عدة سيما منذ عام 2015.
إن تحليل طبيعة العلاقات الحاصلة بين الدول العظمى والكبرى (الولايات المتحدة وحلفاؤها من ناحية، والصين وروسيا من ناحية أخرى)، نجدها تمثل المركز الجديد الذي يحظى باهتمام الخبراء والمتخصصين في السياسة الدولية . إذ لا يمكن أن نحدد توجه مسار العلاقات نحو الاستقرار في المركز حصراً ، ففي هذه الحالة لا بُدّ أن تتمدد علاقات التأثير إلى الخارج ،لاسيما وإن مرحلة إدارة الرئيس الأمريكي السابق (باراك أوباما) قد حاولت أن تنحو هذا المنحى وصولاً إلى مناطق جنوبي شرق آسيا وما سواها التي حددتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (هيلاري كلينتون) آنذاك . وقد أكدت ابعادها بأن غالبية الشعوب في العالم تشعر بالقلق من التهديدات العالمية نفسها ، ولكن من خلال تعزيز التعاون وتقليص مساحات المنافسة ، بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية أن تواجه مشهد آخر يسوده عالم متعدد الأقطاب ومتعدد الشراكات ([ii]) . بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة القادمة ستكون ضمن معادلة القبول بشروط تنافس القوى الكبرى المُناظرة لها في بعض مناطق النفوذ بدءًا من شرقي أوربا وصولاً إلى تخوم ما بعد المحيط الهندي والمحيط الهادئ على حد سواء .
أما قضايا الإرهاب فقد باتت هي الأخرى الأكثر تعقيداً ، وفي مرحلة سابقة ليست ببعيدة كاد تنظيم القاعدة الإرهابي أن يشعل حرباً وصراعاً بين الاتحاد السوفيتي سابقاً وباكستان ، ولكن انسحاب الروس من افغانستان أدى إلى تراجع هذا المشهد في مناطق نفوذ القوى العظمى خلال مرحلة الحرب الباردة ، مع استمرار مشهد التنافس حول مناطق النفوذ والذي بدوره أشعل الكثير من الصراعات في المنطقة ([iii]) .
إذ يرى المفكر الاستراتيجي الأمريكي ( روبرت كاجان ) في مقال نشره في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية بعد فوز ( باراك اوباما ) برئاسة الدولة العظمى المهيمنة على العالم منذ أكثر من عقدين ونصف من الزمن ( تحديداً بعد انتخابات الرابع من تشرين الثاني عام 2008 )، والتي أكد فيها الاستمرار في تمكين نمط الهيمنة الأمريكية على العالم في الكثير من مناطق نفوذها الاستراتيجية سيما منطقتي الشرق الأسط عموماً والخليج العربي بشكل خاص ، مع الأخذ بالحسبان فيما لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيقه بعد أحداث ما عرف بثورات الربيع العربي منذ عام 2011 ( فوضى الصراعات والحروب في الشرق الأوسط )، على الرغم من استمرار احتفاظها بمكامن قوتها الاستراتيجية طالما أنها تدعم حججها الموضوعية في ديمومة هذا النمط من النفوذ ؛ ولكنها ستكون عرضة للتراجع عن هذه المكانة العالمية كما تنبأ المفكر الأمريكي (بول كينيدي) سابقاً منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بالسقوط الوشيك للقوة الأمريكية ؛ بسبب الإفراط في التأكيد لما أطلق عليه ب ( التمدد المفرط في استخدام القوة ) وعدم تناسب قدراتها الاقتصادية مع تطلعاتها الاستراتيجية العالمية التي تنشد الاستمرار في استحكام نفوذ هيمنتها المطلقة على العالم ([iv]) . من هنا جاءت أفكار مقالة ( كاجان ) الاستراتيجية تتمحور في مسعى الإدارة الأمريكية للاستفادة من أخطاء إدارة الرئيس الأسبق ( بوش الأبن ) من أجل تجاوزها ، لاسيما وأن التوقعات تشير إلى وجود قوى كبرى صاعدة مثل الصين وروسيا التي سوف تتحالف معاً لموازنة نفوذ القوى العظمى الراهنة المتحكمة بالعالم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، بمعنى إن هذه القوى الصاعدة ستنشد الحد و / أو تقليص حدود الهيمنة الأمريكية على العالم من خلال سعيها نحو كسب المزيد من القوة الاستراتيجية المُضافة مع تحديث جميع منظوماتها العسكرية الاستراتيجية ، والشيء نفسه ينطبق على قوى صاعدة أخرى مثل الهند والبرازيل لتكون حليفاً لها ، على الرغم من أن الأخيرة مازالت لا تروم موازنة القوة الأمريكية أو مواجهتها في المرحلة الراهنة طالما إنها ترجح أفضلية توسيع أطر التعاون الاستراتيجي معها على مدى المستقبل القريب ([v]).
مع الأخذ بالحسبان رغبة الدول الآسيوية ودول المحيط الهادئ في الاستمرار بالتقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية على هذا المنوال ؛ بسبب الخشية من تفوق القوة الصينية الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً ، من هنا لحظنا تطور التحالف الأمريكي – الياباني بشكل ملحوظ منذ عام 1997 في الوقت الذي كانت الهواجس تؤشر احتمالية تآكل هذا التحالف في حينها ؛ ولكن نمو القوة الصينية وحتى الروسية في مناطق تخوم اليابان وما سواها أدى إلى تقوية هذا النمط من التحالفات الاستراتيجية على مدى المستقبل المنظور . لذا فالتوازنات الدولية والإقليمية لم تتحول بالضد من مسعى تدعيم بعض مجالات الهيمنة الأمريكية في العالم الحالية ، وبدليل استمرار الأردن والسعودية ومصر والمغرب وما سواها في التنسيق مع الولايات المتحدة على مختلف مستويات التعاون الاستراتيجي طالما أنها تنظر إلى مقدار المنافع الاستراتيجية المتأتية من المساعدات والمعونات المقدمة في المجالات العسكرية والسياسية وغيرها من المجالات ([vi]). من هنا جاءت زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ( باراك اوباما ) إلى كلٍّ من تركيا ومصر خلال السادس من نيسان والرابع من حزيران عام 2009 ، من أجل تمهيد الطريق نحو استكمال مقومات الشراكة والتحالف الاستراتيجي معها، فضلاً عن البدء في تشكيل رؤية جديدة للتواصل الحضاري بين العالم الغربي والعالم الإسلامي على حد سواء ([vii]) .
ثانياً : مقاربة نمو القوة الصينية بالقوة الأمريكية وبعض حلفائها :
تأتي الدراسات المستقبلية لتؤكد أن مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي الصيني ستشهد نمواً يقدر ب ( 6 % ) سنوياً بعد عام 2030 مقارنة بالنمو الأمريكي الذي لن يتجاوز نسبة ال ( 2 % ) سنوياً وللمدة نفسها ، لذلك فالاحتمالات المستقبلية ترجح تنافساً صينياً – أمريكياً على الصعيد الاقتصادي ؛ ولكن من دون أن تتفوق الأولى على الثانية على مستوى القوة الإجمالية خلال النصف الأول من الألفية الثالثة ، بمعنى إن المؤشرات تؤكد ظهور الصين وروسيا والهند وإيران لتكون جزءًا من بُنية الهيمنة الدولية التي ستسود وتتمركز في نفس مناطق نفوذ الهيمنة الأمريكية الحالية ، ولكن من دون أن نلحظ أن تأتي قوى عظمى موازية لتطرح نفسها بديلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية للاضطلاع بمسئولية قيادة العالم ؛ والسبب في ذلك يكمن بعدم قدرة هذه القوى الكبرى الصاعدة على أداء دور ريادي مؤثر في السياسة والاقتصاد الدوليين في آنٍ واحد . من هنا جاءت رؤية مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق ( زبيغينيو بريجنسكي ) بأن العالم سيدور نحو مستقبل جديد تتحكم فيه معادلة ثلاثية تستند إلى السلطوية والقومية والدين على حد سواء ، مع احتمالية ظهور نوع من التراجع في الدور الأمريكي كما هو الحاصل حالياً في ظل تصاعد الضغوط الشعبية الداخلية في منطقة الشرق الأوسط ( أحداث ما عرف بثورات الربيع العربي منذ عام 2011 ) ، مع حدوث نوع من الاضطرابات الاجتماعية الداخلية وتصاعد ظاهرة الغلو والتطرف العنيف في تلك المنطقة ، مع تزايد وتيرة الأزمات في منطقة الخليج العربي ( الأزمة الراهنة في العلاقات الخليجية – الخليجية حيال قطر منذ تموز عام 2017 ) والتي ستنعكس في المستقبل القريب على مستقبل مجلس التعاون الخليجي أيضاً . أما على الصعيد الدولي فلا تنذر مكامن التنافس العالمية التي تقوم بها روسيا حيال الهيمنة الأمريكية الراهنة من تراجع في نفوذ الأخيرة ، ولكن إذا ما حدث أي تقارب روسي – ألماني ممتد ضمن الحدود الأوربية ، فأن الأوضاع ستؤول إلى احتمالات تهديد من نوع آخر يكمن في العمق الاستراتيجي الأوربي الداخل ضمن حدود هيمنة المصالح الأمريكية منذ مرحلة الحرب الباردة ([viii]) . ناهيك عن التكهنات المستقبلية التي تنذر بوقوع أزمة أخرى في مجال الطاقة سيما في ظل مؤشرات الانخفاض التي ستسجل على أسعار النفط عالمياً ( دخول الولايات المتحدة كمصدِّر نفطي كبير في ظل الاستثمارات المتزايدة في مجال انتاج وقود النفط الصخري ) ، مع الأخذ بالحسبان المضاربات المالية التي تجري بين الحين والآخر في قطاع أسواق المال والبورصات العالمية ، في الوقت الذي تفكر فيه السعودية كأكبر منتج ومصدر للنفط في العالم لطرح أسهم شركة آرامكو في بورصة نيويورك العالمية . لاسيما وإن الشركة الأخيرة تُعّد المنافس الكبير لشركة ( علي بابا ) الصينية ، وذلك بهدف استخدام الأموال المتحصلة من هذا الطرح لتوجيهها نحو تنويع الاقتصاد السعودي الذي تضرّر بشكل ملفت للنظر في ظل التراجع الكبير في أسعار النفط الحاصلة في الأسواق العالمية منذ عام 2014 ، وستتنافس حول هذا الطرح شركات عالمية كبرى تعود لدول متقدمة مثل الصين واليابان وما سواها من الدول ( بورصة نيويورك وبورصة ناسداك في أمريكا ، بورصة لندن ، بورصة طوكيو ، بورصة هونغ كونغ في الصين ، بورصة تورنتو في كندا ، وبورصة سنغافورة ) ([ix]) .
أما مؤشرات نمو القوة الصينية من الناحية العسكرية تحديداً فيكمن أن نحددها في الآتي ([x]) :
1 – تنامي معدلات الانفاق العسكري سيما في مجال دعم القدرات العسكرية البحرية الصينية ، من أجل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية وتأمين مسارات الطاقة في المحيط الهادئ وصولاً إلى البحر العربي .
2 – تثبيت الوجود العسكري الصيني في المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ على حد سواء من أجل تجاوز عقدة مضيق ملقا * ( قبالة فيتنام وتايلند وكمبوديا )، مما يجعلها تتحرك بسهولة في مناطق نفوذها الإقليمية . أما بحر الصين الجنوبي ** فهو الآخر يتوسط نقطة الارتكاز حيال فيتنام وكمبوديا من الشمال ، والفلبين من الشرق ، وماليزيا واندونيسيا وسنغافورة من الجنوب وصولاً إلى مضيق ملقا أيضاً.
3 – تقويض محاولات التمدد في النفوذ الهندي (دولة الهند الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية) في المنطقة من خلال توطيد التعاون الاستراتيجي الصيني مع باكستان ، لا سيما وإن الصين مشرفة على تطوير ميناء (غوادر) الباكستاني الذي يقع في بلوشستان ليكون الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان ، مع الأخذ بالحسبان خط سكة الحديد الصينية الباكستانية التي تربط الميناء بمدينة كاشي الصينية قبالة الهند. كما تُعّد التوسعات التي تجرى في ميناء ( غوادر ) الباكستاني بمنزلة التغيير في قواعد اللعبة الاستراتيجية لإعادة صياغة الأجندة الاقتصادية في المنطقة بأكملها ، أما المحللين الاقتصاديين فيؤكدون أن ميناء (غوادر) سيكون البديل عن مدينة ( دبي ) في المستقبل كونه يمثل القوة الاقتصادية المؤثرة استراتيجياً في عموم محاور المنطقة ، وهي الأقرب لما يمكن أن نطلق عليه بالحرب الاقتصادية الصامتة في منطقة خليج عُمان على محورين ( الصين ، باكستان ، وقطر من جانب ، والهند والإمارات العربية المتحدة من جانب آخر) ([xi]). فضلاً عن سعي الصين لمد جسور العلاقات غرباً مروراً بدول مثل بورما وسيريلانكا وبنغلاديش وصولاً إلى الدول الأفريقية في أقصى الشمال الشرقي وما سواها ( مباردة الحزام وطريق الحرير ) .
في حين تروم دولة مثل الهند في أن يكون لها امتداد لنفوذها بالتعاون مع حليفها الاستراتيجي وهو الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تنفيذ الاستراتيجية الهندية التي ترتكز على الأسس الآتية ([xii]) :
أ – تعزيز القدرات العسكرية الهندية كما هو الحال في الصين سيما من ناحية القوة البحرية ، لاسيما وإن الهند تنفق ما يقارب (20%) من ميزانيتها السنوية على تطوير أسطولها البحري من أجل تمكين عمله في مختلف المجالات العسكرية وحتى المدنية والتجارية .
ب – دعم مجالات التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي وحتى مع إيران بما يعطيها دفعاً في تنافسها على المستوى الاقتصادي ، لا سيما وإن دول الخليج العربي تُعّد المورِّد الرئيسي للنفط للهند ، مع الأخذ بالحسبان آفاق التعاون الهندي – الإيراني منذ توقيع اتفاقية تصدير الغاز الإيراني إليها عام 2005 .
ج – الاستمرار في تقديم التعاون والمعونة لكل من بورما واندونيسيا وفيتنام ( محور الجنوب الشرقي من الهند الذي يضم معها دول مثل الفلبين وتايلند أيضاً ) ، فضلاً عن توجيه هذا النوع من التعاون والمساعدات إلى الدول الأفريقية أيضاً سيما المطلة على المحيط الهندي تحديداً ، وبهدف تأمين المسار الملاحي الضامن للمصالح الهندية في تلك المناطق الاستراتيجية الحيوية بالنسبة لها .
وفي ظل جميع المعطيات الواردة أعلاه لم تتمكن لحد الآن دول مثل الصين والهند وما سواها من استحكام نفوذها السياسي كونها مازالت بحاجة للدعم الأمريكي في الكثير من مناطق العالم الاستراتيجية سواء في بحر الصين الجنوبي وصولاً إلى جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وما سواها ، والسبب في ذلك لأن هذه القوى تفتقر إلى مقومات القوة السياسية التي يمكن من خلالها النفوذ إلى مناطق حيوية من العالم . أي بمعنى الحاجة إلى مكونات وعناصر القوة الرئيسة التي تبدأ من القوة التكنولوجيا والعسكرية وتنتهي بمكامن القوة القيمية والاعتبارية المعنوية التي تستثمر بأدوات وآليات الدبلوماسية المعروفة حالياً ، لتشكل قوة ضغط وتهديد في آن واحد ، مع الأخذ بالحسبان إن بقاء قوة الولايات المتحدة الأمريكية في التصنيف الأول عالمياً لا يمكنِّها في استمرار بقاءها القوة المهيمنة الوحيدة على العالم ولمدة طويلة قادمة بدليل كثرة منافسيها وخصومها في الكثير من مناطق العالم ، كما هو الحاصل حالياً في تصاعد قوة روسيا والصين وإيران وحتى تركيا التي نجدها تؤدي أدواراً سياسية فاعلة على الصعيدين الدولي والإقليمي حاضراً ومستقبلاً . فعلى سبيل المثال الحضور الروسي – الإيراني في ملفي الحرب السورية واليمنية الذي بات هو الأقوى ( في ظل اعلان الانسحاب الأمريكي من سوريا وافغانستان في العشرين من كانون الأول عام 2018 ،والتي عُدّت من التحولات النوعية في الاستراتيجية الأمريكية التي ستسمح لتركيا في أن يكون لها الدور المحوري خلال المرحلة القادمة لترتيب أولويات التفاهم والانسحاب التدريجي منها ، مع تمكين القوات التركية في إعادة الانتشار بدلاً عنها في تلك المناطق سيما بعد القيام بعمليتي عفرين ومنبج العسكريتين أيضاً ) ، ناهيك عن التقارب الإيراني مع قطر منذ أزمة العلاقات الخليجية – الخليجية التي تنذر بانفتاح محاور تعاون وربما تنافس من نوع جديد حيال إدارة ملفات منطقتي الشرق الاوسط والخليج العربي على حد سواء .
([i]) قارن مع د . أنس راهب ، السياسة الدولية في الشرق الأوسط مئة عام من الاحتلال ، دار الفارابي ، بيروت ، 2017 ، ص ص 9 – 17 .
([ii]) هال براندز ، الصراع بين القوى العظمى ، الشرق الأوسط ، جريدة العرب الدولية ، 21 / 11 / 2018 ، ص 1 .
([iii]) نعوم تشومسكي وجلبير الأشقر ، السلطان الأخير السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط ، دار الساقي للنشر ، بيروت ، 2017 ، ص 15 .
([iv]) بشير عبد الفتاح ، أزمة الهيمنة الأمريكية ، دار نهضة مصر للنشر ، مصر ، 2010 ، ص 334 . لا سيما وان ( بول كينيدي ) من المفكرين الاستراتيجيين الذين كتبوا كتاباً مهماً قد صدر منذ عام 1987 بعنوان (صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري من عام 1500 إلى عام 2000) ،إذ تنبأ بمكانة الصين، واليابان، والسوق الأوروبية المشتركة ،والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة حتى نهاية القرن العشرين ، ويرى بأن قياس قدرة أي قوة عظمى يكون بمقارنتها بقوى أخرى موازية أو منافسه لها ، أما هيمنة القوى العظمى (على المدى البعيد، أو في ظل حدوث الصراعات من النوع المحدد) فله علاقة قوية بالموارد المتاحة والقدرة الاقتصادية التنافسية ؛ لتبقى ظاهرة التمدد العسكري المفرط والأفول النسبي المصاحب لها هو التهديد المستمر الذي يواجه القوى ذات الطموح في استمرار هيمنتها .
([vi]) المصدر نفسه ، الصفحة نفسها .
([vii]) المصدر نفسه ، ص ص 342 – 343 .
([viii]) وائل محمد اسماعيل ، الإمبراطورية الأخيرة : أفكار حول الهيمنة الأمريكية ، دار المنهل للنشر والتوزيع ، عمّان ، 2016 ، ص ص 246 - 249 .
([ix]) طرح أرامكو يشعل التنافس بين كبريات بورصات العالم ، الشرق الأوسط ، جريدة العرب الدولية ،المملكة العربية السعودية، 7 / 6 / 2017 ، ص 1 . لا سيما وأن شركة علي بابا المنافسة لها تُعّد من مجموعة الشركات الصينية التي يمتلكها القطاع الخاص وتعمل في مجال الأنشطة التجارية عبر شبكة الإنترنت الدولية ، بما في ذلك خدمات التسوق والحوسبة الإلكترونية وما سواها من الفعاليات والأنشطة التجارية الكبرى التي تعمل في داخل الصين وخارجها .
*يُعّد مضيق ملقا من الممرات المائية الاستراتيجية الحيوية التي تقع في جنوب شرق آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الإندونيسية ، ليصل إلى ما بين بحري أمدان في المحيط الهندي من جهة الشمال الغربي وبحر الصين من جهة الجنوب الشرقي .
** أما أهمية بحر الصين الجنوبي من الناحية الاستراتيجية فتكمن في امتداده عبر المحيط الهادئ وصولاً إلى سنغافورة ومضيقي ملقا وتايوان ، والذي تمر عبره ثلث الشحنات التجارية البحرية العالمية ، ناهيك عن الدراسات التي ترجح وجود احتياطيات هائلة فيه من النفط والغاز الطبيعي أيضاً .
([x]) وائل محمد اسماعيل ، المصدر السابق نفسه ، المصدر نفسه ، ص 252 .
([xi]) سارة المصري ، ميناء غوادر ... صراع الموانئ الصامت بين باكستان والأمارات ، أخبار الجزيرة ، الدوحة ، قطر ، 21 / 9 / 2017 .
https://telegram.me/buratha