أ . د عامر حسن فياض
أ . م . د كاظم علي مهدي
ثالثاً : متى وكيف تصبح الفيدرالية منزلقا سياسيا؟
إن الانتباه لحصر وتشخيص وفهم عيوب ومزالق السياسة العراقية المعاصرة يراد منه العلاج من أوجاع واظلام هذه العيوب ومخاطر وعتمة تلك المزالق . لان دوام حال ، تلك المزالق والعيوب ، من المحال ، كما يقال ، وان لم تدم هذه المزالق وتلك العيوب فهذا أمر غير مأسوف عليه .
فأذا كان المحتل قد أزهق الباطل ( الديكتاتورية ) فإنه اهمل اقامة الحق ( الديمقراطية) وترك هذه المهمة النبيلة الى ساسة وزعماء الكتل المتصدرة للعملية السياسية فكانت التراجعات والاخفاقات في بناء الديمقراطية بالعراق أكبر بكثير من المنجزات والانتصارات في هذا الشأن .
والملموس الذي لا يقبل الشك ان معظم هؤلاء ، بقصد او بدون قصد ، تجاهل ضرورة الوقاية من مزالق السياسة العراقية وعيوبها التي تخلص البعض منها، وليس جميعها ونكاد نجملها بالآتي :-
- منزلق الحرص على شخصنة المؤسسات وتنصيب الاشخاص بدلا من تنصيب المؤسسات ومأسسة المناصب . لهذا يقول ممثل الجامعة العربية المستقيل (مختار لماني) في وصف العلاقة بين السياسيين العراقيين التي تعكس العلاقة الى حد ما داخل البرلمان العراقي، الى ان (السياسيين العراقيين يسالون عمن طرح الفكرة ، ليتخذوا بعد ذلك موقفا منها )([1]) .
- منزلق حرص النصف الأول من الساسة على اجادة صناعة المشكلات، والنصف الثاني عن جهل او تجاهل لا يجيد صناعة المعالجات .
- منزلق عشق الفشل فنصفهم لا يريد ان يكون ناجحا، والنصف الثاني يريد ان يفشل الناجح .
- منزلق غياب سياسة الأوليات فنصفهم لا يعرف شيئا عن الاولويات، والنصف الثاني يعرف الاولويات بيد انه يتجاهلها .
- منزلق ان الساسة يعيشون هوس الدعوة للاجتماعات دون العمل لعقدها ويقدمون مبادرات متقابلة، وليس مبادرات متفاعلة ، ويتعاملون فيما بينهم بعناد سياسي، وليس بتنافس سياسي .
- منزلق تغويل امتيازاتهم وتقزيم حقوق الناس عبر الانحناء أمام الاستحقاقات الجهوية الضيقة على حساب الاستحقاقات الوطنية الواسعة .
- منزلق العوز التشريعي ( قانون حرية التعبير والتظاهر – قانون النفط والغاز ... وغيرها من التشريعات المعطلة المنصوص عليها في الدستور ).
- منزلق العوز المؤسساتي ( مجلس الاتحاد – مجلس الخدمة العامة على سبيل المثال لا الحصر ).
- منزلق العوز في الفهم . فالشراكة تفهم على أساس انهم ( شرائج ) وليس شركاء . والتوافقية تفهم على أساس انها تواقفية ، والتوازن يفهم على اساس انه محاصصة . إذ إن التوافقية تحصل بين مجموعات نخبها المترابطة ترابطا وثيقا وتتصف بهيمنة النخبة على اتباع يتسمون بالطاعة من الناحية السياسية والتشرنق من الناحية التنظيمية ([2]).
وكيما لا تصبح الفيدرالية· في العراق منزلقا سياسيا من المفيد ان نحدد ماهية الفيدرالية لمغادرة العوز في فهمها وان نفسر هوس الدعوة لها لمغادرة العوز في ممارستها .
فمن حيث المبدأ تتحدد ماهية الفيدرالية بدلالة كونها شكلا من اشكال النظم السياسية يقوم على اساس توزيع وظائف السلطة السياسية الثلاث ( التشريعية – التنفيذية- القضائية) دون تركزها بيد فرد او اقلية او هيئة واحدة . وإذ إن السياسة هي ( فن ادارة الشأن العام ) وان من يدير هذا الشأن العام يتمثل بـ ( هيئة) فأن شكل هذه الهيئة يتراوح ما بين نظام مركزي ونظام لا مركزي([3]) .
وبقدر تعلق الأمر بماهية الفيدرالية ايضا فإن أمرها يتصل بشكل سلطة الهيئة التي تدير الشأن العام ( اي السلطة السياسية ) وليس بعقيدة هذه السلطة . وللأخيرة اي للسلطة السياسية ، اشكالاً متعددة تتراوح بين السلطة ذات النظام المركزي ( سلطة الدولة الموحدة البسيطة ) والسلطة ذات النظام اللامركزي ( سلطة الدولة الفيدرالية وسلطة الدولة الكونفدرالية ) . وهنا فإن الفيدرالية هي شكل من اشكال السلطة اللامركزية . بمعنى ادق ان الفيدرالية ليست عقيدة كيما تناهض او تناصر . فمن يناهضها كعقيدة يقع في الخطأ ، ومن يناصرها كعقيدة يقع في الخطأ ايضا . ومن يناهضها كنظام لا مركزي فإنه يفضل المركزية على اللامركزية ، ومن يناصرها كنظام لا مركزي، فأنه يفضل اللامركزية على المركزية .
بعد ذلك بالإمكان تحديد ماهية الدولة الفيدرالية ( الاتحادية) بدلالة المفهوم المقارب لها والمتميز عنها ألاّ وهو مفهوم الدولة الكونفيدرالية . فإذا كانت الكونفيدرالية تمثل شكل لنظام سلطة الدولة اللامركزية الواسعة ، فأن الفيدرالية تتمثل ايضا بشكل نظام سلطة دولة لا مركزية ولكنها ليست لا مركزية واسعة . ففي الفيدرالية هناك علم واحد للدولة الفيدرالية مع اعلام فرعية للأقاليم والولايات وهناك جيش اتحادي واحد بلا جيوش للأقاليم والولايات ، وتمثيل خارجي دبلوماسي واحد . وبرلمان اتحادي واحد مع برلمانات للأقاليم والولايات ، وخزينة اتحادية واحدة مع وجود خزائن محلية للأقاليم والولايات . بينما الدولة الكونفيدرالية تعبر عن اتحاد وحدات سياسية مستقلة ( دول) لكل واحدة منها علم خاص وجيش خاص وخزينة خاصة وتمثيل خارجي دبلوماسي خاص وشرطة خاصة بها غير ان هناك شكل من أشكال التنسيق بين دول الاتحاد الكونفدرالي في مجالي التعاون العسكري والسياسة الخارجية لدول الاتحاد وعند الحاجة وبالاتفاق .
إن اهمية الفيدرالية ودواعيها تتأتى ، ومن حيث المبدأ ، من الخشية من تركز وظائف السلطة والتفرد بها من فرد او جهة او هيئة تنفيذية واحدة ، كما تتأتى من ضرورة الانتقال بمجتمع الوحدة السياسية ( الدولة) المتنوع اللا متجانس قومياً ودينياً الى مجتمع متنوع (قومياً ودينياً)، لكنه متجانس ضمن إطار وشكل من اشكال الوحدة السياسية تسمى الدولة الفيدرالية ( الاتحادية). وتتكون نظم الدولة الفيدرالية بطريقتين :- ([4])
الأولى: طريقة اتحاد دولتين او اكثر. وفي هذه الحالة فأن الدولة التي كانت مستقلة ثم تدخل الاتحاد الفيدرالي او تشكله، تفقد شخصيتها القانونية بوصفها دولة مستقلة .
الثانية :- طريقة تفكك دولة مركزية موحدة واعادة الاتحاد بين بعض او بين جميع اقاليم هذه الدولة ليصبح الاتحاد الجديد دولة فيدرالية بعد ان كانت دولة مركزية موحــدة .
وبقدر تعلق الامر بالفيدرالية التي أرادتها المادة الاولى للنظام السياسي في الدستور العراقي لعام 2005 فإنها تخص الفيدرالية لكل العراق، وليس لجزء منه مع التاكيد ان تجربة كوردستان العراق في هذا المضمار تعد من بين اول وابرز المنجزات القليلة التي تحققت في ظل عملية التحول الديمقراطي في عراق ما بعد عام 2003 . ومن باب الخشية من ضياع قدرة الحفاظ على مثل هذا المنجز ، ولكي لا تكون الفيدرالية منزلقا سياسيا لا بد ان تفهم ويتم التعامل معها والقبول بها بالشكل الآتي :
- إن الفيدرالية ليست عقيدة بل شكل متمدن من اشكال النظم السياسية التي تقوم على توزيع وظائف السلطة السياسية الثلاث ( التشريعية – التنفيذية – القضائية ) بين هيئات ومؤسسات الحكم الاتحادية ( التشريعية – التنفيذية – القضائية )، وبين هيئات ومؤسسات الحكم في الأقاليم ( التشريعية – التنفيذية – القضائية).
- إن نجاح الفيدرالية قرين ، من حيث الولادة والحياة ، بأن الداعي لها ، فرداً او جماعة ينبغي ان يكون داعياً ديمقراطياً حقيقياً يخشى من تركز السلطة . ودون ذلك هناك خشية من كل دعوة للفيدرالية صادرة عن جهات غير ديمقراطية .
- إن الفيدرالية لا تعني قوة الحكومة الاتحادية وضعف الحكومات المحلية ، ولا تعني قوة الحكومات المحلية وضعف الحكومة الاتحادية بل تعني قوة الحكومة الاتحادية وقوة الحكومات المحلية . وهذه القوة للطرفين ينبغي ان تتأتى من الالتزام بالدستور، والقوانين ذات الصلة بتوزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية في الاقاليم([5]) .
أما بخصوص تناول موضوع الاختصاصات التي تمارسها السلطات الاتحادية وأقاليم المحافظات غير المنتظمة في إقليم نجد ما يأتي :([6])
1. جاءت المادة ( 114 ) من الدستور العراقي الدائم لتحديد الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية والأقاليم وأشركت المحافظات غير المنتظمة في إقليم خاص بها ، فجاءت شيئاً نكراً لأن المحافظات غير المنتظمة في إقليم تعمل على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية ، والاختصاصات التي تمارسها اختصاصات إدارية يتكفل القانون لا الدستور تحديدها ، وهذا خلط بين نظامي الفيدرالية واللامركزية الإدارية وطمس لمعالمها .
2. الذي يمكن تسجيله على المادة ( 115 ) من الدستور العراقي الدائم ، هو المساواة بين الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في ممارسة الاختصاصات التي لم يحصرها الدستور ، وهذا لا يجوز قطعاً لأن الأقاليم تعمل على وفق نظام الفيدرالية، بينما تعمل المحافظات غير المنتظمة في إقليم على وفق نظام اللامركزية الإدارية وهناك فرق كبير بين الاثنين هذا من ناحية، ومن ناحية موازية لها فإنه أعطى الأولوية في الاختصاصات المشتركة لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم ، وبذلك كان النص متناقضاً وطائراً في الخيال فهو متناقض لأن الأرجحية في الاختصاصات المشتركة ينبغي ان تكون للسلطة الاتحادية .
ومن هنا تأتي اهمية دعوتنا للجميع بالانشغال أولا واخيرا بالديمقراطية والبناء الديمقراطي لمغادرة هوس التهديد بإعلان الاقاليم او الانفصال لأغراض المزايدات السياسية عند البعض من جهة ومغادرة هوس التطّير من المطالبة بإعلان الاقاليم او الانفصال عند البعض الاخر من جهة أخرى·.
وعليه فإن القاسم المشترك لعدم الخشية من الفيدرالية من جهة وعدم الخوف على الوحدة الوطنية العراقية من جهة اخرى يتمثل بالديمقراطية الحقيقية وبالمزيد من الديمقراطية الحقيقية.
إذ على الرغم من إقرار الفدرالية في العراق دستورياً ، إلا إنها كخيار استراتيجي لا زالت غامضة، ولم ترسخ جذورها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في أغلب مناطق العراق. باستثناء إقليم كردستان – فمظاهر المركزية الموروثة الاخرى تفعل فعلها في ممارسة السلطة والتعامل معها، وفي برامج القوى السياسية وشعاراتها، وفي الأنماط الاقتصادية السائدة، وفي القيم والعلاقات الاجتماعية ولم يحصل تغيير ملموس في هذه الجوانب ينسجم مع الفدرالية، باستثناء المظاهر الملطفة للديمقراطية التي جعلت المواطن قانعاً بالمستوى المحدود من اللامركزية ظناً منه أنها هي الفدرالية، وما زاد من غموض وشلل الفدرالية أمور عدة منها:([7])
1. عدم ظهور أقاليم جديدة بعد عام 2003 شبيهة بتجربة إقليم كردستان.
2. وجود دعاية مضادة للفدرالية من بعض القوى السياسية تحاول أن تغرس في وعي المواطن العراقي فكرة إن الفدرالية تعني تقسيم العراق.
3. وجود رؤى مختلفة للفدرالية حاول أصحابها إسقاط وتهميش وإعاقة برامج بعضهم للبعض الآخر – مشروع فدرالية الوسط والجنوب، مشروع فدرالية البصرة على سبيل المثال – مما قاد إلى فشلهم جميعاً وتراجعهم عن رؤاهم مرحلياً وربما كلياً.
4. تعطيل بعض النصوص الدستورية المتعلقة بالفدرالية ( كتشكيل مجلس الاتحاد م 65 من الدستور –مثلاً- ومحاولات التشكيك بالنص الدستوري والدعوة إلى تعديله([8])، فضلاً عن انتهاك بعض نصوصه –أحياناً- أو إهمالها وتجاهلها، كل ذلك أضعف النص الدستوري في نظر المواطن مما انعكس سلباً على رؤيته للنظام الفدرالي برمته.
([1]) نقلاً عن د جابر حبيب جابر ، مصدر سابق ، ص ص 162-163 .
([2]) نزيه ن . الايوبي، تضخيم الدولة العربية السياسة والمجتمع في الشرق الاوسط ، ترجمة امجد حسين ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت ، 2010 ، ص 389 .
· يرى البعض بأن اصطلاح الفيدرالية مشتق من الكلمة اللاتينية (Foedus ) ومعناها المعاهدة او الاتفاق. والبعض الآخر يرى انه اشتق من الكلمة الانكليزية (Federation) بمعنى الاتحاد . وقد عرف الفيدرالية الفقيه (مرسيل بريلو) بانها : (اتحاد دول يخضع جزئياً لسلطة مركزية واحدة (السلطة الفيدرالية)، وتحتفظ جزئياً باستقلال ذاتي ودستوري واداري وقضائي ( سلطة الدول الأعضاء او المتحدة) . ينظر محمد عمر مولود ، الفدرالية وامكانية تطبيقها كنظام سياسي (العراق نموذجا)، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2009، ص 13 وما بعدها . هذا ويوجد في العالم اليوم ( 25 ) خمس وعشرون دولة فدرالية تمثل في مجموعها 40 ٪ أربعين من المئة من عدد سكان العالم من بينها أكبر الدول الديمقراطية في العالم وأكثرها تعقيداً كالهند وأمريكا والبرازيل وألمانيا والمكسيك . للمزيد ينظر غازي فيصل مهدي، نظاما الفيدرالية واللامركزية الإدارية في دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، مجلة التشريع والقضاء ، كانون الثاني – شباط – اذار ، 2009 ، بغداد ، ص 19 .
([3]) عامر حسن فياض ، في مجموعة مؤلفين ، سيناريوهات تقسيم العراق رؤية نقدية ، سلسلة الندوات ( 4 ) ، المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية ، عمان ، 2006 ، ص 63 .
([4]) محمد عمر مولود ، مصدر سابق ،ص ص 32-33 .
([5]) د . عامر حسن فياض، جدلية العلاقة بين الاستقلال والديمقراطية في الخطاب السياسي العراقي المعاصر، مجلة العلوم السياسية، العدد 29 ، جامعة بغداد، تشرين الأول 2004 ، ص 110 .
([6]) غازي فيصل مهدي، مصدر سابق ، ص ص 21-22 .
· جاء في الدستور العراقي الدائم المادة (119) بنصوص تعالج أسلوب تكون الأقاليم في الدولة العراقية، نصت على انه :( يحق لكل محافظة او أكثر، تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين: اولاً تقديم طلب من الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم . ثانياً: طلب من عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم) .
([7]) محمد عمر مولود ، مصدر سابق، ص ص 56-57 .
([8]) حول الجدل الدستوري لتعديل الدستور ينظر طارق حرب ، نشوار تعليقات على وقائع 2011 الدستورية والقانونية والثقافية العراقية ، صفحات للدراسات والنشر ، سورية ، 2013 ، ص 24 وما بعدها . وحول مجلس الاتحاد ينظر أ. م . د ليث عبد الحسن الزبيدي، م . د كاظم علي مهدي، مجلس الاتحاد والتوازن التشريعي في العراق ، مجلة قضايا سياسية ، العدد 37 -38، كلية العلوم السياسية ، جامعة النهرين ، تموز - كانون الاول 2014 ، ص 81.
https://telegram.me/buratha