دراسات

سؤال الدولة المدنية الحديثة في العراق المعاصر( البناء والعقبات )ـ الجزء الأول


سؤال الدولة المدنية الحديثة في العراق المعاصر( البناء والعقبات ) ـ الجزء الأول

أ .  د عامر حسن فياض

أ . م . د كاظم علي مهدي

المقدمة

 

تواجه الأنظمة السياسية الوليدة أزمات وإشكاليات في مراحلها الانتقالية من اجل بناء الدولة وادارة الحكم ،  وفي الواقع العراقي المعاصر بالذات ، يجب ان نتحدث عن عوق بنيوي وعوز تشريعي وعبث بالثروات والامن يصاحبه ارهاب وجريمة منظمة وعجز عن الاداء والمنجز وعقم بالانتاج يقابله مشكلة خصوبة بالاستهلاك وعزوف عن ثقافة الاستقالة والتمسك بثقافة الاستطالة وعمى بالاولويات وعدمية بالمواطنية وعرج معرفي وعور ثقافي ، سببه نظام كتل ومحاصصات (خلافية) تقوده قوى وجماعات متصدرة للعملية السياسية في العراق.  اضافة الى ما يأتي :

1.    انهيار النظام السياسي واستبداله بنظام سياسي آخر، خصوصاً مع نهاية الدولة العراقية نفسها، واستبدالها بدولة غير مستقرة وغير واضحة التشكيل، أو كيان سياسي متضعضع نتيجة الاحتلال الأمريكي عام 2003. إذ تعاني معظم القوى السياسية العراقية المعاصرة من غياب رؤية واضحة لمفهوم الدولة المدنية والحكم الصالح ، وهي تتشبث بالسلطة وتنشغل بكل شيء عدا الانشغال ببناء الدولة المدنية والحكم الصالح.

2.    تخلف البنى وضعف المؤسسات السياسية العراقية الحديثة، وسيادة المؤسسات التقليدية بدلا عنها ، وهو ما استندت وتتكأ عليها في الغالب القوى السياسية العراقية المعاصرة من أجل فرض هيمنتها على معادلة حكم النظام السياسي ، ومن ثم تضييق مبدأ المشاركة السياسية والشعبية الفعالة.

3.    إن ضريبة المراحل المختلفة لتاريخ العراق السياسي هو حالة التضاد النوعي الدائم بين النظام السياسي والشعب، مما خلق حالة تصدع وأزمة شرعية، وانعدام الثقة المتبادلة والعنف السياسي ، واستعمال القوة المشروعة وغير المشروعة .

4.    كثرة المفاهيم الفكرية والجوانب المستجدة في الواقع العراقي المعاصر مثل النظام السياسي البرلماني وموضوع الفيدرالية أو الدولة الاتحادية وغيرها. ولكن لا خوف من هذه المفاهيم والموضوعات ، طالما ارتبطت بالتطبيق العملي والصحيح .

الأمر الذي يدعو العقلاء الى التفكير بيقظة عالية من أجل التشخيص والعلاج لتلك الاشكاليات والتشوهات في المشهد السياسي العراقي المعاصر .

  أولاً: في أيّ لحظة من التاريخ يقف عراق اليوم ؟

        لقد شكلت قضية (الانتقال الديمقراطي) أو عملية (الدمقرطة) مبحثا رئيسا في علم السياسة منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين. وعلى مدى العقود الماضية ظهر عدد كبير من الكتب والدراسات والتقارير التي تناولت هذه القضية على مستويات مختلفة: نظرية وتطبيقية، كمية وكيفية، دراسات حالة ودراسات مقارنة([1]). إذ يرى ( صامويل هانتنجتون) أن موجة التحول الديمقراطي عبارة عن مجموعة من حركات الانتقال من النظام غير الديمقراطي إلى النظام الديمقراطي تحدث في فترة زمنية محددة تفوق في عددها حركات الانتقال في الاتجاه المضاد خلال نفس الفترة الزمنية ([2]) . بينما أكد (دانكورات روستو) ان التحول الديمقراطي عملية مستمرة لها ثلاثة اطوار: الطور التحضيري(لحظة الانفتاح )، والطور الحاسم ( الانتقال الديمقراطي ) ، وطور التعًود والتحصين ( الديمقراطية الموطدة )([3]).

    ويعتمد الانتقال الديمقراطي ( التحول الديمقراطي ) على طريقتين هما: ([4])

 الطريقة الأولى: تشير الى التحول من نمط التنظيم السياسي ( غير الديمقراطي ) التسلطي، الى نمط اخر ديمقراطي او بشكل أدق الى نمط في طريقه الى الدمقرطة .

 والطريق الثاني للانتقال يمثل طوراً وسطاً يؤشر على القطيعة مع نظام سلطوي لتبني قواعد نظام ينحو باتجاه الدمقرطة او الانتقال الديمقراطي.

وبناء على ما تقدم، فإن مفهوم (الانتقال الديمقراطي) يشير من الناحية النظرية إلى مرحلة وسيطة - تشهد في الأغلب الأعم مراحل فرعية- يتم عبرها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو انهياره، وبناء نظام ديمقراطي جديد. وعادة ما تشمل عملية الانتقال مختلف عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات والعمليات السياسية، وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية...إلخ. فضلاً عن ذلك، فإن مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية قد تشهد صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسين([5]). كما وتتطلب عملية التحول الى الديمقراطية - وفقا لرؤية برهان غليون- ، ( تطوير ثقافة ديمقراطية جديدة ، وموارد مادية ومعنوية جديدة ، وبناء قطب ديمقراطي تعددي حي ، واصلاح المؤسسات الرسمية والاجتماعية ، وبناء مقومات الاجماع الوطني ) ([6]).

وبالانتقال الى موضوع العراق نجد انه يقف في مرحلة ( الانتقال الى مرحلة التحول الديمقراطي ) ولم يصل بعد الى مرحلة ( التحول الديمقراطي) ، وكذلك بالتأكيد ، لم يعش بعد ( المرحلة الديمقراطية ) ، فعلى عكس ما يتوهم البعض فإن الديمقراطية لا تؤدي الى نفسها بشكل اتوماتيكي . وان تجربة بلدان العالم المتقدمة ديمقراطيا تثبت لنا ان النظام الدستوري المدني سبق النظام الديمقراطي الى الوجود بسنوات طويلة . فلم تصبح انظمة أوربا الغربية ديمقراطية الا بعد مرحلة انتقال دستوري مدني، ثم مرحلة تحول ديمقراطي مدني، ثم مرحلة دول ديمقراطية مدنية ( لاحظ ان المدنية مرافقة لكل المراحل ) . فالأساس هو دولة الانتقال الدستوري المدني اي دولة المؤسسات والقانون .. دولة المواطنة .. الدولة الدستورية .. وهي دولة قوية مع المواطن وليس دولة قوية ضد المواطن ، ولا دولة هشة تحت رحمة فرد او جماعات .. إنها دولة المؤسسات . إنها الدولة المدنية الحديثة ([7]).

ان تشخيص المرحلة يؤشر ان عراق اليوم يمر في مرحلة انتقالية صنعها تاريخ سيء هو تاريخ الشمولية ومستقبل صعب هو مستقبل انجاز الديمقراطية· . عليه فأن عراق اليوم يعيش في مرحلة تتعايش معها وفيها المتناقضات وتزدحم بالمتغيرات . وان العلامات الفارقة لهذه المتناقضات وتلك المتغيرات نتلمسها في سلوكيات النخب السياسية التي تراوح ما بين هلاك سياسي وحراك سياسي ، والاول ( اي الهلاك السياسي ) يتمثل في ان أشياء كثيرة تحصل في عراق اليوم هي بعيدة عن السياسة بصيغتها المدنية وقريبة من السياسات غير المدنية . فاذا كانت السياسة المدنية تتمثل في بناء مجتمع التسويات لا التصفيات ومجتمع التنافس لا التنابذ ، ومجتمع صحوة المواطنة لا غيبوبة الوطنية فان السياسات غير المدنية تتمثل بسياسات أحياء يحكمهم الأموات وسياسات التقدم نحو الخلف ، وسياسات التواقفية وليس التوافقية وسياسات الاستيلاء على السلطة وليس المشاركة في السلطة وتلك السياسات غير المدنية نتلمسها في السياسات الطائفية المذهبية ( سنة – شيعة – اسلام – مسيحية ) وسياسات عصبية ( عرب- كرد – تركمان ..الخ ) وسياسات اجتماعية عشائرية ( صحوات ومجالس اسناد)، وسياسات جهوية مناطقية ( دولة الجنوب والوسط الشيعي، ودولة الغربية السنية، ودولة الشمال العربي، ودولة الشمال الكوردي ...الخ)([8]) .

وهنا نذهب الى الرؤية التحليلية التي وضعها (كينث بولاك) للوضع العراقي من خلال ارتكازه على افكار ميكافيللية اذ يرى ان افكار ميكافيللي هي افضل دليل لفهم القوى المحركة الفاعلة في عراق اليوم ، ووضعه ضمن الدائرة الأكبر وهي الشرق الاوسط . فعراق اليوم هو المكان الذي كان ميكافيللي سيفهمه جيدا ، فهو دولة ضعيفة تتجاذبه الفئات مع وجود نظام ديمقراطي غير ناضج يتم تقويضه بشكل متزايد من الداخل والخارج، وهو محاط بجمع ضعيف مكون من دول عربية متشظية، ودول اخرى قوية غير عربية على السواء تسعى الى الهيمنة عليه او اخضاعه . وعلى الرغم من استمرار النموذج الديمقراطي العراقي، لكن ضعفه يقترن بتهديدات داخلية وخارجية. لذا يبدو ان الاحتمال الارجح بانه يقود العراق أما باتجاه الحكم المطلق، أو باتجاه تجدد الفوضى([9]). ولهذا فقد صنف العراق ضمن الدول الهشة والمأزومة والفاشلة ([10]).

أما الحراك السياسي فتتقاسمه ( قسمة ضيزا) تكتلات جديدة قليلة وتفكيكات قديمة وجديدة كثيرة . وانه حراك صفقات ظرفية آنية ومؤقتة تنظر أولا الى مصالح فرقاء هذه الصفقة او تلك ، ثم تدعو اخيراً بل بعد الاخير ايضا الى الولاء الكلامي لمصالح البلاد والعباد . وان حصلت مثل هذه التحالفات الجديدة فإنها تحالفات كاشفة ( لصفقات)، وليس خالقة لإمكانيات التغيير والتطوير نحو الاحسن أيّ نحو بناء الدولة المدنية الحديثة في العراق . واذا كان عراق اليوم يمر في مرحلة انتقالية تعتاش في المتناقضات وتزدحم بالمتغيرات فانه من غير الممكن تأبيد الانتقال كما من غير الممكن تجميد المتغير. وعليه هناك حاجة ماسة الى التعامل مع الانتقالي تعاملا ايجابيا لتجاوز تشوهات العملية السياسية ولتجنب خطر نمو وحش او ربما وحوش شمولية في رحم الديمقراطية العراقية الوليدة . وهذا التعامل الايجابي يحتاج الى رؤية واضحة ومنهجية متعقلنه ، فما هي طبيعة هذه الرؤية ؟ وما هي ملامح المنهجية المتعقلنه ؟

في عراق مثقل بالأزمات بل وطاعن في التأزم ، توهم البعض ان ولادة الديمقراطية ستنبثق من سقوط الديكتاتورية ، كما هو حال إعادة اقامتها في المانيا بعد سقوط النازية وفي ايطاليا بعد سقوط الفاشية ، وكما هو حال اقامتها في اليابان بعد عام 1945. ولكن الديمقراطية لم تقم ( حالا) في اي من البلدان الغربية ، ولا حتى الولايات المتحدة الامريكية . فهل ننسى حرب الاستقلال ، وإبادة الهنود الحمر ، والعبودية ، والحرب الاهلية ، ورفض حق التصويت للسود ، دون نسيان مشكلات اليوم من التمنع عن التصويت وهيمنة المال واللوبيات ، وطابع الاثارة الاجتماعية الكاريكاتوري الذي تتخذه السياسة ، وقرون التناوب بين الثورات الدموية والقمع الشرس ؟ وفي فرنسا ، كيف ننسى المئة والخمسين عاماً الفاصلة بين اول عملية اقتراع عام 1795 وحق الانتخاب للنساء الفرنسيات ؟

كل هذه الاسئلة يطرحها الدبلوماسي الفرنسي (هوبير فيدرين ) في كتابه الذي يحمل عنوان ( استمرار التاريخ ) ويضيف القول ( ان على الغرب التشجيع على الديمقراطية دون السعي الى فرضها ) . فالديمقراطية ( ليست نسكافية !) اي ليست قهوة فورية الصنع على رأي الكاتب المكسيكي ( اوكتافيو باز) . اي ليست بسيطة او سهلة او خطية او احادية الاتجاه([11])

في الواقع وبقدر تعلق الامر بالحالة العراقية اليوم ، نريد ان نحذر من الخلط بين ( اعادة) الديمقراطية بعد عام 1945 في المانيا وايطاليا ثم اسبانيا والبرتغال واليونان وامريكا اللاتينية ، وبين (اقامة) الديمقراطية، في بلاد لم يكن لها ( قبلا) وجود مكتمل ولا حتى نصف مكتمل وإن كانت هناك جذور فكرية ولحظات عملية للديمقراطية كما هو الحال في العراق الملكي . اما التشبه بالتجربة اليابانية في اقامة الديمقراطية فان اليابان هي من المجتمعات المتجانسة، بينما العراق من المجتمعات المتنافرة . اذ ان الملاحظ ان التنوع الديني والعرقي والمذهبي في العراق ، وتعدد الثقافات الفرعية لم يصل الى مستوى التعايش والاندماج في اطار الهوية الوطنية الشاملة بل يتجسد في انتماءات ضيقة تفشل خطط التنمية السياسية وتجعل الوحدة الوطنية ضمن الخطر المستديم . لذلك يمكن القول ان هشاشة الهوية الوطنية العراقية المتقطعة الاوصال ، يساعد على ديمومة التوتر والعنف في الوضع السياسي والاجتماعي العراقي([12]).

          فالصراع على بناء الدولة العراقية هو في جوهره صراع على هويتها ، ومن يكسب هذا الصراع هو في النهاية سيكون الاقدر على تحديد ايديولوجية الدولة، ومن ثم هويتها ([13]) ، وطالما ان الهوية العراقية قد اتسمت بالسيولة التامة في ظل الاحتلال الامريكي ، فإنها يسرت الذهاب الى ملاذات اخرى بديلة للهوية ، مما ادى الى انتعاش الهويات الفرعية من مثل القبلية – الاثنية – الطائفية ... الخ([14]) . ان هذا الخلاف حول الهوية ، وغياب وجود هوية عراقية ديمقراطية او هوية ديمقراطية عراقية، وضعف العقيدة الوطنية العراقية  وضعف تجانس الشعب العراقي ، من شانه ان يوجد شرخا ما بين مكونات المجتمع العراقي خاصة إذا ما استغلت من الاحتلال والقوى المناوئة للعملية السياسية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عامر حسن فياض  (ان العراق يشكو من قلة العراقيين ). وهو في ذلك لا يقصد قلة عدد السكان، وانما يقصد ضعف ولاء العراقيين للدولة العراقية كدولة ولا نقصد هنا الحكومة([15]).

       واذا كانت التقنيات الديمقراطية ( مثل الانتخابات تحت الرقابة ) سهلة التصدير، فان الثقافة الديمقراطية (احترام حقوق الاقليات ، حقوق المواطن ) يتطلب زرعها في النفوس زمناً طويلاً([16]). كيف نخلط في المحصلة بين مسار الديمقراطية الداخلية عبر الامكانات الموضوعية الملائمة التي يكتنزها المجتمع ، وبين فرض الديمقراطية من الخارج دون توافر هذه الامكانات الموضوعية الملائمة ؟

بالنتيجة فان المرحلة التي يمر بها عراق اليوم ليست مرحلة ديمقراطية ولا مرحلة تحول الديمقراطي بل هي مرحلة ( تطعيم)· ديمقراطي؟ وهذا التطعيم لا ينجح في ازاحة اثار وحش الشمولية القديم وازاحة ممارسات وحوش الشمولية العراقية الجديدة دون تمكين . والتمكين بقدر ما يكشف امكانيات ينبغي ان يخلق امكانيات للعبور بالعراق من  المرحلة الانتقالية الى مرحلة التحول الديمقراطي . وليس هناك من كفيل بكشف وخلق الامكانيات للتحول الديمقراطي سوى مؤسسات الدولة المدنية . فالأخيرة ( أيّ المؤسسات ) ستكون قادرة على تجاوز تشوهات العملية السياسية وتحقق المصالحة الوطنية وتجنب العراق من توحش الشموليين الجدد في رحم ديمقراطية عراقية وليدة . كما انها (أيّ المؤسسات ) ستكون قادرة على تحقيق المهمات الخاصة بالمرحلة الانتقالية وتتعامل مع متناقضاتها ومتغيراتها وتعارضاتها تعاملاً ايجابياً ايضاً .

وهذه المهمات الخاصة بدولة المرحلة الانتقالية ( أيّ دولة المؤسسات والقانون ) تتضمن ضمان الامن والاستقرار وبناء المؤسسات على اسس ديمقراطية ، واعتماد آليات الاسراع في استكمال السيادة وصيانة الاستقلال ، وتصفية آثار الدكتاتورية القديمة والجديدة ، وانهاء مظاهر المحاصصة والتمييز القومي والاستبعاد الطائفي وانهاء التهجير والنزوح القسري وعودة المهجرين والنازحين، واحترام تعددية الشعائر الدينية ، واعمار العراق . وان تحقيق دولة مستقرة تكون معبرة عن فئات الامة كلها يرتبط هنا بقيام الديمقراطية السياسية([17]) .

       هنا نصل إلى نتيجة تفيد ان استكمال بناء دولة المؤسسات والقانون ( الدولة المدنية ) يمثل مستدعى مهم للدخول في مرحلة التحول الديمقراطي في العراق المعاصر بمعنى ان التحول الديمقراطي يقتضي استكمال بناء الدولة المدنية بوصفه( اي هذا الاستكمال ) شرطاً وجودياً لازماً للتحول . بيد ان هذا الاستكمال لا يؤدي أوتوماتيكيا الى التحول الديمقراطي، ولكن اي تحول ديمقراطي لا يتم دون استكمال بناء دولة المؤسسات بيد ان مفتاح الدخول الى دولة المؤسسات هو الحكم الصالح .

وفي العراق ، فان أشكالاً معينة من الديمقراطية التوافقية ، التي تأخذ في نظر الاهتمام الانقسامات الاثنية – الدينية، قد تكون ضرورية بوصفها حالة انتقالية نحو نظام ديمقراطي كامل لا يتضمن أي ممارسات تمييزية([18]). اذ لا يجوز عد الديمقراطية التوافقية شكلاً نهائياً للديمقراطية المطبقة في العراق، بل هي مرحلة انتقالية لابد من المرور والعبور فوقها نحو الافضل . والسبب في ذلك انها من الممكن ان تصيب مؤسسات الدولة التشريعية والدستورية بالشلل الدائم وعدم القدرة على الاستجابة لطموحات مواطنيها ، وعندما لا يحمل النظام السياسي صفة القدرة على المرونة والتغير من داخله وبالوسائل السلمية، فانه سيتفجر من داخله بكل تأكيد استجابة للحراك الدينامي الاجتماعي والسياسي ([19]). ويبدو ان اعتماد هذه الديمقراطية التوافقية بحاجة الى مقومات تجعل منها آلية فاعلة وتجنب حالة الانزلاق الى تدافعات وصراعات تأخذ شكلاً عنفياً ، واهم هذه المقومات هو تبلور مفهوم الدولة على حساب السلطة([20]). وان خيار الديمقراطية المدنية هو الخيار الانسب من خيار الديمقراطية الطائفية. فالديمقراطية المدنية اوسع واقدر على احتضان جميع المكونات وتيارات المجتمع المتعدد ، بينما الديمقراطية الطائفية من الضيق بمكان بحيث قد تلفظ حتى اصحابها والمتبنين لها([21]).

 لذا ان تأسيس ما يعرف بالعدالة الانتقالية – خصوصا للمجتمعات التي تمتلك ارثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الانسان - يتيح للدولة والنظام السياسي اعادة تأسيس الشرعية على اسس جديدة قائمة على اساس العدل واحترام القانون والمساوة بين جميع المواطنين في الواجبات والمسؤوليات والحقوق، والمصالحة الوطنية وتعويض الضحايا والمتضررين واصلاح المؤسسات العامة([22]) .

 


([1])  د. حسنين توفيق إبراهيم، الانتقال الديمقراطي: إطار نظري ، الانترنيت ، على الموقع   الالكتروني

http://studies.aljazeera.net/ar/files/arabworlddemocracy/2013/01/201312495334831438.html

([2])  صامويل هانتنجتون ،الموجة الثالثة التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين ، ترجمة د. عبد الوهاب علوب،  دار سعاد الصباح ، الكويت ، 1993  ، ص 73 .

([3]) محمد نور الدين افاية، الديمقراطية المنقوصة : في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه ، منتدى المعارف ، بيروت ، ،2013 ، ص 94 .

([4])  المصدر نفسه ، ص 93.

([5])  د. حسنين توفيق إبراهيم، مصدر سابق .

([6]) د . برهان غليون ،الديمقراطية من منظور المشروع الحضاري ، من كتاب (نحو مشروع حضاري نهضوي عربي)( ندوة فكرية) ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2001 ، ص ص 440-443 . وعن التحول ينظر ايضاً جمال عبد الكريم الشبلي ، التحول الديمقراطي وحرية الصحافة في الاردن ، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، العدد 39 ، ابو ظبي، 2000 ،  ص 8 .

([7]) ينظر د. عامر حسن فياض واخرون ، ولايات الشر المتأسلم ، الدار العربية للعلوم- ناشرون  ودار العرب للنشر والتوزيع، بيروت،2015 .

·  في سياق هذه الفكرة من الضروري لعملية الدمقرطة ان تنتظر عملية بناء الدولة . وحيثما تكون الدولة قد انهارت بشكل كامل ، او سقطت تحت وطأة صراع اهلي ، او تحت وطأة كوارث متراكمة او حادة ، فان الانتقال السريع نحو المنافسة السياسية المفتوحة ونحو الانتخابات العامة يشكل عملاً بعيداً عن الرشد . فالدولة في حاجة الى القدرة على العمل بالحد الادنى ، على الاقل ، كما ينبغي لها ان تمتلك ما يشمل احتكارا لحق استعمال القوة المسلحة ، قبل ان يتسنى لمثل هذا البلد ان يجر نفسه الى طريق التطور الديمقراطي التعددي المستدام . ينظر توماس كاروثرز ، كيف تنشأ الديمقراطيات المغالطة في النظرية التعاقبية حول الديمقراطية  ، مجلة الديمقراطية ، العدد 18 ، كانون الثاني / يناير 2007 ، ص11.

([8])  ينظر د. عامر حسن فياض، بناء الدولة المدنية وشقاء التحول الديمقراطي في العراق المعاصر، مجلة فكر، العدد الخامس، بغداد،  2008 ، ص ص 20-21 .

([9])  كينث بولاك، قراءة ميكافللي للوضع في العراق ،  نشرة العراق في مراكز الابحاث العالمية ، العدد 5 ، مركز الدراسات الاستراتيجية ، جامعة كربلاء ، الاثنين 25/2 /2013 ، ص  6 .

([10]) ينظر للمقارنة بين تصنيفات هذه الدول أ.م.د اياد العنبر وم.م حسن علي الاسدي ، الدولة الهشة وبناء السلم الاهلي: عراق ما بعد داعش أنموذجاً ، مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية ، جامعة الكوفة، العدد 35 ، 2018 ، ص 125.

([11]) د . محمد نور الدين أفاية ، مصدر سابق، ص 91 .

([12]) سليم مطر، الذات الجريحة إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي (الشرقمتوسطي)، ط4، مركز دراسات الأمة العراقية، بغداد، 2008 .ص 363 .

([13])  د. جابر حبيب جابر ، الانسداد السياسي  الاستبداد وحلم الديمقراطية في العراق ، دار التنوير ، بيروت ، 2015 ، ص152.

([14]) أ . د عبد علي كاظم المعموري ، اشكالية المواطنة والهوية الوطنية العراقية ( ارث الماضي وعصف الاحتلال ) ، من كتاب ( المواطنة والهوية العراقية) ، بيسان للنشر والتوزيع والاعلام ، بيروت ،  تموز 2011 ، ص 46 .

([15]) د عامر حسن فياض في ندوة تلفزيونية عام 2005 . نقلا عن د. عبد الجبار احمد عبد الله ، اليات تفكيك الحرب الاهلية، مجلة المستقبل العراقي ، ، العدد 7 ، مركز العراق للأبحاث ، حزيران (يونيو ) 2006، ص 37 . وينظر كذلك أ . د عبد الجبار احمد عبد الله ، العراق ومحنة الديمقراطية ( دراسات سياسية راهنة ) بغداد ، 2013، ص 144 .

([16])  ينظر مصطفى الكاظمي ، مسألة العراق المصالحة بين الماضي والمستقبل ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت،2012،  ص 32 .

·  يقصد بعملية التطعيم النباتي تركيب جزء من نبات ( برعم أو قلم ) واتحاده مع نبات آخر لتكوين نبات جديد، ويسمى النبات الذي يركب عليه بالأصل للاستفادة من مجموعه الجذري، بينما النبات الأخر الذي ينمو فيكون المجموع الخضري والثمري يسمى الطعم، وتعتبر عملية التطعيم أحد طرائق الإكثار الخضري، وللتطعيم عنصرين أساسين هما الطعم والأصل حسب الشكل. ينظر شبكة المعرفة الريفية ، الانترنيت ، الموقع الالكتروني

http://www.reefnet.gov.sy/reef/index.php?option=com_content&view=article&id=1987:2010-04-13-07-21-02&catid=211:2010-04-11-07-20-19&Itemid=198

 

([17]) د . برهان غليون، المسالة الطائفية ومشكلة الاقليات ، مصدر سابق ،  ص 117 .

([18])  ابراهيم البدوي وسمير المقدسي ، تفسير العجز الديمقراطي في الوطن العربي ، مجلة المستقبل العربي ،العدد 384 ، شباط  2011، ص 95.

([19]) رضوان زيادة ،الديمقراطية التوافقية كمرحلة اولية في عملية التحول الديمقراطي قي الوطن العربي ، مجلة المستقبل العربي ، العدد 334 ، كانون الاول 2006 ، ص 93 .

([20]) د. ياسين سعد محمد البكري،مقومات التعايش السلمي في العراق في ظل الانقسامات الفئوية ، اعمال المؤتمر السنوي الثاني لكلية العلوم السياسية والاجتماعية ، جامعة السليمانية ، 2011 ، ص 336  .

([21])  كاظم شبيب ، المسالة الطائفية تعدد الهويات في الدولة الواحدة ، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، 2011 ، ص ص  176 177 .

([22])رضوان زيادة ، مصدر سابق ،ص 93. 

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك