دراسات

ثقافة إدارة الاختلاف

2436 2019-01-26

علي عبد سلمان

 

الاختلاف حقيقة متحركّة في الواقع الإنساني، وهو في جزء منه يمثّل حالة ذاتية ترجع للطبائع والأمزجة المتفاوتة عند الناس، وفي جزء آخر يمثّل حالة عارضة ترتبط بالتفاوت في قراءة النص، أو الواقع. فهو حقيقة تفرض نفسها، وتحتلّ مساحة من الواقع الفعلي على مختلف المستويات، العقائدية والفكرية والاجتماعية والسياسية.  فالاختلاف العقائدي مثلاً، يتحرّك تارة على مستوى أصل الاعتقاد بالإله الخالق للكون، وهو يقسّم الناس إلى صاحب عقيدة إلهية، وملحد. وأخرى يكون الاختلاف في التوحيد وعدمه، وهو يقسّم الناس إلى موحّد ومشرك. وثالثة في نبوّة النبي الخاتم، نبيّ الإسلام محمد بن عبد الله (ص)، وهو يقسّم الناس إلى مسلم وغير مسلم (كافر). كما أنّه يقع بين المسلمين أنفسهم، ما يصنّف المسلمين إلى فُرَق وطوائف. كما يتحرّك الاختلافات على المستوى الفقهي فتتشكّل المذاهب والمدارس الفقهية. وعلى المستوى السياسي فتتشكّل التكتّلات والتيّارات السياسية. وهكذا.

 وعلى هذا الأساس يتحتّم على الإنسان لكي يعيش حياته بصورة طبيعيّة وسويّة، بعيدة عن التوتّرات والنزاعات، أن تكون له ثقافة التعايش، وثقافة إدارة الاختلاف. وهي ثقافة ضروريّة ولازمة لكلّ إنسان، لأنّ الاختلاف حالة ملازمة للحياة الإنسانية كما عرفنا. وعلى كلّ حال، فالاختلاف حتّى في أعمق مستوياته - أعني العقائدي - ينبغي أن يكون له ضوابط وأصول، ولا بدّ أن يتحرّك ضمن ثقافة الاحترام المتبادل. والاختلاف في حدّ ذاته لا ينبغي أن يبرّر الاحتراب والمواجهة العنيفة. ولذلك نجد الإسلام لا يجيز للمسلم مواجهة الكافر ومحاربته لمجرّد كفره ورفضه للعقيدة الإسلامية، إلاّ أن يكون محارباً، قال تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين ( 8 ) إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فألئك هم الظالمون ( 9 ) }الممتحنة. { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمناً بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }العنكبوت/46.

  فالقرآن الكريم يقدّم - كما هو مدلول الآية الأولى - قاعدة كليّة لطبيعة وكيفيّة علاقة المسلمين مع غير المسلمين، وهي أن تقوم هذه العلاقة على أساس من البر والقسط أي العدل. وهي ما يعبّر عنها هذه الأيام ( بالاحترام المتبادل ). إلاّ أن يكون لهم موقف عدائي من المسلمين فحينئذٍ لا يجوز إقامة علاقة البر والقسط معهم، بل لابدّ من مواجهتهم والردّ عليهم بما يردعهم عن غيّهم وعدوانهم. كما يؤكّد القرآن - كما هو واضح من الآية الثانية - على ثقافة المجادلة بالتي هي أحسن، وهو ما يعرف اليوم ( بثقافة الحوار ). فالقاعدة الأوليّة إذن في العلاقة مع الكفّار، هي الحوار معهم والبر بهم والإقساط إليهم. فيا تري ما هي القاعدة الأوليّة في العلاقة بين المسلمين والمؤمنين أنفسهم؟. القاعدة - كما هو واضح دينياً - هي ما يقرّره قوله تعالى: { إنّما المؤمنون أخوة.. }الحجرات/49، وقوله سبحانه: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.. }التوبة/9. وما تقرّره الروايات الشريف الكثيرة، كقول الرسول الكريم ( ص ): " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه "، وقوله ( ص ): " مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى "، وقول الإمام الصادق ( ع ): " المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة ". وهناك حقوق كثيرة تترتّب على هذه الأخوّة الإيمانيّة - أوصلتها بعض الروايات إلى ثلاثين حقّاً - لسنا بصدد الحديث عنها.

  نعم، الأخوّة الإيمانيّة، والولاية الإيمانية، عنوانان جميلان لحقيقتين عميقتين متجذّرتين في صميم الإسلام. وهذان التعبيران هما غاية ما يمكن أن يطرح لبيان عمق العلاقة بين شخص وآخر. والاختلاف بين المسلمين مهما اشتد وكبر، لا يبرّر التنازع والتحارب أبداً، بل لا يبرّر ذلك بين المسلم والكافر - كما عرفت - فضلاً عن المسلمين فيما بينهم.

  ومن هنا يفهم أنّ الاختلاف المبدئي والثقافة الأيديولوجية مهما ترسّخت لا تمثّل سبباً لظاهرة التطرف، وليست هي المحرّك للعنف والتصادم، كما يدّعي البعض. إذ أنّ قضيّة الأدلجة حقيقة لا ينفك عنها أي مذهب فكري، سواء كان دينياً أم غير ديني. فهذه الدعوى غير دقيقة، بل لا تتوافق مع الواقع، إذ أنّ التاريخ ينقل لنا صوراً من الصلابة الدينية والعمق الأيديولوجي المقترنة بصورٍ رائعة من التعامل مع الآخر على أساس من التسامح والخلق الرفيع والعدل والإحسان.. . وسيرة الرسول الأكرم والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، خير شاهد على ذلك.

  فلا تعارض بين المبدئية والثقافة الأيديولوجية من جهة، والتسامح والرفق.. من جهة أخرى. قال تعالى: { ومن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين ( 33 ) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالَّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم ( 43 ) }فصلت.

  فالقضية إذن ليست قضية أيديولوجيا، وإنّما قضيّة أخلاق، وإدارة للخلاف مع الآخر.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك