( بقلم : منشد مطلق المنشداوي ماجستير آثار )
أولا - الـــصـحــة :إن هذا الجانب من الحياة الاجتماعية يعد من الأمور الضرورية الأولى ، التي تعبر عن مدى سلامة هذا المجتمع ، وانضباطه وتجاوبه مع متطلبات الحياة عموما ، لأنه يحمل في طياته عدة مجالات وتدخل تحت جناحه تقريبا كل الميادين الأخرى ، سواء كانت تعليمية أو زراعية أو غيرها ، فمن حيث التعليم يدرج هذا الجانب في موضوع التوعية الصحية ومدى ثقافة المجتمع وتعرفهم عليها ، فالجهل بالوقاية والنظافة والمحافظة على التوازن الجسمي والروحي كل ذلك قد يضر بالصحة إضرارا كبيرا ، أما من حيث علاقة المجال الصحي بالزراعي فإن سوء التغذية ونقصها قد يؤدي بالصحة إلى الهاوية والتحلل والهزال ويعيق سير الفرد العادي ، وبالتالي يعيق انضباط المجتمع الذي تسود فيه مثل هذه المظاهر .فبالنسبة إلى المجتمع الوهابي في مجال الصحة فإنه حسب ما ورد في الكتب التي تتحدث عنه ، يتبين لنا أن هذا الجانب كان مضمحلا ، وغير مؤبه به بالمعنى اللازم لحماية الأفراد الذين يحويهم هذا المجتمع . فقلما كان يوجد طبيب أو مستشفى سواء في المدينة أو القرية الشبه حاضرة ، أما في البوادي فكان الانعدام التام من هذا الركن الاجتماعي . وقد ورد أن عبد الله بن فيصل لما نقل إلى حابل ليعيش فيها كأسير عند محمد بن رشيد مرض مرضا شديدا ، ولم يكن هناك في منطقته طبيب يعرض عليه ، لولا أن الأمير بن رشيد اغتنم فرصة مرور أحد الأطباء الفارسيين مع قوافل الحجيج ، فعرض عليه المرض وقرر أنه مصاب بمرض خطير...الخ(1) . ولنقص هذا العلم ورجاله في المجتمع الوهابي انتشرت الأمراض الكثيرة كالحمى والملاريا والتيفوئيد ...الخ . ولقد كانت هذه الأمراض البكتيرية وخاصة المعدية منها تنتشر بكثرة في المجتمعات البدوية خاصة ، وذلك نتيجة الأوساخ في مصادر المياه ، وما يلوثها من أزبال ترمى في الآبار والسواقي الصالحة للشرب ، وكذلك كانت ناتجة عن سوء التغذية ونقصها والتي كانت أعراضها تجتاح المجتمع الوهابي في بعض الأوقات ويكون البدو هم الأكثر تضررا من هذه الموجات و الاضطرابات في الإنتاج الزراعي(2) .وتستخلص هذه الحصيلة والنسبة المرتفعة من الأمراض التي كانت تحدث بشكل وبائي في المجتمع الوهابي من عدة كتب تؤرخ له أهمها : كتاب الأخبار النجدية لمحمد بن عمر الفاخري أنقل منه بعض المقتطفات ، حيث يقول فيها :- " وفي سنة 1224 اشتد الوباء والمرض في الدرعية مرض كثير منهم وسلموا ومرض غيرهم فماتوا " .- " وفي سنة أول رمضان من سنة 1245 هـ وقع الزكام والسعال فمات خلق كثير من الأطفال"- " وفي سنة 1252 استمر الاضطراب والخدل ووقع الجدري بالصبيان فيها وفي آخر التي قبلها ، وفيها ضعفت أحوال الناس جدا "(3) .وهكذا على مثل هذه الأخبار مضى أسلوب الكاتب ، وقد كانت الطرق التي يستعملها سكان هذه المناطق لمقاومة الزحف الوبائي عليهم ، تتمثل في أساليب الطب الشعبي الشائع منذ القديم فكان يتخذ طريقتين :- الطريقة المادية بواسطة الكي والوصفات العشبية العفوية إن صح التعبير.- وهناك الطريقة الروحية ، أو التداوي بالرقي والتعاويذ ، وذلك بواسطة عرافين وقراء اشتهروا بالإصابة في هذا النوع من الاستشفاء(4). كل ذلك كان في العهد الوهابي الأول .فقد ذكر أن الملك عبد العزيز أصيب بدمل صغير في شفته إثر جرح ، وقد أهمل العناية بهذا الجرح الصغير فحصل تقيح شديد فيه مما سبب له حمى شديدة كادت تودي بحياته ، فدعي الطبيب الأمريكي ديم ، فعمل له عملية جراحية بسيطة شفي بعدها بمدة قصيرة ، فكان هذا حافزا له على إدخال الطب الحديث في البلاد(5) .
ثانياً - الــنمـط السيـــاســي :
إن أية كتلة بشرية لا يمكن لها أن تجتمع وتستقر دون أن يكون اجتماعها قائما على سياسة وتعاقد اجتماعي على الوفاق والتعاون من أجل تحقيق حسن المعاش ، وقد تعمدت إدراج هذا النمط تلو النمط الزراعي نظرا لأن أساس الاجتماع والمدينة كما يرى بعض الباحثين كان نتيجة الزيادة في الإنتاج الزراعي الذي يمكن الناس من التحرر من عمل الأرض إلى البناء والتعمير(6) وبالتالي اضطر الأمر إلى تأسيس الدولة ، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته : " فلا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة "(7) .فالحركة الوهابية كانت ولازالت دعوة ودولة ، حصل هذا حينما تعاقد محمد بن عبد الوهاب مع الأمير محمد بن سعود ، فكانت الانطلاقة تحمل طابعا ازدواجياً في القيادة ، بحيث أن الرجلين كانا يصطحبان بعضهما في كل الغزوات ولا يعملان إلا بالمشورة بينهما ، ويطلبان المبايعة لهما معا ، وترسل الوفود الأجنبية إلى كل واحد منهما(8) ، وعلى هذا فقد تقاسما الألقاب والمناصب أيضا ، فكانت هناك الإمامة الكبرى ويقصد بها إمامة الدين يمثلها محمد بن عبد الوهاب والتي ينحصر دورها في التعليم والتدريس والقضاء والإفتاء...، أما محمد بن سعود فكان يحمل لقب الأمير، ويقوم بإدارة شؤون الحكم وتنصيب الولاة على الأقاليم(9) ، وكانت وظيفة هؤلاء الولاة سياسية وإدارية وعشائرية ، كما كان دورهم يتمثل في جمع الزكاة والضرائب وإرسالها إلى المركز وإعلان النفير والدعوة إلى الجهاد الخ(10) .وهكذا كانت حالة محمد بن عبد الوهاب ، ومحمد بن سعود في تقاسمهما للسلطة ، بل إن جانب محمد بن عبد الوهاب كان أكثر نفوذا وبروزا ، نظرا لأخذه بزمام الزعامة العلمية ، وبعد وفاتهما تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يعملوا متعاونين على نشر الدعوة والمحافظة على العهد الذي ألف بين الشيخ والأمير(11) . ولكن حسب ما يبدو ، وبعد وفاة الرجلين ، أن زمام الأمور أخذ ينفرد به الأمير وحده ، ولم يعد هناك شيخ يمكن أن يقال عنه أن له حق التدخل وبسط النفوذ على آراء واتجاهات الأمير فأصبح النظام قائما على الشكل التالي :
1) الإمام (الحاكم) : وهو رئيس الدولة ولقب الإمام هذا أصبح شاملا لمعنى الزعامة الدينية أو العلمية والسياسية فكانت له القيادة العامة للمسلمين في أمورهم(12) .2) ولي العهد : وقد سارت الدولة آنذاك في اختيارها لولي العهد حسب النظام الوراثي القائم على تولية العهد للابن الأكبر للإمام إلا أنه في بعض الحالات كانت تخرج عن هذه القاعدة وتولي أكبر أفراد الأسرة للإمامة دون الابن الأول للإمام(13) .3) أمراء الأقاليم : كانت الدولة بطبيعة الحال مقسمة إلى عدة أقاليم ، وكان يعين على كل إقليم أمير وأحيانا يطلق عليه لقب عامل ، وهذا المنصب مقتبس من الدولة الإسلامية الأولى ، ويأتي بعد منصب ولي العهد مباشرة ، وله من السلطات الواسعة(14) في إدارته للشؤون السياسية والمالية والعسكرية . واستمر هذا المنصب حتى عهد قريب يتم بالوراثة بحيث كان كل أمير يخلفه أحد أبنائه أو قريب منه(15) .4) شيوخ القبائل : إن القبيلة كانت الوحدة الأساسية للمجتمع الوهابي ، لهذا ففي أول أمر الدعوة الوهابية كان أسرع من قبلها هم أصحاب القبائل المجاورة لنجد ، أما أهل الحضر فكانت العلاقة بهم تطبعها الحيطة والحذر، وقد جرت عادة الأمراء الوهابيين على تنصيب الشيوخ القدامى في مناصبهم ودون محاولة عزلهم إلا إذا صدر من أحدهم تمرد فيبدل بأحد أفراد عائلته ، نظرا لأن أصحاب العشائر لا يرضخون بسهولة إلا لمن ألفوا تواجده بينهم وخاصة أصحاب الحسب عندهم(16) .5) أهل الشورى : وكانت مجالسهم تنقسم إلى قسمين :أ- أهل الشورى الخاصة : يحضر هذا المجلس الأمراء وأفراد الأسرة الحاكمة لتدارس المسائل الخاصة ، وتحمل طابعها استثنائيا وسريا .ب- أهل الشورى العامة : وتضم شيوخ القبائل والقضاة والفقهاء لتدارس المسائل العامة ومتطلبات المناطق التي يتولى قيادتها عضو من هؤلاء الأعضاء ، وكانت هذه المجالس تشبه المجالس النيابية الحديثة إلا أنها لم تكن تحمل طابع اختيار الشعب لها بالانتخاب كما هو معمول به حديثا(17) .6) مركز الدولة : كان أول الأمر بالدرعية ، ثم انتقل في المرحلة الثانية من الحكم الوهابي إلى الرياض ، واستمر بها حتى الآن ، حيث يوجد قصر الأمير وديوانه الذي يجتمع فيه مستشاروه وقضاته وأمراؤه ورؤساء الأقاليم ومشايخه(18) .أما فيما يتعلق بآداب المخاطبة بين الأمراء وعامة الشعب فقد كانت تمتاز بالبساطة في التعبير ، بحيث أن أقل البدو كان يخاطب الملك عبد العزيز وغيره بـــــ : يا عبد العزيز أو يا أبا تركي أو يا طويل العمر، والأمراء أنفسهم لم يكونوا يعبأون بالألقاب ، فحينما أخذت الحكومات الحديثة بإطلاق ألقاب على بعض موظفيها مثل : وزير مفوض ووزير دولة .....الخ . بدأت تظهر المعارضة من بعض مفكري الوهابية لهذه الألقاب والدعوة بالرجوع إلى البساطة التي كانت عليها الأمور أولا(19).هذا وإن قيام الدولة الوهابية الجديدة قد أولت الإمام كل السلطات وخولت له حرية التصرف ، وإن تجددت الازدواجية في الحكم والمتمثلة في الأمير والحركة الوهابية بحيث كانوا يقومون بعملية الإفتاء والإجازة والمنع لكل ما يريد الأمير إدخاله من إصلاحات إلى البلاد كما رأينا وخاصة في عهد عبد العزيز ، لغاية أن قاموا بقطع أسلاك التليفون التي استعملها لنفسه وإعلان الثورات القبلية ضده بسبب محاولته إدخال الأنماط التقنية الحديثة للبلاد .أشرنا : وإن تجددت هذه الازدواجية لكنه على التوالي أخذ يضعف تيار الوهابية ، وبدأ الأمراء يستقلون بإصدار القرارات والاستئثار بها(20) . أما من حيث الحريات العامة فإنه لا مجال للاحتجاج في المجتمع الوهابي على تصرفات السلطة ولا مجال للإضرابات ، وقد أعلن هذا منذ 1956(21) . كما أدخلت تعديلات كثيرة على النظام الإداري ، فبعدما كانت البلاد مقسمة إلى أربعة أقاليم على رأس كل إقليم أمير في بداية القرن العشرين فقد جرى تقسيم هذه المناطق إلى إمارات كثيرة تراعي فيها قدرة الأمير على تسيير شؤونها كما تم ربطها بوزارة الداخلية بعد ما كان كل أمير يتصل بالملك مباشرة ، أو نائبه ، في كل ما يحدث له من الأمور صغيرها وكبيرها ، ومع هذا أحدث نظام المقاطعات(22) . وعلى عهد قريب ، أخذنا نسمع بمحاولة إحداث مجالس نيابية على النمط الحديث بالدولة الوهابية وهذا تحول كبير في سياستها الداخلية ، وبالتالي قد يبرز لنا تغيرا في المنظور السياسي للقادة الوهابيين نحو مجتمعهم ، ويؤكد الانسياق الوهابي السياسي والاجتماعي في التبعية للأنظمة الغربية وضغوطاتها ، ولكن بشكل غريب ومتناقض يخدم مصلحة الغرب أكثر من العرب !..
المصادر و المراجع :
1- عبد الفتاح أبو علية ، الدولة السعودية الثانية ، مطبعة المدينة الرياض 1256 – 1709 ، ص 268 .2- عبد الفتاح حسن أبو علية ، الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز 1976 مطبوعات دار الملك عبد العزيز – 1976 ، ص 128 .3- محمد بن عامر الفاخري ، الأخبار النجدية ، المملكة العربية السعودية جامعة محمد بن سعود الإسلامية ، ص ص 136 – 168 – 172 .4- عبد الفتاح حسن أبو علية ، الإصلاح الاجتماعي ، المرجع السابق ، ص 128 .5- حافظ وهبة ، جزيرة العرب في القرن العشرين ، ط 4 ، مكتبة النهضة المصرية ، ص 124 .6- معهد الإنماء العربي ، مجلة الفكر العربي ، ط 2 ، العدد 16 - يوليو 1980 ، ص 82 .7- عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، مطبعة أحمد البابلي ، ص 257 .8- صلاح الدين المختار ، تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها ، ج 1 ، منشورات مكتبة الحياة بيروت ، ص 51 .9- حسين خلف خزعل ، تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ط3 ، مكتبة الحياة بيروت ، ص 268 .10- عبد الفتاح حسن أبو علية ، الإصلاح الاجتماعي ، المرجع السابق ، ص 26 .11- جمال الشيال ، محاضرات عن الحركة الإصلاحية ومراكز للثقافة ، معهد الدراسات العربية العالية - 1957 ، ص 62 .12- عبد الفتاح أبو علية ، الدولة السعودية الثانية ، المرجع السابق ، ص 230 .13- عبد الفتاح أبو علية ، المرجع نفسه ، ص 231 .14- عبد الفتاح أبو علية ، المرجع نفسه ، ص 231 .15- أحمد الجاسر ، المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ، الرياض منشورات دار اليمامة ، القسم الأول أ ، ص 15 .16- حسين خلف خزعل ، تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ ، المرجع السابق ، ص 268 .17- عبد الفتاح أبو علية ، الدولة السعودية الثانية ، المرجع الساق ، ص 234 .18- عبد الفتاح أبو علية ، المرجع نفسه ، ص 231 .19- حافظ وهبة ، جزيرة العرب في القرن العشرين ، المرجع السابق ، ص 105 .20- عبد الفتاح حسن أبو علية ، الإصلاح الاجتماعي ، المرجع السابق ، ص 128 .21- 209 . p Lidis Henri,. PICHERA Pays et continents, L’Asie I. Pour le compte des éditions, 22- أحمد الجاسر ، المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ، ق 1 ، أ . ض .
https://telegram.me/buratha
