أ.م.د: عبد علي حسن الجاسمي
كلية الآداب/جامعة الكوفة
تتعرض دلالات المفردات في سائر النصوص لنوع من الفتور أو القوة، بناء على تعرضها لسياقات المقال والمقام، فالنص في البيئة اللغوية المصحوبة بسياق ما، ينتج دلالة قوية يمكن أن نسميها دلالةً كثيفةً، ولا نريد بالكثافة: الغلظة والثقل بل هي تلك الدلالة المتراكبة طبقاتٍ بعضُها فوق بعض تبعًا لإمداد عنصر السياق لها بما يؤهلها؛ فتَنتُج عنه الدلالات المتعددة، فإن فَقدت الروافدَ السياقية اقتصرت على معانيها السطحية، ودلالتها الأولية، وهو ما يعرف بالمعنى الحَرْفِيّ. ويغيب تفاوت الدلالة وفتورها وقوتها في النص القرآني وتتلاشى فيه المعاني المألوفة في سائر النصوص، إذ تصحبه مفردات إعجازه وتأخذ مفرداته بعضها بحُجز بعض وإن بدت في مظهرها ذات دلالات نمطية، وهي في حقيقتها ليست كذلك بل هناك دقة متناهية اتسمت بها مفردات النص القرآني في مجالها الدلالي، ولم يتحدد نطاق هذه الدقة في حيز المفردات بل انصرف ذلك إلى الحروف، في ظاهرة رافقت النص القرآني منذ وعته العرب حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
في آيتين كريمتين من آيات الذكر الحكيم وردت بعض الحروف فيهما في سياقات تبدو للقارئ الاعتيادي أنها ذات دلالات واحدة وهي في حقيقتها ليست كذلك، إذ هناك سياقات رافقت ورود هذه الحروف غيّرت من معناها وأعطتها زخمًا دلاليًا ذا قصدية واضحة. وهذه الحروف قد تكون حروفًا للمعاني بنحو حروف الجر وحروف النهي أو النفي، أو تكون حروفًا بعينها نحو الضمائر المتصلة، بل قد تكون حركة إعرابية في بعض المواضع.
الآية الأول:
قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(سبأ: ٣ )..
والآية الثانية:
قوله تعالى : (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس: ٦١)
1ــ لَا يَعْزُبُ / مَا يَعْزُبُ.
عزبَ يعزُبُ عُزوبةً: ذهب أو غاب أو بعُدَ. وعَزَبَ عنه يَعْزُبُ عُزوباً: ذهَب. وأَعْزَبَه اللهُ: أَذْهَبَه. وقوله تعالى: (عالِمُ الغَيْبِ لا يَعْزُب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السمواتِ ولا في الأَرض) معناه: لا يَغِـيبُ عن عِلْمِه شيءٌ. وفيه لغتان: عَزَبَ يَعْزُب، ويَعْزِبُ إِذا غابَ.(1) والمتحصل من أصحاب كتب المعجمات والتفسير أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، وأن الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده الله تعالى ابتداءً من غير وساطة؛ كالملائكة والسموات والأرض. وقسم آخر أوجده الله تعالى بوساطة القسم الأول؛ مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون. ولا شك في أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود. فالمعنى: ما يبعد عن مرتبة وجوده من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا وهو في كتاب مبين، وهو كتاب كتبه الله تعالى، وأثبت صور تلك المعلومات فيه. ومتى كان الأمر كذلك، فقد كان عالمًا بها، محيطًا بأحوالها.
في الآية الأولى جاءت (لا) التي تدل على تخلص الفعل للاستقبال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يكون مضارعًا، ونص معظم المتأخرين ذلك.(2 )
أما (ما) في سياق الآية الثانية فهي التي تدخل على الفعل، ويطلق عليها النحاة (غير العاملة) بلا خلاف بينهم وإذا دخلت على الفعل الماضي بقي على مضيه وإذا دخلت على المضارع خلصته للحال عند أكثرهم. واعتُرض بأنهم إنما جعلوها مخلصة للحال إذا لم توجد قرينة غيرها تدل على غير ذلك.(3 )
في ضوء ما تقدم فإن ظاهر الآية 3 من سورة سبأ أنها وردت في سياق التهديد والوعيد لهؤلاء الكفار الذين ظنوا أنهم بمنجاة من قيام الساعة في المستقبل، إذ ارتبط بأذهانهم أن المستقبل لا يحوي قيام الساعة كفرًا وجهلًا وعنادًا لربهم، فخاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم التي ألِفوا استعمالها معنى ومبنى. والله أعلم.
على حين جاءت (ما) في الآية 61 من سورة يونس لتقرير واقع حال المسلمين كافة ولصرف أذهانهم إلى ما يقومون به في وقتهم كما هو ظاهر الآية. أي: في موضع الحالة القائمة فعلًا. فما يكونون فيه من أمورهم هو قائم فعلًا وما يُتلى من القرآن الكريم قد وقع فعلًا. أما العمل فوقوعه مستوٍ في الحال والاستقبال ولكنه في الاستقبال أوكد كي يتقنوا المخالفة فجاءت (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ). فلما استوفى سبحانه وتعالى هذه الأفعال المرئية والواقعة فعلًا جاء النفي بـ (ما) ليؤكد أنه لا يغيب عنه سبحانه وتعالى شيءٌ مما يقع لهم ومما يقومون به.
فقوله تعالى:﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ﴾ كلام مستأنف، وهو عبارة عن خطابين للرسول (ص): الأول منهما عام بجميع شؤونه عليه الصلاة والسلام. والثاني منهما خاص؛ لكنه مندرج تحت عموم الأول. وإنما خُصَّ من العموم؛ لأن القرآن الكريم هو أعظم شؤونه النبي (ص). والغرض منهما بيان الحالة الدائمة المستمرة، التي كان عليها في الماضي والحاضر، والتي يكون عليها في المستقبل؛ ولهذا عطف الثاني على الأول بـ( ما).
ومثلهما في ذلك قوله تعالى:﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ إلا أن الخطاب به عام، يشمل أهل الأرض جميعهم، ويدخل فيه النبي (ص) والمؤمنون دخولاً أوليًّا. والغرض منه بيان الحالة الدائمة المستمرة، التي كان أهل الأرض عليها في الماضي والحاضر، والتي يكونون عليها في المستقبل. والله أعلم.
2ــ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ /وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ.
في (سبأ) الخطاب موجه للنبي (ص) بعد إخباره سبحانه وتعالى له بقول الكافرين. فيقول سبحانه وتعالى لنبيه (ص) أن يقول لهم إنهم سوف يرون ما يَحِلّ بهم. وعندما يصل إلى موضع الشاهد (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ) مستعملًا الضمير فذلك لوجود ما يدل عليه إذ تقدم (قُلْ بَلَى وَرَبِّي) فلم يقلْ سبحانه وتعالى: (لا يعزبُ عن ربك) لأن النبي (ص) قد أقسم بربه عند قوله لهم فيما بعد فوقع عندهم أنه (ص) يتحدث عن الرب تعالى فلا حاجة لذكره في السياق. والله أعلم.
أما في (يونس) فالخطاب موجهٌ للنبي (ص) مباشرة وللمسلمين ولم يتقدم قوله تعالى (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) ما يدلّ عليه فجاء التعبير الذي لا يمكن أن يعوَّض عنه لعدم وجود ما يشير إلى الضمير أو ما يدل عليه.
3ـ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ / مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ.
النفي في سورة (يونس) أقوى وآكد ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ) بزيادة (مِنْ) بخلاف سورة (سبأ) التي قال فيها: (لا يَعْزُب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) من دون (مِنْ). فجاء بـ (لا) النافية للجنس مجانسة لقوة النفي وتوكيده في آية سورة (يونس)، بخلافها في سورة (سبأ)، وهو المتناسب مع السياق، ذلك أن الكلام في سورة (يونس) على مقدار علم الله تعالى وإحاطته بالغيب واطلاعه على أفعال خلقه أينما كانوا. فناسب هذه التأكيدات والاستغراق الدالة عليه (من) و(لا) النافية للجنس، بخلاف سورة (سبأ) التي كان الكلام فيها عن الساعة.( 4)قال الرماني: (وأما الزائدة [يقصد (من)] فلها حالتان: الأولى أن يكون دخولها في الكلام كخروجها، وتسمى الزائدة لتوكيد الاستغراق، وهي الداخلة على الأسماء الموضوعة للعموم، وهي كل نكرة مختصة بالنفي نحو: (ما قام من أحد) فهي مزيدة هنا لمجرد التوكيد، لأن (ما قام أحدٌ و( ما قام من أحد) سيان في إفهام العموم دون احتمال). والثانية: أن تكون زائدة لتفيد التنصيص على العموم، وتسمى الزائدة لاستغراق الجنس، وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو: (ما في الدار من رجل) فهذه تفيد التنصيص على العموم، لأن (ما في الدار رجل) محتمل لنفي الجنس على سبيل العموم، ولنفي واحد من هذا الجنس…) (5 )
لأجل ما تقدَّم من نفي الديمومة والاستمرار في الأفعال الثلاثة السابقة، على سبيل الاستغراق والشمول، صيغت تلك الأفعال بصيغ المضارع المنفي، فعمَّ النفي فيها كل جزء من أجزاء الزمن من دون أن تُقيَّد بزمن معين. ويدلك على ذلك الاستثناء في قوله تعالى:﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ فهو استثناء مفرغ من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن، وعموم التلاوة، وعموم العمل. والمراد[ والله أعلم ]: أنه تعالى شاهد على أهل الأرض جميعهم بما كان منهم، وبما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع، يحصي عليهم أعمالهم؛ وكأنه قيل:{ وما كنت وتكون في شأن، وما تلوت، وما تتلو فيه من قرآن، وما عملتم، وما تعملون من عمل؛ إذ أفضتم وتفيضون فيه، إلا كنا عليكم شهودًا }.
ويعلم من دليل العموم في الأفعال الثلاثة من خلال استعمال النكرات الثلاث التي تعلقت بتلك الأفعال، والواقعة في سياق النفي، أن ما حصل في الماضي، وما يحصل في الحال، والمستقبل من تلك الأفعال سواء، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز.
4ـ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ / فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
إن السياق في سورة (سبأ) سياق غيب مختص بالله تبارك وتعالى الذي يرتبط به مفهوم السماء أو السماوات، فهو جل شأنه يتحدث عن الساعة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، لذلك وضع هذا التعبير لارتباطه بالسماوات وحدها فقدمها على الأرض. أما ما جاء في سورة (يونس) فهو حديث عن أشياء يرتبط الإتيان بها بأهل الأرض لأنها مما يألفون. وليحيط سبحانه وتعالى بكل الأشياء الباقية التي مرت في صدر الآية الكريمة. والله أعلم. فضلًا عن (قد يكون في كل واحد من الشيئين صفة تقتضي التقدم فحينئذ يكون الترجيح لأهمهما في ذلك المحل وإن كانت الأخرى أهم في محل آخر… وأما تقديم السماء على الأرض فلأنها أكملُ شرفًا ومستقرًا، وأُخرت في قوله تعالى في (يونس) لأنه لما تقدم ذكر الخطابين وهو قوله تعالى: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) وهذا بخلاف الآية التي في (سبأ) أيضًا فإنها منتظمة في سياق علم الغيب)(6)
5ـ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ / وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ.
الذي عليه أكثر النحاة أنّ (لا) في سورة سبأ هي العاملة عمل ليس، وفي يونس هي لا النافية للجنس. وكلاهما لا تعملان إلا في النكرة.( 7)
وفي هاتين الآيتين قال ابن هشام الأنصاري: (فأما قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ) فظاهر الأمر جوازُ كون (أصغر) و(أكبر) معطوفين على لفظ (مثقال) أو على محله، وجواز كون لا مع الفتح تبرئة، (8) ومع الرفع مهملة أو عاملة عمل ليس، ويقوّي العطف أنه لم يقرأ في سورة سبأ في قوله سبحانه: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) الآية، إلا بالرفع لما لم يوجد الخفض في لفظ (مثقال) ).( 9)
ولما ذكر تعالى أنه ما يعزب، ولا يعزب عنه أصغر الأشياء، التي لا يعرف الناس أصغر منها، وهي الذرة، بدأ سبحانه وتعالى وقدم ذكرها، ثم بيّن لهم بالعطف عليها أن هناك أصغر منها. وهنا ينطلق الذهن إلى أصغر المصغرات في مقدار، يستحيل عليه تصوره. ثم عطف بعد ذلك ما هو أكبر. وهنا ينطلق الذهن إلى الأشياء الكبيرة العظيمة، التي لا يستطيع عقل الإحاطة بها فشمل النص كل شيء. ومعلوم أن من علم أصغر الأشياء وأكثرها خفاء، كان علمه متعلقًا بأكبر الأشياء وأكثرها ظهورًا.
هوامش:
[1] ظ: لسان العرب (عزب)
2 ظ: الجنى الداني في حروف المعاني لحسن بن قاسم المرادي (ت749هـ) تحقيق طه محسن:330
3 ظ: المصدر السابق.
4ظ: معاني النحو فاضل السامرائي:1/406
5 الجنى الداني: 320
6 البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن، لكمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني (ت651هـ) تحقيق الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثي: 294
7 ظ: إملاء ما من به الرحمن، لللعكبري (ت616هـ): 2/ 30
8 لا التبرئة مصلح كوفي يقابله مصلح لا النافية للجنس عند البصريين.
9 مغني اللبيب: 317