مقدمة:
يعتبر تقديم المشورة القانونية أو العلمية لمن يطلبها أمانة ثقيلة، والكذب والتزوير فيها خيانة للأمانة، لما يترتب على هذه الخيانة من سقوط لضحايا وضياع لحقوق للناس، فكانت عقوبتها
الأخروية شديدة اشارت اليها النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة .
قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (1).وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) .(2)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المستشار مؤتمن، فإن شاء أشار، وإن شاء سكت، فإن شاء فليشر بما لو نزل به فعله( وقال عليه أفضل السلام وأحسنه (من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشد فقد خانه ).
وقد جرى العمل في اغلب دوائر الدولة على الإفتاء بعدم الجواز في حالة عدم وجود نص قانوني يحكم حالة معينة، والحال ان تلك الفتاوى والتفاسير لا سند لها من القانون ، بل إنها ،في حقيقتها ومعناها، إنكاراً للحق وللعدالة.
فضلا عن ان الكثير من الهيئات الإدارية تتعامل مع النصوص القانونية وكأنها نصوص جامدة ميتة فتفرغها في كثير من الأحيان، عند التطبيق، من محتواها الإنساني وغايتها المنشودة، وإذا كانت هي غير قادرة على الفهم الصحيح لحكمة ودور القانون في الحياة الاجتماعية، فانها رغم ذلك تعارض بل وتقف بحزم بوجه كل من يحاول ان يبث في تلك النصوص الحياة والمرونة وروح العدالة ،على خلاف إرادة المشرع العراقي .
وإذا كان هذا هو حال من يتلمس العدالة في النصوص القانونية النافذة ، فما هو حال من يحاول ان يتلمسها عن مصادر القانون الأخرى كالعرف او قواعد العدالة كما هو مقرر في الأنظمة القانونية جميعاً ومنها الشريعة الإسلامية وكذلك القانون العراقي الذي نص على مصادر القانون ومنها العرف وقواعد العدالة وهي نصوص شبه معطلة ، عجزت الإدارات التقليدية عن استيعاب حكمتها ومضمونها العميق.وعلى تفصيل من الامر.
موقف المشرع العراقي من التفسير
تأثر المشرع العراقي بالاتجاهات الحديثة في تفسير القانون ومنها أراء المدرسة التاريخية التي انشأها الالمانيان سافيني وفيخته،التي ترى ان التشريع يستقل عن المشرع ويعيش حياته المستقلة في الجماعة ذاتها ويخضع في تفسيره لكل التطورات التي تحدث داخل الجماعة، وكما يوضح الأستاذ السنهوري رحمه الله، ان القانون هو نبت البيئة وغرس الأجيال المتعاقبة يتطور من مرحلة الى اخرى ويتخطى اعناق القرون يسلمه الاباء للابناء والابناء للأحفاد وهو في كل مرحلة يصطبغ بصبغتها وينضح بلونها. (3)
وعلى هذا النحو نصت المادة (5) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 على انه ( لا ينكر تغير الاحكام بتغير الأزمان )
كما اخذ المشرع العراقي بالتفسير الموسع المتطور للقانون في المواد(1،2،3) من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979 .
حيث نصت المادة (3) منه على انه ( الزام القاضي باتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه )، ولاشك في ان ما قرره المشرع في هذا المقام هو قاعدة عامة تسري على كل فروع القانون العام والخاص ، ما لم يتعارض ذلك مع طبيعة القانون ، كما سنوضح ذلك لاحقاً عند التمييز بين القواعد الجزائية الايجابية والسلبية. الا ان تطبيق هاتين المادتين محدود للغاية على خلاف ارادة المشرع العراقي ولا يزال التمسك بحرفية النصوص هو السائد. رغم ان القضاء الفرنسي والقضاء المصري قد اخذا منذ امد بعيد بالتفسير المتطور للقانون دون ان يسعفهم في ذلك المشرع بنص صريح كما هو حال المشرع العراقي الذي نص على الزامية التفسير المتطور للقانون.
ومن اشهر القائلين بالتفسير المتطور للقانون الفقيه الفرنسي سالي الذي لخص مذهبه في عبارة شهيرة ( الى ما وراء القانون المدني ولكن عن طريق القانون المدني ) أي ان التفسير يبدأ من النصوص ولكن دون ان تكون قيوداً أبدية على ارادة المفسر بل عليه ان يتخطاها إذا اقتضت ذلك حاجات المجتمع وسنة التطور. (4)
تطبيقات خاطئة في تفسير القانون
يعتقد الكثيرون ان التفسير والاجتهاد في تحصيل الاحكام هو من عمل القضاء حصراً ، وهذه فكرة خاطئة بالمرة ، فالتفسير والاجتهاد الاداري الذي تقوم به الهيئات الادارية الاستشارية التي تعرف عادة في اغلب الدول باسم مجلس شورى الدولة، وكذلك تفسيرات واجتهادات رجال الادارة وهم يواجهون يوميا الآلاف من الحالات والوقائع التي تستدعي تطبيق القانون وتفسيره وهم يمارسون صلاحياتهم القانونية بالنظر في ... يتبع
https://telegram.me/buratha