إن أفول السيطرة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط سيؤدي إلى اندثار تقسيمات سايكس ـ بيكو لبلاد الشام. هذا لا يعني أننا نتجه إلى سايكس ـ بيكو آخر، ذلك أن اللاعبين قد تغيروا جذرياً خلال المئة عام الماضية، ونجد صورة مختلفة بسبب التحولات الجغراسية الضخمة وعلى رأسها دور الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي منعت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية من التمدد في بلاد الشام عبر دعمها لسورية والمقاومة بفصائلها كافة.
أفسحت قوة إيران المتصاعدة المجال لدخول روسيا لاعباً أساسيا في المنطقة لتيقّن هذه الأخيرة من أنّ إمكان الانتصار في هذه المواجهة مرجح.
إضافةً إلى ذلك، وجدت روسيا أن لا إمكان للتعاون بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية بعدما استطاعت هذه الأخيرة أن تستولي على ليبيا وتغلق الشركات الروسية العاملة فيها. فقدان موطئ قدم لها على البحر المتوسط يعني عزل روسيا ومحاصرتها فتؤول إلى دولة ضعيفة تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية بدول أميركا اللاتينية في أوساط القرن الماضي، لذلك نجد اليوم أن هذه الدول التي حاولت أميركا كسرها قد ألّفت قوة كبيرة عبر إنشاء جبهة موحدة سُميت «البريكس» (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا).
مثلت «إسرائيل» رأس حربة الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، فهي حامية النفط، مهمتها الأساسية عدم السماح لأي استقلالية للبلدان العربية، فأصبحت الخنجر الذي يعطل المشرق العربي عن مغربه، وجنوبه عن شماله. تحولت «إسرائيل» إلى القوة الضاربة الأميركية، والعصا التي تهدد عبرها كل من تسوّل له نفسه أن يتمرد. قامت السياسة «الإسرائيلية» على مبدأ الهجوم الخاطف الذي يدمّر القوى العسكرية العربية خلال ساعات أو أيام قليلة بدعم لوجستي أميركي، لكن هذا الوضع تغير جذرياً مع احتلال «إسرائيل» لجنوب لبنان عام 1982 فنشأت المقاومة اللبنانية، وتطورت قوة حزب الله واستطاع دحر «إسرائيل» وإرجاعها إلى ما وراء الحدود اللبنانية عام 2000، وكذلك منعها من التوغل مجدداً عام 2006، وأضحت «إسرائيل» وللمرة الأولى منذ نشوئها أمام مرمى صواريخ حزب الله التي تطاول عاصمتها تل أبيب.
لم تعد الحرب خارج الأسوار «الإسرائيلية» ممكنة مما أجبر «إسرائيل» على التوقف عن العربدة والاستيلاء على أراض عربية دون دفع أية أثمان كما حصل عام 1967 في خسارة الجولان والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء.
انكسر رأس الحربة الأميركية، ولم يعد بمقدورها الطلب من «إسرائيل» الإغارة على هذه الدولة العربية أو تلك، وإعادتها إلى بيت الطاعة. تلقت الولايات المتحدة الأميركية ضربة شديدة جراء شلل قدرة «إسرائيل» وأخذت تبحث عن أدوات أخرى تستعملها في معاركها الشرق أوسطية.
الولايات المتحدة الأميركية نفسها أخفقت في المحافظة على أفغانستان ومن ثم العراق بعد الاستيلاء عليهما، وخاصة أنها مضطرة إلى اللجوء إلى شركات خاصة ومرتزقة للقيام بالحرب بدلًا من مواطنيها لأن غالبية شعبها ترفض التجنيد الإجباري والمغامرات الأمبراطورية، وخاصة بعد حرب فيتنام. كما أن الانهيار الاقتصادي عام 2008 من جراء جشع الرأسماليين واصحاب المصارف يمنعها من شن حروب على جبهات مختلفة.
إن الولايات المتحدة الأميركية برئاسة أوباما تعترف بأن مشاكلها الاقتصادية تمنعها من التوسع، فالإمكانات المالية الأميركية تدهورت إلى درجة أصبح فيها عجز الميزانية عنواناً للشلل السياسي، وأي حرب في منطقة الشرق الأوسط ستتحول تلقائياً إلى حرب اقليمية وربما عالمية لا تستطيع أميركا مواجهتها والانتصار فيها، لذلك قررت الانسحاب التدريجي ومحاولة تلزيم وكلاء إقليميين يأتمرون بها.
[راجع جريدة النيويورك تايمز، 4 كانون الثاني 2014 حيث تؤكد «أن الشرق الأوسط اليوم في وضع ما بعد الهيمنة الأميركية»].
هزيمة المبدأ الإمبراطوري
تناثر السوفيات عام 1990؛ وتلاقي الولايات المتحدة الأميركية المصير نفسه بعد هيمنتها لعشرين سنة على العالم كقوة أحادية لا شريك لها. نشوء عالم متعدد الأقطاب يرتكز على نحو أساسي على مفهوم الدولة القومية، فدول البريكس تواجه الولايات المتحدة الأميركية من منطلق مصالحها كدول قومية، ولا تدعي أي منها التحول باتجاه النموذج الأمبراطوري، بل ما يحصل هو العكس تماماً، فها هي روسيا تشدد في أروقة الاسم المتحدة على أن على الولايات المتحدة الأميركية احترام المبادئ التي قامت على أساسها هذه المنظمة العالمية، التي تنص على احترام سيادة الدول على أراضيها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ورفض «الحروب الاستباقية» التي اخترعتها إدارة جورج بوش الابن للتوسع والسيطرة.
إن الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن ضد التدخل العسكري الأميركي في سورية وضع حداً للتوسع الأمبراطوري الأحادي الجانب، كما وضع حداً للهيمنة المطلقة للولايات المتحدة الأميركية على قرارات مجلس الأمن.
نحن اليوم أبعد ما نكون عن تصريحات كارل روف (Karl Rove) مستشار جورج بوش، الذي كان يؤكد عشية حرب العراق أن الولايات المتحدة الأميركية ليست بحاجة إلى معرفة الوقائع على الأرض لأنها هي التي تصنع الوقائع، وبعبارة أخرى، أميركا هي القضاء والقدر!
الصراع الناشب اليوم بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، حول مصير سورية ليس إلا انعكاساً لهزيمة المبدأ الأمبراطوري وانتصاراً للمبدأ القومي، إذ إن كلاً من روسيا وإيران تطالبان المجتمع الدولي بإقرار أن لسورية وحدها الحق في تقرير مصيرها ومصير رئيسها وشكل حكومتها والإصلاحات الواجب القيام بها من اقتصادية واجتماعية وسياسية، بينما تحاول الولايات المتحدة الأميركية جاهدة الحد من خسائرها، وإلا لما كانت قد قبلت بجنيف واحد وجنيف اثنان، فبمجرد قبول المشاركة الروسية في المفاوضات يعني نهاية أحاديتها.
سقوط العولمة الاقتصادية الأميركية
السلاح الأمضى والأفعل الذي قضى على استقلالية الدول وسيادتها على نفسها، وعلى نحو خاص، الدول الصغيرة، هو سلاح العولمة الاقتصادي، إذ تستطيع الولايات المتحدة الأميركية من خلاله أن تحكم العالم عبر إلغاء قوانين الدول القومية، فتكتسح أسواقها وتسيطر على قراراتها.
فالاقتصاد النيوليبرالي يعتمد على فتح الأسواق أمام السلع والبضائع، وصعود النيوليبرالية غير ممكن دون إلغاء الحدود الجغر افية والقيود الاقتصادية للدولة القومية.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990 تزعمت الولايات المتحدة الاميركية قيادة العالم، وأصبح بإمكانها عولمة رأسمالها، فأرغمت الدول على فتح أسواقها، والتخلي عن حماية صناعاتها الوطنية، وإلغاء الضرائب على البضائع المستوردة، والقيام بتصفية إدارات الدولة ومشاريعها القومية عبر الخصخصة، ما يعني القضاء على الطبقة الوسطى القائمة على الإنتاج الصناعي والزراعي وعلى الأدمغة الخلاقة. والطبقة الوسطى هي الدعامة الأساسية لوجود الدولة، وإلغاؤها أدى إلى نشوء فئات مهمشة لجأت إلى التطرف الديني كملاذ لها في المنطقة العربية.
وفي المحصلة يثور هؤلاء المتطرفون فتدعمهم أميركا ضد دولتهم تحت عنوان «حقوق الإنسان»، فلا يعي هذا المواطن أنه، كما دولته، وقع أسير العولمة، المحرك الأساسي لانهيار دولته.
تغطي أميركا هذا الاستعمار المقنع تحت عنوان «استراتيجية السلام»، وكل دولة ترفض فتح حدودها لحرية التجارة تعد مهددة للسلام العالمي! سلام أميركا بالطبع.
النمط الإمبراطوري إذاً ملازم للعولمة، فإن سقطت هذه الأخيرة تلاشى النفوذ الأميركي، لذلك حرصت الولايات المتحدة على فتح أسواق أفريقيا وآسيا وحاربت كل من ناوءها لأن رفض حرية السوق يعني اقتراح بديل لعولمتها، وبالتالي يؤدي إلى تهديد وجودها.
برزت مجموعة من الدول استطاعت أن تواجه العولمة الأميركية الخانقة، ألا وهي دول البريكس، وكذلك ايران لأنها، وبالرغم من العقوبات القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية لكسر إرادتها، استطاعت أن تحفز صناعاتها في المجال العسكري والتنموي والزراعي والصحي، وأن تؤدي دوراً مهما ً في خلق تكنولوجيا علمية متقدمة. أما روسيا، فلقد نهضت من كبوتها بسبب عدم خصخصتها للقطاع العسكري، الذي عليه قامت أنقاض الدولة الحديثة، فيما الصين عملاق اقتصادي سيبز أميركا بعد سنوات قليلة.
تعاون دول البريكس ومواجهتها للتسلط الأميركي يعنيان فشل العولمة والاتجاه نحو نظام اقتصادي جديد لم نتبين معالمه بعد، لكنه يحاول أن يتخلى عن الدولار كعملة للتعامل. وأظهرت أميركا قلقاً كبيراً من التعامل عبر الانترنت بعملة خاصة بهذا المرفق لا علاقة لها بالدولار، كما أن العديد من المعاهدات الاقتصادية التي وُقعت في آسيا تقوم على مبدأ المقايضة (barter economy))، أي تبادل السلع والاستغناء عن الدولار كما يحصل بين إيران وروسيا اليوم، مما قد يؤدي إلى سقوط البترو ـــ دولار.
الإرهاب كوسيلة لتفكيك الدول
أول من استعمل الجهاديين الإسلاميين في حروبهم ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان هو الولايات المتحدة الأميركية، وسمتهم «المقاتلون من أجل الحرية»، وجرى استقبال قادتهم بحفاوة في البيت الأبيض، هم الذين لطالما مارسوا القتل ضد السوفيات؛ ولم يتحول اسمهم إلى «إرهابيين» إلا بعد استدارتهم ضد الولايات المتحدة الأميركية.
مثلت هذه الظاهرة في ثمانينيات القرن الماضي أول توكيل (franchise) من قبل الوكالة الأميركية «للمجاهدين السعوديين» للحرب في دولة لا ينتمون إليها، وبالتالي بروز مظهر عسكري للعولمة، إضافة إلى لونه الاقتصادي، وجرى تجييش أئمة مساجد يصدرون الفتاوى الملائمة للجهاد في هذا البلد أو ذاك. فكلنا نعلم أن الدين لا حدود جغرافية له، وباستطاعته الانسياب من ضفة إلى أخرى حسب المتطلبات أو الطلبات.
تحول المجاهد إلى إرهابي فقط بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. الإرهابي إذاً وبحسب الولايات المتحدة الأميركية هو الشخص الذي يقاتل أميركا، أما أن يقاتل دولاً أخرى، تعدها الولايات المتحدة الأميركية عدوة لها، فحينئذ يتحول «الإرهابي» إلى «مسلم سني معتدل».
لقد وجدت أميركا ضالتها في المذهب الوهابي المنتشر في الجزيرة العربية، الذي يختلف عن المذاهب السنية الإسلامية التي ترعرعت ونمت في سوراقيا كالحنفية التي تنتمي إليها غالبية السنّة في هذه المنطقة. اختلاف الوهابية التكفيرية والحنفية تماماً كاختلاف البيئة الصحراوية عن أرض الحضر الخضراء والخصبة والغنية بتلاوينها المتعددة. فالمقاتل الوهابي يريد أن يدمر كل الحضارة الإسلامية ويمسحها من الوجود لتعود كالصحراء، أرضا عاقرا. دخلت أميركا أفغانستان بمعية المقاتلين التكفيريين، ثم احتلت العراق فتبعها الإرهابيون يمعنون قتلاً وتفجيراً بفئات الشعب العراقي الذي لا يواليهم. وانتشر الوباء في أرجاء العالم العربي ولم يترك بلداً إلا دخله من اليمن إلى ليبيا ومصر وتونس وقبلها الجزائر واليوم في سورية.
من سوء حظ السوريين أنهم يدفعون ثمن هذه العاصفة الهوجاء الزاحفة من الصحراء القاحلة، وهم يصدونها بأجسادهم وأجساد أولادهم وأقربائهم وأصدقائهم، هؤلاء السوريون لا يردّون عنا الأذى، نحن الذين نقطن في جوارهم وعلى تماس معهم.
لا تستطيع هذه الموجة أن تبني شيئاً، فتخلفها الشديد عن ركب الحضارة لا يؤهلها إلا للقتل والذبح والتدمير، لذلك مآلها السقوط والموت. النموذج الذي تقدمه هذه الحركات الوهابية التكفيرية القتالية لا يستطيع البقاء أو تأمين أي نوع من الاستمرارية، بل ستتكسر هذه الموجة على ضفاف سوريا بفضل صمود الشعب والجيش. فالشعب يعرف أن الجيش هو الملاذ الأخير للحفاظ على تماسك الوطن، لذلك يدعمه في مصر وفي سوريا غير آبه للألقاب السلبية التي يسبغها الغرب على جيشه، لا لسبب إلا لأنه يريد اندثاره السريع كي تصبح المنطقة ألعوبة في يد «إسرائيل».
لقد برهنت الأحداث الأخيرة أن مصير سوراقيا واحد. فما يصيب العراق يصيب سورية ولبنان والأردن وفلسطين أيضاً والعكس صحيح، فالأردن تأذى على نحو كبير اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً من جراء الاحتلال الأميركي للعراق، فيما الأمر نفسه ينطبق على لبنان بعد نشوب الحرب على سورية عام 2011. والمضحك في الأمر أن بعض التيارات السياسية اللبنانية كانت تبشرنا بأن سقوط الدولة السورية سيؤدي إلى ازدهار لبنان، فأتت النتيجة معاكسة تماماً لتوقعاتهم، وازدهر الإرهاب والفاقة والنزوح السوري.
إن هجمة الولايات المتحدة الأميركية على سوراقيا بعد أحداث أيلول 2001 ستؤدي إلى توحيدها على عدد من الأصعدة، ذلك أن التعاون في ما بينها أساسي لإنقاذ نفسها من الاندثار. فمن الحرب على العراق واحتلالها عام 2003 إلى الحرب على حزب الله عام 2006، ثم الهجوم على غزة بعد محاصرتها سنين، وأخيرا محاولة اسقاط الدولة السورية بواسطة الإرهاب، كلها برهنت أن لا امكان البتة للهرب من هذا المد الجارف، وبالتالي قدرنا المواجهة، والانتصار ممكن بالعمل معا، لا بل هو حتمي لأن هذه هي ارضنا وهويتنا، بينما هم المغيرون الذين يجب صدهم ودحرهم. لقد ربطت أميركا مصير دول المنطقة بعضها بالبعض الآخر، وأتى في ركبها الإرهابيون التكفيريون الذين يريدون أن تستوي حضارة وغنى الهلال الخصيب بالأرض الجرداء.
موقف لبنان الرسمي
بما أن الأصوليات الإسلامية لا تعترف بحدود جغرافية لوجودها، فمن غير الممكن أن تدعي أية دولة النأي بنفسها عن هذا الهجوم، إلا إذا كانت قد قررت الاستسلام سلفاً للتكفيريين ومن هم وراءهم.
وسياسة النأي بالنفس اللبنانية الرسمية تتماشى تماماً مع المقولة اللبنانية الشهيرة «قوة لبنان في ضعفه»، ومضمرها الانصياع التام لمشيئة الدول الكبرى. فكيف ينأى لبنان بنفسه وهو تحت رحمة دول الخليج، وكلما أراد إلقاء القبض على أحد الإرهابيين هددت قطر أو السعودية بإعادة اللبنانيين العاملين فيها إلى بلادهم، أو بقطع المعونات عنه؟ لقد فُصل لبنان عن سورية أساساً كي لا تكون له سيادة أو استقلال، ولكي تظل قراراته خارجة عن إرادته.
أما بالنسبة إلى الحدود ما بين سورية ولبنان، فكلنا نعرف أنها حدود وهمية، فلا بحار أو جبال أو أنهر تفصلنا عن سورية، بل خطوط وضعها الأجنبي، فعزل «طرابلس الشام» عن امتدادها الجغرافي، وبالتالي الاقتصادي، وتعطل مرفأ طرابلس لأنه مرفأ للبضائع الآتية من حمص وحلب. والأمر نفسه ينطبق على محافظتي البقاع والجنوب.
وإضافة إلى ذلك، لا فرق في اللغة بين البلدين، أو في العادات والتقاليد لنتيقن أننا نجتاز حدوداً ثقافية أو اجتماعية أو لغوية، كما هي الحال بين فرنسا وألمانيا مثلاً، وبالرغم من ذلك، فإن هاتين الدولتين قبلتا الانخراط في اتحاد أوروبي موحد لعلمهما بأن الضعف والتراجع سيصيبهما إن لم تتحدا. فكيف بالحري الوضع بين سورية ولبنان، حيث لا منفذاً برياً لهذا الأخير إلا عبر سورية، كما أن الفصل بين من هو سوري ومن هو لبناني صعب للغاية، إذ إن العائلات اللبنانية في غالبيتها المطلقة تحتوي على أقارب سوريين، وتجري المصاهرات إجمالاً ضمن الطوائف لا عبرها. فالزيجات بين السنّة هنا وهناك والشيعة والدروز والمسيحيين أكثر من أن تعد أو تحصى، وبالتالي لا تمثل هذه الخطوط الوهمية أية حدود واقعية، ويظل التداول الاقتصادي عبر التهريب مسيطراً على المناطق الحدودية، ما ينعش القرى ويمنعها من البوار. ويدأب أهالي قرى عكار الحدودية ليس فقط على المصاهرة بل أيضا على شراء حاجياتهم من سورية لرخصها، وإرسال أبنائهم للدراسة فيها لمجانيتها، واللجوء إلى مستشفياتها التي لا تطلب قرشاً من مرضاها.
أخيراً، أود أن أشير إلى الازدواجية في الموقف الأميركي، فهو من جهة يضغط على الدول لفتح أسواقها وإلغاء حدودها أمام الرساميل الأميركية، وأمام بضائعها وفنادقها ومطاعمها واستثماراتها، ومن جهة أخرى، يطالب لبنان بترسيم حدوده مع سورية، بينما تدعم أميركا «إسرائيل» التي لا حدود لدولتها! وهي تغض الطرف عن تركيا، التي تغير على الأراضي العراقية وتقصف طائراتها مناطق الأكراد شمال العراق، إلا أنها تظهر حماسة بالغة في التعنيف والتهديد حالما يسقط صاروخ سوري على الأراضي اللبنانية، أو تجري ملاحقة مسلحين مشتركين في الحرب على سورية.
ترسيخ مفهوم القومية الجامعة
يكمن الحلّ في مقاومة السياسة الامبراطورية الأميركية الغاشمة التي حكمت منطقتنا ستة عقود متتالية، قضت فيها على كل محاولات ترسيخ مفهوم القومية الجامعة، لأنه يتعارض مع مصالحها السياسية والاقتصادية، واستبدلت ذلك بطغيان النموذج الإسلامي الوهابي المتطرف، وصدرته إلى كافة أرجاء العالم تهدد به الدول القومية التي تحاول الاستقلال بقراراتها، فانتشرت مدارس ومساجد الوهابية، وعملت في سوراقيا – وخاصة في ربع القرن الأخير – على تدمير التراث الجامع لوحدة الشعب واستبداله بفكر مذهبي اقصائي يعد موت الحضارة العربية إنجازاً له. إن الإرهاب الديني المتطرف الذي يضرب كافة الدول العربية ليس وليد الساعة، إنما هو نتيجة منطقية لنشر العقيدة الوهابية على مدى عقود طويلة، مما سمح بقيام بيئات حاضنة حاضرة لتتبنى وتحمي وتؤازر هذا الإرهاب المسلح.
جرت محاولات أعدها عبثية في محاولة محاربة الإسلام المتطرف بإسلام معتدل، لأننا نكون في الملعب نفسه، والخانة نفسها من المذهبية الدينية، التي تقود إلى تقسيم المجتمع المتعدد الاتنيات والأديان، ولا ينفع في هذا المجال إلا التشديد على اعتبار الهوية القومية الهوية الأساسية، بمعزل عن الدين أو الجنس أو الاثنية.
لقد سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على سوراقيا، كما من قبلها فرنسا وبريطانيا، عبر المحافظة على التقسيمات المصطنعة، وإذكاء روح الحقد والكراهية بين الكيانات، أما الآن، ومع انحسار نفوذها، فقد وقعت المنطقة في فراغ علينا الاستفادة منه، واستيعابه بالسيطرة على أمورنا عبر العودة إلى وحدة بلاد الشام، أقله اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، لأننا من دون ذلك نسير نحو اندثار قوانا وإمكاناتنا ونفتح الباب لدول اقليمية مجاورة لاستلاب قراراتنا.
إن ترسيخ ثقافة وطنية، قومية، جامعة لكل المكونات التي تحيا ضمن هذه البوتقة الجغرافية يجب أن يجري عبر المدارس العامة في دول الهلال الخصيب، وعلى هذه الثقافة أن تكون مشتركة بين دول المشرق العربي في العراق، وسورية، والأردن، ولبنان، وفلسطين، ذلك أنه بالرغم من أن تقسيمات سايكس ـ بيكو دامت قرنا، إلا أنها لم تستطع أن تغير اللغة العربية الجامعة بين هذه الدول، ولا العادات والتقاليد ولا المصاهرات المتكررة، ولا الموسيقى والفن والأدب المشترك، فلا فرق بين اللبناني والسوري والأردني والعراقي والفلسطيني، وكلما رحل أحدنا من بلد إلى آخر في بلاد الشام، شعر بأنه لا يزال في بيته وبيئته. ولقد برهنت الأحداث بدءاً من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 أن مصيرنا واحد، وأن تضرر أي دولة من دول الهلال الخصيب، يؤدي حتماً إلى تضرر جميع الدول، والشلل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي اللبناني من جراء الحرب على سورية دليل على تلازم المسارات والمآل.
إنشاء دفاع مشترك في سوراقيا
في عام 1996، اتفق المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الاميركية على تنفيذ بنود ورقة تنص على تدمير الجيش العراقي ثم السوري وبعده حزب الله، لافساح المجال امام السيطرة ألاميركية ــ الصهيونية على المنطقة، ومن بعدها محاصرة ايران. تدمير الجيش العراقي عرّى العراق فأصبح مرتعا للارهابيين الذين لم يتوانوا عن القفز فوق الحدود باتجاه سورية ولبنان. التحدي واضح: الهجمة تطاول الجميع ولا امكان للاستجابة الناجحة الا بتضافر جهود كل الدول.
أنطون سعاده هو أول من طالب بإعادة توحيد المنطقة والغاء مفاعيل سايكس ــ بيكو، وأطلق عليها اسم «سوراقيا» (أي بلاد الشام والعراق) عام 1947، لأنه رأى أن لا إمكان لأية دولة منها أن تواجه الأعداء وحدها، لا بل إن غاية سايكس ـ بيكو كانت بالضبط إجهاض أية قوة كامنة فيها عبر تقسيمها. ومن اللافت أن سايكس- بيكو (1916) تزامنت مع وعد بلفور (1917)، فإحداهما تكمل الاخرى في مراميها؛ وبالتالي لا إمكان لمواجهة الإرهاب إلا بتضافر جهود سوراقيا، وإنشاء مجلس عسكري مشترك. سياسة النأي بالنفس لا تنفع، بل تمثل تعاونا مع الإرهاب ولو على نحو سلبي، كما أن المواجهة الأحادية لكل دولة من دول سايكس ـــ بيكو تعني هزيمة هذه الدول، لذلك صرّح رئيس وزراء العراق نوري المالكي بأن من غير الممكن اقتلاع «الدولة الإسلامية» دون أن يجري القضاء عليها في سورية أيضاً، لأن فضاءهما الاستراتيجي واحد.
ولقد تنبه حزب الله لهذه الحقيقة، حقيقة أن المنطقة برمتها مصيرها واحد، شئنا أم أبينا، وسقوط سورية لو حصل يعني سقوط سوراقيا بأكملها أمام الكيان الصهيوني والإرهاب الديني التكفيري، الذي لن يرتدع عن السيطرة على لبنان، وهو أضعف بمئات المرات من سورية أو العراق.
إعادة انتاج طبقة وسطى وطنية
إن الحروب المتتالية الداخلية والخارجية التي شُنّت على سوراقيا – وسايكس ـ بيكو ليست إلا مشروع حروب مستدامة يتفوق فيها الصهيوني – إن هذه الحروب أنهكت إمكان نشوء طبقة وسطى جامعة وعابرة للاتنيات والطوائف المختلفة، ذلك أن الطبقة الوسطى هي الوحيدة التي تستطيع عبر مصالح المواطنين ادماجهم في الوطن، كما أنها تمثل تاريخياً الدعامة الأساسية للدولة، لكونها بحاجة إلى استقرار هذه الأخيرة كي تنفذ مشاريعها الصناعية والزراعية والتكنولوجية والتجارية وعبر دعمها للأدمغة ومنعها من التسرّب خارج الوطن.
لقد دُمرت هذه الطبقة في كل دول «سوراقيا» عبر النزاعات والحروب الأهلية – الطائفية، التي كان للدول الغربية دور كبير في اندلاعها كما حصل في لبنان مع حرب 1975 ـ 1990، ومن بعدها العراق (2003) وسورية (2011). نشاهد اليوم تضخم الطبقات الفقيرة، وتفاقم الجهل والتخلف والأمية وزيادة أعداد العاطلين من العمل زيادة كبيرة، وكل هؤلاء يستقطبهم التطرف الديني، فيجدون فيه ملاذهم من اليأس والشح المادي، ويحوّلهم إلى مشاريع فتن حيث يقتل الأخ أخاه في المواطنة.
إن الفكر الوهابي الإلغائي للآخر لم يبرز في «سوراقيا» الآن، بل ما نشاهده هو الخطوة الأخيرة في سلسلة طويلة من الدعاية والتمويل والتحريض الطائفي والمذهبي، بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي على نحو واضح، بعدما فتحت لها الباب الولايات المتحدة الأميركية دعماً لمصالحها النفطية في الخليج.
لقد قامت السعودية بتطبيع ثقافي ـ ديني لعقود طويلة، فأعادت «سوراقيا» قروناً إلى الوراء بنشرها المعتقدات الوهابية التي تمتد جذورها عميقاً في القضاء على كل أشكال الحضارة العربية الحديثة، فلا فكر ولا أدب ولا شعر ولا فن؛ كل ذلك تجديف وكفر يجب محوه من الوجود.
إن الفراغ المتأتي من الانحسار الأميركي يحتم على دول «سوراقيا» التعاون الوثيق لسد هذا الفراغ، وإلا لبقيت عرضة للغزوات الخارجية والتدمير، وخاصة مع اكتشاف منسوب عال من الغاز والنفط على الشاطئ السوري.
وفي النهاية، سينتصر مبدأ الانفتاح على الانغلاق، ومبدأ التسامح على التكفير، ومبدأ احتضان المواطن ـــ الآخر على رفضه وقتله، ولن نعود إلى ما قبل القرون الوسطى، وإلى مئات من السنين الغابرة، فكما سقطت العولمة الأميركية بفعل تحالف دول قومية كبرى (البريكس) لمواجهة أمبراطوريتها، كذلك ستسقط المدرسة الوهابية التكفيرية وستهضمها «سوراقيا» كما هضمت هجمات هولاكو من قبل، لا بل إن بلاد الشام تنشر حضارتها وعقلانيتها ومعرفتها في أرجاء الجزيرة العربية عبر آلاف وآلاف من مواطنيها، الذين يعملون ويكدون في غربتهم لبنائها وتحديثها فالتيار المعاكس الزاحف من «سوراقيا» باتجاه الخليج هو التيار الأقوى والأقدر على البقاء، وهذا ما تعرفه الجزيرة حق المعرفة، لذلك لجأت إلى حروبها الاستباقية.
* باحثة وأستاذة جامعية
ملاحظة
إن الدكتور كمال خلف الطويل هو أول مَن أعاد إحياء تعبير «سوراقيا» الذي استنبطه انطون سعادة في أربعينيات القرن الماضي. وسوراقيا اسم مركب من سورية الطبيعية (أي سورية، لبنان، الاردن وفلسطين)، والعراق.
أهمية استعمال «سوراقيا» بدلاً من المشرق العربي أو الهلال الخصيب أو سوريا الكبرى، أنه يعين الحدود الجغرافية التي على أساسها تقوم الدولة الحديثة، والتي من خلالها نحصل على هويتنا، فمن الممكن إصدار هوية باسم «سوراقيا»، لكن من غير الممكن إصدار بطاقة هوية معنونة بـ«المشرق العربي» أو «الهلال الخصيب» لعدم وجود حدود واضحة المعالم في هذين التعبيرين، بالرغم من احتوائهما على الدلالة نفسها.
هذا من جهة تحديد الهوية، أما من وجهة النظر الجيو-استراتيجية، فان سوراقيا حاجة ماسة لارساء كتلة ثابتة وقوية على نحو كاف كي تواجه العدو الصهيوني أو أي عدو آخر، فلا تعود ارضا مستباحة من جراء تقسيمها. علاوة على ذلك، تحتوي سوراقيا على كل المكونات الاجتماعية من دينية ومذهبية وعرقية، على نحو متكافئ، بحيث لا يشعر أي مكوّن بالغبن أو التهميش.
أخيرا، تمثل سوراقيا وحدة اقتصادية متكاملة ودورة حياة واحدة من غير الممكن تجزئتها الا اذا اردنا تدميرها. (راجع مؤلّف شارل عيساوي حول «اقتصاد الهلال الخصيب» الذي نشرته جامعة برنستون في الولايات المتحدة الاميركية).
11/5/140301 علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha