بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئةفي التعريف اللغوي الامة: من الام وهي الرأس، وفي الكشاف للزمخشري فان كنانة أمة، لانها من أمهات القبائل. راجع ترتيب مفهوم القبيلة عند الزمخشري.وفي المعنى الاصطلاحي القانوني: الامة هي جماعة بشرية تستوطن بقعة محددة من الارض ترتبط بروابط وعلاقات معينة منها التاريخ المشترك، العرق والجنس، اللغة، والمصالح والغايات المشتركة، ولفظ الامة قانونياً يشمل الاجيال السابقة والاجيال اللاحقة لهذه المجموعة البشرية.غير ان هذه التعريفات تبقى لقاصرة عن تحقيق المفهوم الاسلامي للامة فبعد ترسخ المسلمين في المدينة المنورة خاطبهم الرسول الخاتم (ص) قائلا: صار الاسلام أمة، بمعنى أن صارت هناك روابط وعلاقات مشتركة وتاريخ وأصول تجمع أفراد هذه المجموعة من الناس في منظومة علاقات ترابطية وتكاملية وتأثيرية وتكوينية متكاملة. وقد قال الله في كتابه: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ". آل عمران: 110.وفي حقائق التاريخ فان للامم شروط يجب ان تتحقق كي يمكن أن نطلق على هذه المجموعة البشرية لفظ (أمة)، والامة في الجنس البشري يختلف مفهومها عن الامم في الاجناس الاخرى، فهذه الامم يحكمها الجنس والنوع وفقاً لموقعها في عالم الحيوان، والحق سبحانه يقول: " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون ". الانعام:38ومن هنا نلاحظ أن في غير الجنس البشري يتشكل مفهوم الامة تبعا للجنس والنوع، ولهذا يمكن ان نطلق على كل عائلة النمل لفظ أمة النمل وعلى الطيور لفظ أمة الطيور، والاسماك وغيرها وهكذا.غيرأن هذا المفهوم لا يتحقق في تفسير معنى الامة بالموقف الاسلامي إذ أن أمة المسلمين لا تتحدد بالاصل والعرق وشروط الزمان والمكان وإن توفرت هذه، فالفكر الاسلامي يضع شروطا ومعايير تتفق والعقيدة الاسلامية لتحديد مفهوم الامة. فالمدينة المنورة كانت مسكونة بقبائل عدة لم يكن يعرف عنها مفهوم الامة قبل الاسلام ولما جاء الاسلام وتوطن فيها وصارت له أصول وقواعد وأرض وقيادة وتاريخ وعقيدة وشريعة وقوانين صار المسلمون أمة. شروط الامة الاسلامية:يحتل الجانب الاخلاقي والادبي والتربوي مكانة واسعة في الفكر الاسلامي في الجوانب التاريخية والعقائدية والتشريعية على السواء، وهو يمثل إمتداداً للطروحات الاخلاقية والتربوية التي جائت بها الرسالات السماوية، فالتعاليم التربوية تتجذر في عملية تكوين الامة وتنشئتها جيلاً بعد جيل، ولايمكن للامة أن تحقق صيرورتها دون ان تعي قيمة الجانب الاخلاقي فيها.من هنا كانت قضية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، في قوله: " تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ". غير ان مفهوم الأمر والنهي وفق الرؤية الفكرية للاسلام لايتحقق هو ذاته إلا بشروط، ومن أهم هذه الشروط الايمان بالله، ولهاذ فان اي دعوة للامر بالمعروف والنهي عن المنكر ستكون بلا قيمة ما لم تكن صادرة عن عقل يؤمن بالله، والايمان بحد ذاته يتجاوز مفهوم الاسلام، لانه يعني كمال الاسلام نفسه، ولهاذ فلكل أمة من الديانات السابقة مؤمنوها وهم مؤمنون حقاً. فالذين آمنو بنوح (ع) مؤمنون، والذين إتبعوا إبراهيم (ع) مؤمنون، وكذك أتباع أسباط موسى (ع) وحواريي عيسى بن مريم (ع).ولعلنا سنفهم من هذا المعنى أن الايمان قاعدة أساسية لتحقيق قضية الامر والنهي، ولا يجوز لاي كان ان يتبنى هذه الفكرى إلا عن وعي وإيمان كامل بمعاني الشريعة والعقيدة وتطبيقاتها، وهذا لا يتحقق ولن يتحقق في العصر الحاضر لان شروط الإيمان الحقيقي لم تتوفر في اي واحد منا. مما يعني اننا يجب ان نأخذ بابسط الامور وان لا نتشدد ونجعل الشريعة قيداً في رقاب الناس. فالذي يطالب باقامة الحدود عليه ان يوفر مجتمعا اسلامياً غنياً وثرياً وقوياً يحمل صفات أخلاقية وتربوية عالية قبل أن يطالب الافراد بالخضوع لمعايير الشريعة.فمن يعرفون بجماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجزيرة العربية مثلاً لا يحملون أية قيمة تشريعية لانم يفتقرون للاصالة في الجانب الايماني كما يظهر من فتاوى شيوخهم، ولا في الجانب الأخلاقي كما يبدو من سلوكهم الظاهر بين المجتمع، كما لم يظهر لنا تاريخياً اي دليل عقلي يثبت تحقق الدولة الاسلامية هناك، وهذه ايضاً لم تتحقق في إيران ولا في أي مكان في بقاع الارض من التاريخ الحديث والمعاصر، ولا من التواريخ السابقة لمراحل حركة الاسلام، إلا في مرحلة الرسالة (عصر الرسالة) وبعدها بحدود ضيقة ايضاً.من هنا ندرك ان معايير الزمان والمكان لا تكفي وحدها لتكون قياساً واقعياً وحقيقياً لتشكل الامة وبنائها، ولكن للامر تعلق بالجانب الفكري والاخلاقي والمبدئي ووعي الافراد والمجتمع .القيمة الواقعية للامة:يكمن المبدأ الاساس في قيمة أي امة هو في قدرتها على تحقيق صيرورتها وغائية وجودها، فالامم غير البشرية تتحقق صيرورتها بالاستمرار بالتناسل والتكاثر، وهو مبدأ أساس في إستمرار نوع اي من الحيوانات في مملكة الحيوان ككل. فبقاء الحيوان على قيد الحياة منوط بشروط العيش والتناسل وشروط الزمان والمكان، ولا تدخل في هذه الشروط القواعد الاخلاقية والنفسية والفكرية لان الحيوان غير ملزم ولا مكلف ولا تقع عليه الحجة. حتى وان بدت في بعض افعاله وسلوكه حالات نقول عنها أنها إنسانية مقارنة بسلوكنا نحن البشر.والامة الاسلامية ككل الامم تتبع تاريخا تراكمياً من المعرفة، فالإسلام يعترف بالانسان كذات واعية ومسؤولة في تنامي حركة التاريخ لان عملية التغيير يقع جانب كبير منها على عاتق الانسان نفسه كما فوي قوله: " أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". الرعد: 11. على الرغم من الضعف التكوين للانسان نفسه. والتغيير في الفكر الاسلامي يختلف عنه في الفلسفات المادية التي تقول بان التغيير يتبع وسائل الانتاج. فالنظرية الاسلامية تتبع منظومة أخلاقية في العلاقة بين الانسان والخالق بإعتبار ان الموقف الاخلاقي ينعكس على المنهج العملي في عملية الحدث التاريخي.يفترض بالامة الاسلامية ان تكون واعية تاريخياً وإن يستمر هذا الوعي حتى في مراحل ضعفها وتراجعها عن تحقيق غائيتها. غير ان ذهنية الكثير مِن مَن هم يدعون أنفسهم قيادات الامة تخالف هذا الاتجاه. فالاسلام ليس دولة قومية ولكنه منظومة شمولية تتسع للعرق والشكل واللون ولا تتقيد بعناصر الزمان والمكان. فالقيمة الواقعية للامة تكمن في الوعي بصيرورتها وقدرتها على التغيير والاستمرار، وهذا الوعي والقدرة محكوم ليس فقط بالرغبة في الفعل ولكن في قدرة الامة على التحمل وصناعة شروط جديدة للتقدم.لا شك ان العديد من المؤرخين والكتاب وضعوا دراسات عن الامة لكن معظمها جاء في جانب الدفاع عنها وتمجيد تاريخها دون الاهتمام الكافي بقيمة الجانب العقلي والاحساس الواعي بها، فالموقف النقدي مهم في معرفة إشكاليتها وتجاوز مراحل النكوص.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندنالخامس من شباط 2014م
https://telegram.me/buratha