دراسات

اظهارات الثقلين في اصالة الحرية

6853 03:42:00 2006-05-27

( بقلم نضير الخزرجي )

يذهب عدد غير قليل من المفكرين الاسلاميين والغربيين، الى ان اصالة الحرية وتكوينيتها مسألة عقلائية مسلّم بها ليست بحاجة الى دليل، على ان التسليم العقلي بهذه الاصالة هو جزء من ادلة الاصالة الى جانب ادلة القران والسنة، ذلك: "ان الاصل الثابت بحكم العقل والعقلاء، وامضاء الشارع المقدس، ان الاصل هو الحرية في التصرفات الانسانية الا ما اخرجه الدليل، فان ضرورة كون الانسان مكلفا ومطيعا وعاصيا تقتضي كونه حرا مختارا فيما يقول او يفعل، والا كان مجبرا وهو خلاف الوجدان والعقل"(1).

الحرية والاختيار

لا شك ان من المسلّمات المفروغ منها، ان الاسلام لا يجبر احدا على الاعتقاد بالاسلام نفسه، وترك لاصحاب الاديان الاخرى حرية المعتقد، ايمانا منه بان الحرية اصيلة في عمل الانسان وسلوكه، ولا يمكن اجبار احد على التعبد بالاسلام، لوقوع التعارض بين فطرة الانسان وحكمة التعبد التي تقتضي القناعة ابتداءاً، فلا اجبار في الاعتقاد ولا تقليد، انما يقع التقليد في المسائل الشرعية الفرعية، لا العقائدية مثل التوحيد، ومن ذلك قوله تعالى: {لا اكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} سورة البقرة:256، وهذه الاية واضحة الدلالة على ان المعتَقَد يصح عند المعتَقِد به عندما يكون في حالة لا يجبره احد على اعتناقه او الانعتاق منه وبمحض ارادته، ولا يسمى المعتقد دينا عند من يؤمن به الا اذا توفرت في الايمان والتعبد به حرية الاعتقاد، لان من مداليل الدين التمسك بالمذهب والطريقة، ولا يتمسك الانسان في الظروف الطبيعية الا بشيء هو مقتنع به، أي انه في حالة ممارسة لكامل حريته، ولا يتخذ المرء لحياته مذهبا الا بعد قناعة، والقناعة مصداق للحرية.

اما قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} سورة الكافرون: 6، فهذا التفريق اقرار باهمية الاختيار والاقتناع، ولا يقوم الاختيار الا على مبدأ الحرية، فالمرء الذي يعمل بلا اقتناع فهو يعمل خلاف ارادته، أي في غياب الحرية وغيبوبته عنها، في حين ان الاقتناع الذاتي لابد وان تتوفر فيه اصالة الحرية، وحتى في مجال اقناع الطرف الاخر للايمان بفكرة او اعتناق دين فان الحرية هي الشاخصة في هذه العملية، وهذا ما نلحظه في تعامل المسلمين مع المشركين الذين استجاروا برسول الله (ص) فالخطاب الالهي الموجه الى رسوله، هو: {وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} سورة التوبة: 6، يقول ابن كثير (701-774هـ) في تفسير هذه الاية: "وان احد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم، واحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، استجارك، أي استأمن، فأجبه الى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي القران تقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله ثم أبلغه مأمنه، أي وهو آمن مستمر الامان حتى يرجع الى بلاده وداره ومأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون، أي انما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده"، ونقل ابن كثير قول ابن أبي نجيح عبد الله بن يسار الثقفي (ت131) عن مجاهد بن جبر المكي المخزومي (21-104هـ) في تفسير هذه الاية، قال: انسان يأتيك ليسمع ما تقول وما انزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء، ومن هنا كان رسول الله (ص) يعطي الامان لمن جاءه مسترشدا او في رسالة، كما جاء يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم عروة بن مسعود ومكزر بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم، واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله (ص) ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا الى قومهم واخبروهم بذلك وكان ذلك وامثاله من اكبر اسباب هداية اكثرهم"(2).

وفي الظروف الطبيعية غير ظرف الاستجارة الاستثنائي، فان الحرية في تصوري، ليست فقط في ان يقتنع الطرف الاخر بالفكرة او المعتقد، بل له كامل الحرية والتصرف في ان لا يستمع الى المتحدث من الاساس، وان لا يحدثه اصلا، الا بما يحب ان يسمع، وفي الدعوة الاسلامية انما من باب اللطف الالهي والرحمة الالهية، ان يُعرض على غير المسلم رسالة الاسلام، وله ان يسلم مستبصرا او لا يسلم، فإبلاغه الحجة هي رسالة الانبياء، كما قال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} سورة النساء: 165.

الإكراه ضد نوعي

ونقرأ دليل اصالة الحرية في قوله تعالى: {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} سورة الغاشية: 21، فالسيطرة واضحة المعنى، تقتضي في إعمالها سلب حرية الاخرين، ولما كان النهي قائما على عدم السيطرة، فذلك يعني قيام الحرية وثباتها سلبا وايجابا في الرفض او القبول، فالايمان بفكرة او معتقد ليست معادلة رياضية ينبغي على الطرف الاخر القبول بها والرضوخ اليها، اعتقادا منا بان التسليم امر مفروغ منه مادمنا نقدم للطرف الاخر الاسلام ضمن معادلة منطقية ذات صغرى وكبرى، والا لآمن كل من استمع الى الرسول (ص) وهو يحدثهم بالاسلام، فهو صاحب المنطق السليم، والبيان الحكيم، والحجة المستوفية لكل شروطها، من هنا توجه الخطاب الالهي الى رسوله (ص): {وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} سورة ق: 45، قال ابن كثير: "قوله تبارك وتعالى {وما انت عليهم بجبار}، أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى وليس ذلك مما كلفت به، وقال مجاهد، وقتادة (بن النعمان بن زيد الانصاري، ت 23هـ عن 65 عاما) والضحاك (بن مزاحم، ت 105هـ)، وما انت عليهم بجبار، أي لا تتجبر عليهم، والقول الاول اولى، ولو اراد ما قالوه ولا تكن جبارا عليهم، وانما قال وما أنت عليهم بجبار، بمعنى وما أنت بمجبرهم على الايمان انما انت مبلّغ، قال الفراء (يحيى بن زياد الأقطع، 144-207هـ) سمعت العرب تقول جبر فلان فلانا على كذا بمعنى اجبره، ثم قال عز وجل: {فذكر بالقران من يخاف وعيد}، أي بلِّغ أنت رسالة ربك فانما يتذكر من يخاف الله وعيده ويرجو وعده، كقوله تعالى: {فانما عليك البلاغ وعلينا الحساب} سورة الرعد:40، وقوله جل جلاله: {فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر} سورة الغاشية: 21: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} سورة البقرة: 272: {انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} سورة القصص: 56، ولهذا قال تعالى ها هنا وما انت عليهم بجبار فذكر بالقران من يخاف وعيد"(3)، وقال الطبري (ت 310هـ) : "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) فذكر يا محمد عبادي بآياتي وعظهم بحججي وبلغهم رسالتي، انما انت مذكر، يقول انما ارسلتك اليهم مذكرا لتذكرهم نعمتي عندهم وتعرفهم اللازم لهم وتعظهم، وقوله {لست عليهم بمسيطر}، يقول لست عليهم بمسلط ولا انت بجبار تحملهم على ما تريد، يقول كلهم الي ودعهم وحكمي"(4).

من هنا فان الله تعالى خاطب رسوله (ص) في آيات عدة مشيرا الى حرية المرء في الايمان او عدمه، قال تعالى: {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها وما انا عليكم بوكيل} سورة يونس: 108، وقال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} سورة الكهف: 29، ذلك لان الله اضاء لعبده الدرب وبيّن له طريق الخير والشر وعليه ان يختار.

وفي قوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} سورة يونس: 99، اشارة بليغة الى معنى حرية الاختيار لدى الانسان, فمع ان الله خالق البشر، وفوض اليهم آليات الخير والشر، فانه تعالى لم يكرههم على الايمان به، وهو جل تعالى على ما يريد قدير، ولكنه لم يفعل لحكمة الاختيار والاختبار، فمن باب أولى ان الرسول غير مكلف باكراه الناس على الايمان، قال البيضاوي (ت 685هـ)في تفسير الاية الكريمة: "وترتيب الاكراه على المشيئة بالفاء وايلاؤه حرف الاستفهام للانكار وتقديم الضمير على الفعل، للدلالة على ان خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكن تحصيله بالاكراه عليه فضلا عن الحث والتحريض عليه، اذ روي انه كان حريصا على ايمان قومه شديد الاهتمام به، فنزلت، ولذلك قرره بقوله وما كان لنفس ان تؤمن بالله الا باذن الله، الا بارادته وألطافه وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها فانه الى الله يجعل الرجس العذاب أو الخذلان"(5).

الى جانب تلكم الايات هناك: "آية اخرى نرى ارتباط فعل الانسان بحركته الذاتية الحرة وسعيه الدؤوب لتغيير نفسه واتخاذ طريق الايمان والهداية وان نتائج عمل الانسان تعتمد على ما يختاره ويسعى اليه عبر تصميم سابق: {ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} سورة الانفال:53، {وان ليس للانسان الا ما سعى} سورة النجم:39، {اقرأ كتابك كفى اليوم بنفسك حسيبا} سورة الاسراء:14، {لتجزى كل نفس بما تسعى} سورة طه:15، {كل نفس بما كسبت رهينة} سورة المدثر:38، هذه الايات تقودنا الى استنتاج بديهي هو ان الحرية من الاصول الاساسية العقائدية في الاسلام، بل من الأولويات التي قامت عليها عقيدة التوحيد بان تسقط كافة الاصنام التي تغل الانسان وتقيده ويبقى الانسان حرا تحت ظلال عبودية الله سبحانه وتعالى"(6). واذا كانت معظم الايات السالفة هي في مقام التذكير، فان قوله تعالى في وصف مهمة نبيه (ص): {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} سورة الاعراف: 157، دلالة عملية تصاحب عملية التأطير الفكري لمفهوم اصالة الحرية والاختيار، فالله سبحانه وتعالى يوضح اهداف رسالة النبي محمد (ص) وهي ان يرفع عنهم ما شاب حياتهم من اغلال واصر فكرية وعقائدية وعملية، ويرجعهم الى الحالة الطبيعية التي عليها الانسان السليم، وهي حالة الحرية حتى يتمكن من الاختيار، ويجنبهم التقليد الاعمى الذي وجدناه في قول المشركين: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا} سورة يونس: 78، وقولهم: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمّة وانا على آثارهم مهتدون} سورة الزخرف: 22.

هذه الاغلال التي تكبل الانسان وتقيده كانت مثار غضب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778م)، الذي استهل كتابه المشهور "العقد الاجتماعي"، بقوله المشهور: "لقد وُلد الانسان حرا، وهو اليوم مقيد بالاغلال في كل مكان، كيف حدث ذلك؟ لست ادري"(7)، بالطبع فان روسو في كتابه يتطرق الى القيود والاغلال، ولكن سؤاله هنا من باب الاستنكار والإستهجان، بيد ان الأغلال لا تتوقف عند مجموعة او عدد معين، فهي كثيرة، وتتجدد وتزداد مع تقدم سنيّ دورة الحياة، يقول الفقيه المدرسي: "والأغلال بالمعنى الشامل الواسع لها، كثيرة ومتنوعة، كأغلال الثقافة الجاهلية المنحطة، وأغلال الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية الفاسدة الخرافية كالتشاؤم والتطير والاستقسام بالأزلام وما شابه ذلك، وكذلك الاغلال الاقتصادية في التجارة والمعاملات كالربا .. فهذا المقصود بـ(الاغلال) التي اشارت اليها الاية الكريمة {يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم}، أي انه (ص) منحهم بحركته الانقلابية التغييرية الحرية والكرامة والاستقلال، والحرية التي تنعموا بها هي من الرحابة واتساع الافق بحيث انهم لم يكرهوا على شيء حتى في موضوع اعتناقهم العقائدي، وذلك بنص القران الكريم {لا اكراه في الدين} فالاكراه ليس من اصل الدين، ومن الطبيعي ان الشيء عندما ينعدم في الاصل ينعدم في التفاصيل ايضا"(8)، والآيات القرآنية حول دلالة اصالة الحرية كثيرة، وقد عدها البعض نحو ثلاثمائة آية(9)، في موضوعات مختلفة، لكنها تقع تحت سقف الحرية ودلالاتها.

الحرية أمانة ومسؤولية

ومن الطبيعي ان اصالة الحرية تصاحبها مسؤولية الانسان عن افعاله واقواله، وكل ما يصدر عنه في الخير والشر، وهو عرضة للمساءلة القانونية في الدنيا اذا اعتدى على حريته او حرية الاخرين، وعرضة للمساءلة في محكمة العدل الالهية يوم القيامة، فالحرية في واقع الامر هي حرية مسؤولة، اليها يخضع الثواب والعقاب في الدارين، وقد وصفها البعض، بانها الامانة التي تحملها الانسان، يقول بروحي (A.K.Brohi) الكاتب والمستشار القانوني الباكستاني (1915-1987م): "اود ان اوجز الفكرة الرئيسة في حججي بالاستشهاد بالقران الكريم: {انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا} سورة الاحزاب:72، واكاد اجزم ان نعمة الحرية هذه، هي الامانة التي قبلها الانسان ورفضتها السموات والارض والجبال، هي امانة لانها نعمة تحمل معها، كالتزام، مسؤولية المحاسبة على النهج الذي يجب ان تستخدم به الحرية"(10).

ولاشك ان تحمل الامانة، واحدة من أظهر مصاديق الحرية، اذ لا يصدق وصف (الامانة) على من حُمل عنوة شيئا ما، فتقبل الامانة يكون برضا وطيب خاطر وحرية، وحتى في الحياة اليومية، فان الانسان المؤتمن على شيء يكون ملزما بحماية الامانة وهو ضامن لها اذا اشترط صاحبها عليه ذلك، ورضي هو بتحمل المسؤولية، ولكن عند الجبر، فهو غير ضامن بفقدانها او تلفها، لانه مسلوب الحرية ابتداءاً.

وبهذا الصدد يشير الدكتور الجراح، اللبناني، الفلسطيني المولد، سليم الحداد، الى موضع الحرية والمسؤولية في الاسلام والمسيحية مؤكدا ان: "حرية الاختيار هي من عناصر الحياة الاساسية التي وهبها الله للانسان، وحرية الضمير هي من حق الانسان من يوم تكوينه، يعلم الاسلام ان للانسان حرية الارادة، وتعلم المسيحية ان الارادة فسدت بسبب الخطيئة فلا تختار الصحيح دوما، بما ان الله قيّد مسؤولية تصرف الانسان بمصيره في الدنيا والاخرة، بيّن ان حريته فعالة وتحمل عقابها وثوابها"(11)، وقريب من هذا المعنى نجده عند الاديب الباكستاني محمد اقبال لاهوري (1877-1938م): "لقد عبّر الانسان عن تعلقه الباطني العميق بالحرية بمختلف الاساليب خلال تاريخه المديد، فآدم وحواء، قد اضطرا مدفوعين بهذا الدافع الى ترك الجنة حيث لم يكن ثمة مجال لممارسة الحرية، والنزول الى الارض، عالم الفعل، اذ يقال: ان الفعل قائم بالحرية"(12).

واثنّي هنا على قول الشيخ محمد عبده (1849-1905م)حول علاقة الحرية بالمسؤولية وارادة الاختيار، اذ: "يشهد سليم العقل والحواس من نفسه، انه موجود، ولا يحتاج الى دليل يهديه، ولا معلم يرشده، كذلك يشهد انه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله، ويقدرها بارادته، ثم يصدرها بقدرة ما فيه، وكل إنكار لشيء من ذلك يعد مساويا لإنكار وجوده، في مجافاته لبداهة العقل كما يشهد بذلك في نفسه ايضا، وفي بني نوعه كافة، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس"(13).

وخلاصة الأمر، ان القران الكريم ثابت الدلالة والظهور على اصالة الحرية الانسانية، وهي حرية مسؤولة تمثل الضد النوعي والمنطقي للاكراه الذي رفضه الاسلام على نفسه، ولم يجوزه على نبيه، حتى في سَوق الناس الى جادة الاسلام، لان الحرية قبّان الحق والباطل ومعيار الفعل سلباً او ايجاباً، والقبان من طبعه ان يكون خلياَ من اي تأثير داخلي او خارجي.

سلطة النفس قبل المال

يقف حديث الرسول (ص): "ان الناس مسلطون على اموالهم"، في مقدمة روايات السنة الشريفة التي يستدل بها على اصالة الحرية، من خلال الربط بين السيرة العقلائية والسيرة النبوية، يقول الفقيه المنتظري: "ان العقل العملي يشهد ويحكم بسلطة الناس على الاموال التي حازوا او انتجوها بنشاطاتهم، واستمرت سيرة العقلاء ايضا على الالتزام في حياتهم ومعاملاتهم، ويحكمون بحرمة التعدي على مال الغير وكونه ظلما، وقد نفذ الشرع ايضا ذلك بحيث صار هذا من مسلمات فقه الفريقين، يتمسكون بها في الابواب المختلفة. وروي في بحار الانوار للمجلسي (محمد باقر بن محمد تقي 1037-1111هـ) :ج2 ص373، عن عوالي اللئالي، عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه قال:(ان الناس مسلطون على اموالهم)، وفي رواية ابي بصير ليث بن البختري المرادي (كان حيا قبل عام 148هـ) عن ابي عبد الله – جعفر الصادق – عليه السلام في الوسائل: (ان لصاحب المال ان يعمل بماله ما شاء مادام حيا)، الى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها هذه القاعدة الشاملة، فاذا فرضنا ان الناس مسلطون على اموالهم بحيث يكون لهم التصرف فيها، الا ما حرمه الله تعالى، وليس لغيرهم ان يتصرفوا في مال الغير الا باذنه، فهم بطريق اولى مسلطون على انفسهم وذواتهم، فان السلطة على الذات قبل السلطة على المال بحسب الرتبة، بل هي العلة والملاك لها، حيث ان مال الانسان محصول عمله، وعمله نتيجة فكره وقواه، فهو يملكه لذاته وفكره وهواه تكوينا يملك امواله المنتجة منها، والله تعالى خلق الانسان مسلطا على ذاته حرا مختارا، فليس لاحد ان يحدد حريات الافراد، او يتصرف في مقدراتهم بغير اذنهم"(14).

وصار هذا الحديث المتفق عليه لدى السنة والشيعة، وباضافة انفسهم لتقدمها رتبة على المال، قاعدة فقهية استدلالية يعتمدها الفقيه في استنباط الاحكام الشرعية بلحاظ الاولوية واصالة التسلط، يقول الفقيه صادق الشيرازي: "انطلاقا من (ايات سابقة) ومن قوله تعالى: {النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم} سورة الاحزاب:6, الذي يستفاد منها ان كل انسان ولي نفسه، وهو حر في جميع تصرفاته في نفسه وامواله، وقد استنبط فقهاء الاسلام من ذلك قاعدة ثابتة اساسية هي قولهم: الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم"(15).

اصالة الولاية الذاتية

ونقرأ هذه الاصالة بوضوح، بضميمة وصية لرسول الله (ص) الى الامام علي (ع)، مع خطبة للامام (ع)، قال الرسول محمد (ص) موصيا: "يا علي: ان الله (تبارك وتعالى) قد اذهب بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا ان الناس من آدم وآدم من تراب, وأكرمهم عند الله أتقاهم"(16), وخطب الامام علي (ع) قائلا: "يا ايها الناس ان آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وان الناس كلهم احرار, ولكن الله خوّل بعضكم بعضا، فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمن به على الله"(17)، فالناس كلهم يعودون لادم (ع) وادم أبو سلالتنا، ولكن بتقادم الزمن والحروب والمعارك والفتن, عرف الناس العبيد والرق والاماء، ثم تسالم الناس على قوانين لتنظيم الحياة بين طبقات الناس، وبخاصة اثناء الحروب، حتى اذا جاء الاسلام سنّ القوانين لتنظيم ما كان قائما ومستفحلا سعيا وراء القضاء على هذا التصنيف المخالف لفطرية حرية الانسان، ولذا سن الاسلام حكم عتق الرقبة في الكثير من المسائل والاحكام الاسلامية، كأحكام كفارة افطار صوم رمضان او اقامة الحدود من قتل وما شابه(18).

وقد ذكر الفقهاء في باب الرق، اصالة الحرية، استنادا الى حديث الامام علي (ع) من وصية له لنجله الامام الحسن (ع) والتي جاء فيها: (ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)(19)، من هنا: "يرى الشيخ احمد النراقي (بن محمد مهدي بن ابي ذر، 1185-1245هـ): (ان الاصل عدم ثبوت ولاية احد على احد الا مَن ولاّه الله سبحانه وتعالى او رسوله او احد من أوصيائه على احد في امره وحينئذ فيكون هو وليا على من ولاه فيما ولاه فيه)، ويرى الامام محمد الشيرازي ان: (الاصل في الولاية استقلالا او اشتراطا العدم)، وهذا يعني ان كل ولاية لاحد على احد يحتاج الى دليل الى اثباتها، وولاية النبي (ص) وولاية المعصومين (ع) ثابتة بالادلة القطعية النصوصية، اما غيرهم (ع) فانه لا يثبت الا باثباتها بالدليل، والقول بانهم (ع) قد وكلوها للفقهاء نيابة عامة فهذا مما كثر الخلاف في اصل كونها واردة في مقام الولاية، وانما واردة في مقام التقليد"(20)، والى هذا يذهب الفقيه المنتظري، اذ: "ان الاصل عدم ولاية احد على احد وعدم نفوذ حكمه فيه، فان افراد الناس بحسب الطبع خلقوا احرارا مستقلين، وهم بحسب الخلقة والفطرة مسلطون على انفسهم وعلى ما اكتسبوه من اموالهم بإعمال الفكر وصرف القوى، فالتصرف في شؤونهم واموالهم والتحميل عليهم ظلم وتعد عليهم"(21)، والولاية للغير ترتفع بارتفاع وازالة المؤثر عن المرء لكون الحرية فيه ذاتية مكونة في أعماق الانسان بالجعل الالهي.

نلاحظ من خلال سبر الايات القرانية والسنة الشريفة والقواعد الفقهية المستلة من القران والسنة، ان الحرية قيمة فطرية وسارية اصيلة في كينونة الانسان تستند اليها خيمة حياته، الا اذا قرر الانسان على نفسه بالعبودية وهو مدرك كما يقول الامام علي (ع): "الناس كلهم احرار الا من أقرّ على نفسه بالعبودية وهو مدرك من عبد أو أمه"(22)، وهذا الادراك لا يدخل ضمن اصالة الحرية بالقطع، فالعبودية هنا، المقابلة لحرية الارادة، مسألة طارئة تتداخل فيها عوامل نفسية ومكانية وزمانية تجعل من انسان حر عبدا يرتضي لنفسه ان يكون كذلك، حاله حال الدابة التي تعود لصاحبها كلما ضربها, وهذه حالة خارجة عن القاعدة في اصالة الحرية، فاخراج الناس من أسر العتق هي رسالة الانبياء والحكماء من الأولين الى خاتمهم محمد (ص)، وذات يوم وقف النبي أشعيا بن آموص (عاش نحو عام 765ق.م) قائلا: "ان الرب مسحني لأبشر المساكين .. ارسلني لاعصب منكسري القلب، لانادي للمسيبين بالعتق وللمأسورين بالانطلاق"(23)، وهي رسالة كل عاقل يسير على وجه البسيطة، وألقى السمع وهو شهيد.

إعلامي وباحث عراقي

الرأي الآخر للدراسات – لندن

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك