يعد الفساد الإداري آفة عرفتها المجتمعات الإنسانية وعانت منها منذ ظهور الإنسان على وجه البسيطة وحتى يومنا هذا لأنها مرتبطة بنزوع بشري غير مشروع في الحصول على مكاسب مادية أو معنوية ليست من حق الإنسان ومع ذلك يسعى إليها.
ومع استنطاق الدلالة اللغوية لمفردة الفساد يتضح لها معنى البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، وقد يأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه. فهو (الجدب أو القحط) كما في قوله تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) (سورة الروم الآية41) أو (الطغيان والتجبر) كما في قوله تعالى (للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) (سورة القصص الآية83) أو (عصيان لطاعة الله) كما في قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم عذاب عظيم) (سورة المائدة الآية33) ونرى في الآية الكريمة السابقة تشديد القرآن الكريم على تحريم الفساد على نحو كلي، وإن لمرتكبيه الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
أما الدلالة الاصطلاحية للفساد اصطلاحاً فتظهر على اتجاهات مختلفة هناك اتجاهات مختلفة يمكن تحديدها على النحو الآتي:
1. الاتجاه الأول: الفساد هو إساءة الوظيفة العامة، من أجل تحقيق مكاسب خاصة
يؤكد أنصار هذا الاتجاه أن الفساد هو وسيلة لاستخدام الوظيفة العامة، من أجل تحقيق منفعة ذاتية ـ سواء في شكل عائد مادي أو معنوي ـ وذلك من خلال انتهاك القواعد الرسمية والإجراءات المعمول بها. ومن هذه التعريفات على سبيل المثال، تعريف كريستوفر كلافان، الذي عرّف الفساد بأنه "استخدام السلطة العامة من أجل تحقيق أهداف خاصة"، وأن تحديد هذا المفهوم ينشأ من خلال التمييز بين ما هو عام وما هو خاص.
2. الاتجاه الثاني: الفساد هو انتهاك المعايير الرسمية والخروج على المصلحة العامة يركّز هذا الاتجاه على أن السلوك المنطوي على الفساد هو ذلك السلوك الذي ينتهك القواعد القانونية الرسمية، التي يفرضها النظام السياسي القائم على مواطنيه. ويُعد جارولد مانهايم Manhiem من أهم العلماء المعبرين عن هذا الاتجاه القانوني. عرف مانهايم الفساد بأنه "سلوك منحرف عن الواجبات والقواعد الرسمية للدور العام، نتيجة للمكاسب ذات الاعتبار الخاص (سواء شخصية أو عائلية أو الجماعات الخصوصية)، والتي تتعلق بالثروة أو المكانة. أو السلوك الذي ينتهك الأحكام والقواعد المانعة لممارسة أنماط معينة من التأثير والنفوذ ذوي الطابع الشخصي الخاص".
3. الاتجاه الثالث: الفساد كأوضاع بنائية هيكلية
ينظر هذا الاتجاه إلى الفساد بوصفه نتيجة مجموعة من الاختلالات الكامنة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع. وعلى هذا الأساس فلكي يتم الكشف عن أسباب الفساد ومظاهره داخل المجتمع، يجب تحديدها داخل البناء الاجتماعي الشامل. ومن أهم التعريفات التي تمثل هذا الاتجاه تعريف عبد الباسط عبد المعطي، الذي يرى أن الفساد "أسلوب من أساليب الاستغلال الاجتماعي المصاحب لحيازة القوة الرسمية داخل التنظيمات الإدارية، وهو نتاج لسياق بنائي قائم على العلاقات الاستغلالية التي تؤثر في صور هذا الفساد ومضموناته وموضوعاته وأطرافه، التي يُستغل فيها دوماً من لا يحوزون القوة والسلطة بجوانبها المختلفة، خاصة الاقتصادية والسياسية".
وعلى هذا يُلاحظ وجود علاقة جوهرية بين الفساد البنائي والفساد السلوكي، فوجود النمط الأول يزيد من احتمالات حدوث النمط الثاني بالضرورة، حيث إن السعي إلى تغيير البناء الاجتماعي يرتبط –غالباً- بمجموعة من التوترات والاختلالات، التي تتضمن ألواناً عديدة من الفساد السلوكي داخل المجتمع.
وظاهرة الفساد أمست اليوم ظاهرة عالمية شديدة الانتشار في كافة المجتمعات الغنية والفقيرة، المتعلمة والأمية، القوية والضعيفة. أي بعبارة أخرى إن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم وليست مرتبطة بزمان أو مكان معينين.وقد جاهدت الكثير من المجتمعات الحديثة للتخلص منها وعقاب المتسبب فيها، لأنها عقبة كأداء في سبيل التطور السليم والصحيح والصحي لتلك المجتمعات.
وقبل الانصراف إلى استعراض أنواع الفساد الإداري بصورة تمفصلية، تجدر الإشارة إلى تنوع مظاهر الفساد بشكل عام وتفرعه ضمن مجالات شملت مختلف مظاهر النشاط الإنساني، ومن دون الدخول في تعقيدات تلك التفرعات يمكن إجمالها على النحو الأتي:
1. الفساد السياسي:- ويتعلق بمجمل الانحرافات والمخالفات للقواعد والأحكام التي تنظم عمل النسق السياسي (المؤسسات السياسية) في الدولة. ومع أن هناك فارق جوهري بين المجتمعات التي تنتهج أنظمتها السياسية أساليب الديمقراطية وتوسيع المشاركة، وبين الدول التي يكون فيها الحكم شمولياً ودكتاتورياً، لكن العوامل المشتركة لانتشار الفساد في كلا النوعين من الأنظمة تتمثل في نسق الحكم الفاسد (غير الممثل لعموم الأفراد في المجتمع وغير الخاضع للمساءلة الفعالة من قبلهم) وتتمثل مظاهر الفساد السياسي في: الحكم الشمولي الفاسد، وفقدان الديمقراطية، وفقدان المشاركة، وفساد الحكام وسيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد وتفشي المحسوبية.
2. الفساد المالي:- ويتمثل بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها ومخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية كالجهاز المركزي للرقابة المالية المختص بفحص ومراقبة حسابات وأموال الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة والشركات، ويمكن ملاحظة مظاهر الفساد المالي في: الرشاوى والاختلاس والتهرب الضريبي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية.
3. الفساد الأخلاقي:- والمتمثل بمجمل الانحرافات الأخلاقية والسلوكية المتعلقة بسلوك الأفراد الشخصي وتصرفاتهم وعلاقاتهم في المجتمع. ومع غياب الضوابط القيمية لسلوك الأفراد، تلج العلاقات بينهم في دوامة مخيفة من الفوضى والاضطراب الذي يهدد بتفكك بنى المجتمع وانهيار دعاماته المعنوية وينعكس سلبا بالنتيجة على مسيرة تطوره وبلوغ أهدافه. أي بعبارة أخرى هذا النوع من الفساد يهدد البنيان القيمي والروحي للمجتمع، وخطورته تكمن في صعوبة ضبطه وتحجيمه ناهيك عن عمق تأثيره وخطورته على المدى البعيد.
4. الفساد الإداري:- ويتعلق بمظاهر الفساد والانحرافات الإدارية والوظيفية أو التنظيمية وتلك المخالفات التي تصدر عن الموظف العام إثناء تأديته لمهام وظيفته.
إن مظاهر الفساد الإداري متعددة ومتداخلة بحيث يصعب حصرها باتجاه واحد أو إخضاعها لمعيار منفرد. وغالباً ما يكون انتشار إحدى أنماط الفساد سبباً مساعداً على انتشار المظاهر الأخرى.
ويمكن إجمالها بالاتي:
أولاً: الفساد من حيث القصد
1- الفساد العرضي و هو الفساد الذي يحدث عند قاعدة الهرم الإداري من قبل صغار الموظفين ويعبر غالبا عن سلوك شخصي أكثر منه تعبيرا عن نظام عام كحالات الاختلاس على نطاق محدود أو تلقي الرشوة الخفيفة أو سرقة أدوات مكتبية وما إلى ذلك.
2- الفساد المنتظم أو النظامي systematic corruption: وهو الذي يحدث حين تتحول إدارة المنظمة إلى إدارة فاسدة بمعنى أن يدير العمل برمته شبكة مترابطة للفساد يستفيد ويعتمد كل عنصر منها على الآخر مثال ذلك شبكة الفساد التي تضم مدير الدائرة ومدراء المشاريع والمدير المالي والتجاري.
ثانيا: الفساد من حيث الحجم
1. الفساد الصغير (Minor Corruption)
(فساد الدرجات الوظيفية الدنيا) وهو الفساد الذي يمارس من فرد واحد دون تنسيق مع الآخرين لذا نراه ينتشر بين صغار الموظفين عن طريق استلام رشاوى من الآخرين.
2. الفساد الكبير (Gross Corruption)
(فساد الدرجات الوظيفية العليا من الموظفين) والذي يقوم به كبار المسؤولين والموظفين لتحقيق مصالح مادية أو اجتماعية كبيرة ؛ وهو أهم واشمل واخطر لتكليفه الدولة مبالغ ضخمة.
وغالبا ما يرتبط بالمقاولات أي المشاريع الكبرى، لأن القائمين عليها لا تدخل عليهم إلا بجواز مرور، هذا الجواز هو انك تملك النفوذ المادي والسياسي..... أشخاص يدمجون الهيمنة السياسية بالسيطرة الاقتصادية فيسيطرون على الأمور ويسخرونها لخدمة أغراضهم الخاصة.
ثالثا: الفساد من حيث الانتشار
1. الفساد الدولي International Corruption:-
وهذا النوع من الفساد يأخذ مدى واسعاً عالميا يعبر حدود الدول وحتى القارات ضمن ما يطلق عليها (بالعولمة) بفتح الحدود والمعابر بين البلاد وتحت مظلة ونظام الاقتصاد الحر.
ترتبط المؤسسات الاقتصادية للدولة داخل وخارج البلد بالكيان السياسي أو قيادته لتمرير منافع اقتصادية نفعية يصعب الفصل بينهما لهذا يكون هذا الفساد أخطبوطياً يلف كيانات واقتصادات على مدى واسع ويعتبر الأخطر نوعاً.
2. الفساد المحلي Domestic Corruption:-
وهو الذي ينتشر داخل البلد الواحد في منشأته الاقتصادية وضمن المناصب الصغيرة ومن الذين لا ارتباط لهم خارج الحدود (مع شركات أو كيانات كبرى أو عالمية).
رابعا: الفساد من حيث الطبيعة والممارسة
1- الانحرافات التنظيمية:-
ويقصد بها تلك المخالفات التي تصدر عن الموظف في أثناء تأديته لمهمات وظيفته والتي تتعلق بصفة أساسية بالعمل، ومن أهمها:
* عدم احترام العمل, ومن صور ذلك: (التأخر في الحضور صباحا – الخروج في وقت مبكر عن وقت الدوام الرسمي – النظر إلى الزمن المتبقي من العمل بدون النظر إلى مقدار إنتاجيته – قراءة الجرائد واستقبال الزوار – التنقل من مكتب إلى آخر.....).
* امتناع الموظف عن أداء العمل المطلوب منه، ومن صور ذلك: (رفض الموظف أداء العمل المكلف به – عدم القيام بالعمل على الوجه الصحيح – التأخير في أداء العمل....
* التراخي, ومن صور ذلك: (الكسل – الرغبة في الحصول على أكبر اجر مقابل أقل جهد – تنفيذ الحد الأدنى من العمل....).
* عدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء، ومن صور ذلك: (العدوانية نحو الرئيس – عدم إطاعة أوامر الرئيس – البحث عن المنافذ والأعذار لعدم تنفيذ أوامر الرئيس.....)
* السليبة, ومن صور ذلك: (اللامبالاة – عدم إبداء الرأي – عدم الميل إلى التجديد والتطوير والابتكار – العزوف عن المشاركة في اتخاذ القرارات – الانعزالية – عدم الرغبة في التعاون – عدم تشجيع العمل الجماعي – تجنب الاتصال بالأفراد......).
* عدم تحمل المسؤولية, ومن صور ذلك: (تحويل الأوراق من مستوى إداري إلى آخر – التهرب من الإمضاءات والتوقيعات لعدم تحمل المسؤولية.....).
* ازدواجية التعامل بين الموظفين في مؤسساتنا الحكومية التي تنمي ضعف الولاء لهذه المؤسسة أو تلك، حيث يلاحظ إن معاملة بعض الموظفين تختلف عن معاملة الموظفين الآخرين المؤهلين والمشهود لهم بالكفاءة من رؤسائهم مما يتسبب في إحباط الكثيرين من الموظفين نتيجة ازدواجية المعايير في هذه المؤسسات مما يؤدي إلى سوء في أداء الأعمال وضعف في الولاء لهذه المؤسسة وتأخر في عملية الإنتاج.
* عدم الأخذ بمبدأ التخصص في العمل ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
* إفشاء أسرار العمل.
2-الانحرافات السلوكية:-
ويقصد بها تلك المخالفات الإدارية التي يرتكبها الموظف وتتعلق بمسلكه الشخصي وتصرفه, ومن أهمها:
* عدم المحافظة على كرامة الوظيفة، ومن صور ذلك: (ارتكاب الموظف لفعل مخل بالحياء في العمل كاستعمال المخدرات أو التورط في جرائم أخلاقية).
* سوء استعمال السلطة, ومن صور ذلك: (كتقديم الخدمات الشخصية وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم).
* المحسوبية, ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج.
* المحاباة Favoritism أي تفضيل جهة على أخرى بغير وجه حق كما في منح المقاولات والعطاءات أو عقود الاستئجار والاستثمار.
* الوساطة, فيستعمل بعض الموظفين الوساطة شكلا من أشكال تبادل المصالح.
3- الانحرافات المالية والجنائية:-
ويقصد بها المخالفات المالية والإدارية التي تتصل بسير العمل المنوط بالموظف، وتتمثل هذه المخالفات فيما يلي:
* مخالفة القواعد والأحكام المالية المنصوص عليها داخل المنظمة.
* فرض المغارم (الابتزاز) Black Mailing وتعني قيام الموظف بتسخير سلطة وظيفته للانتفاع من الأعمال الموكلة إليه في فرض الإتاوة على بعض الأشخاص أو استخدام القوة البشرية الحكومية من العمال والموظفين في الأمور الشخصية في غير الأعمال الرسمية المخصصة لهم لغرض الحصول على المال من الأشخاص مستغلاً موقعه الوظيفي بتبريرات قانونية أو إدارية أو إخفاء التعليمات النافذة على الأشخاص المعنيين كما يحدث في دوائر الضريبة أو تزوير الشهادة الدراسية أو تزوير النقود,.
* الإسراف في استخدام المال العام، ومن صوره: (تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث – المبالغة في استخدام المقتنيات العامة في الأمور الشخصية – إقامة الحفلات والدعايات ببذخ على الدعاية والإعلان والنشر في الصحف والمجلات في مناسبات التهاني والتعازي والتأييد والتوديع....).
* الرشوة Bribe. وتعني حصول الشخص على منفعة تكون مالية في الغالب لتمرير أو تنفيذ إعمال خلاف التشريع أو أصول المهنة.
* اختلاس المال العام Misappropriation. باستخدام الصلاحيات الممنوحة للشخص أو الاحتيال أو استغلال الموقع الوظيفي للتصرف بأموال الدولة بشكل سري من غير وجه حق أو تمرير السلع عبر منافذ السوق السوداء أو تهريب الثروة النفطية
* التزوير.
* العمولات Commission.
* التهرب من الضرائب.
* بيع المناصب العامة نظير مقابل مالي.
ولا يخفى فان اخطر أنواع الفساد هو ذلك النوع المنظم والمدار من السلطة وان كانت جميع الأنواع المتقدمة تحدث آثارا ضارة وانعكاسات سلبية على المجتمع.
وإجمالا فان القاسم المشترك بين هذه التقسيمات هو (وحدة الهدف المتمثل بتحقيق أقصى المنافع الخاصة من الوظيفة العامة وبطرق غير مشروعة).
1/5/131014 تحرير علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha