بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:نستكمل في هذه الدراسة بحوثنا السابقة في فلسفة نهاية التاريخ من خلال منهج سقوط الحضارات، وفي هذه الدراسة سنناقش سقوط الحضارة الغربية كنتاج للموقف السلبي من حركة التاريخ، فقد كنا أسسنا لمنهجٍ في العقلانية التاريخية يتبع تأثيرات تراكم الوعي السلبي في نهايات الحضارات الانسانية منذ النشوء الاول للجنس البشري على الارض موثقا بنزول آدم عليه السلام وزوجته من عالم التكوين إلى عالم الوجود وهبوطهم إلى الارض بحدود (6880- 7000) قبل الميلاد. مع تبيان ملاحظاتنا الاركيولوجية في كل التراث الاثاري للقى والبقايا العظمية التي نسبت إلى الإنسان الحالي جزافاً، في حين هي تخص أجناس أخرى لا تعود إلى آدمنا الحالي الذي ننتمي إليه.لا شك ان التراكم السلبي للفعل يترك آثاراً مادية ومعنوية تشكل بالتالي جزءا من عناصر إنهيار الحضارات الإنسانية، وهي تشبه إلى حد كبير العلل والامراض والعوارض التي يتعرض لها الجسم البشري فتكون سبباً في نهايته ووفاته.لقد دأبنا ان تكون الغاية من دراساتنا ليست تنبؤية بحركة التاريخ المستقبلي من خلال تحليلنا لعناصرها الاولية، ولكن للكشف عن الجوانب السلبية وتقديم منظور حقيقي وعقلاني يساعد في فهم الواقع التاريخي للإنسان المعاصر في ضوء مؤشرات نهاية التاريخ التي سجلنا الكثير من وقائعها وبينا مظاهرها في دراساتنا السابقة باعتبارها سلسلة متواصلة تسير نحو تحقيق أهداف معينة، تشكل بمجملها غائية حركة التاريخ.فبعد الصعود المتسارع لما يسمى بالحضارة الغربية خلال الثلاثمائة سنة الاخيرة كنتاج لمحاولات تطبيق الفكر الفلسفي عملياً وتشكل مفاهيم ما يعرف بالنهضة الصناعية وتطور عملية الانتاج التي رافقت ظهور إكتشاف النفط الذي أسس لصناعات الطاقة المدهشة. ظهرت الى جانب عملية التطور الصناعي الاشكالات السلبية التي ترافق عادة ظهور او ولادة الحضارات باعتبار ان كل حضارة تحمل معها جينات ومورثات نهايتها وفنائها. وأما الفناء والنهاية فيعتمد على حجم ونوع التراكم السلبي لكل حضارة وفق عناصر تشكيلها ومنهج غاياتها.وهنا نطرح تساؤلات عقلانية تقول: هل يمكن لكل هذا التسارع الإستمرار إلى ما لا نهاية؟ هل يمكن المحافظة على وتيرة متصاعدة في عمليات الانتاج والإكتشاف الحضاري في ضوء معايير الحضارة الغربية؟ هل ستكون نهاية الحضارة الغربية نهاية التاريخ؟ ما هو الموقف الإنساني بعد سقوط الحضارات؟في هذه الدراسة سنحاول الاجابة على هذه التساؤلات من خلال الموقف التحليلي وإستقراء الحدث التاريخي من منظورنا الابستمولوجي، ونحن نتبع القواعد التي إستنبطناها واعتمدناها في جداولنا التاريخية التي تشكل أحد اهم أعمالنا في عملية الإستنباط والإستقراء الخاص. (1) كما إننا هنا نقوم بتلخيص عدد من بحوثنا في فلسفة نهاية التاريخ لتقديمها هنا لاجل ايقاظ الوعي الجمعي وتنبية المجتمع الإنساني بحقيقة ما يجري.إشكاليات التسارع السلبي للحضارة:لابد لكل حضارة ان تمر بعدة مراحل منذ نشوئها لتتكامل وتنضج، ولتتخلص من التأثيرات السلبية الاولية في عملية النشوء، فهي اشبه بالإنسان في ولادته ونموه وتكامله، فإن أمكن عقله المعرفة صار عارفاً بحقيقته، وإن تخلى عن عقله وجهل نشأته، فقد إنحرف عن مساره، وهذا يمثل قيمة الوعي في النمو الايجابي للحضارات، وأثره في تطورها.من جانب آخر فإننا نلاحظ أن عدداً كبيراً من الحضارات نشأت ودخلت مرحلة الهرم والفناء في فترة قصيرة من حركة التاريخ مما ينبئنا بإنها مرت بتسارع سلبي يؤدي إلى الفناء بسبب عدم مرورها بكل مراحل التكامل والنضج لتتشكل عناصرها بالتدريج وفق مبدأ التراكم البنائي، وقد نُسأل كيف يحدث الفناء الحضاري؟ كنا قد تطرقنا في بحوث سابق إلى الأسس السلبية أو العناصر السلبية في تشكيل النشوء وهي من مسببات فناء الحضارات، إلى جانب واحدة من اهم القضايا التي أهملها علماء التاريخ الحضاري ألا وهي عملية التسارع، فحين يتم التسارع سعياً وراء الوصول المبكر للغايات فانه يؤثر في التشكيل المعرفي للبناء الحضاري وبالتالي فان تحقيق الغايات يصير محفوفاً بالمخاطر نتيجة لتراكم الفعل السلبي، فيصير التسارع وبالاً على مسار الحضارات في حركة التاريخ، مما يؤدي إلى قطف نتائج قليلة وثمار غير ناضجة لا تشكل غائية الفعل الحضاري بل جزء بسيط منه. (2)لما كانت الحضارات تمث الناتج الايجابي لحركة الشعوب والامم فان بعض تلك الشعوب تستعجل الوصول للغايات بطرق متعددة تبتعد في مسارتها عن الاصالة التاريخية، فتفقد الامة عناصر صيرورتها ولا تصل الى النتائج الحقيقية وبالتالي فان ما تحصل عليه لا يمثل غائية الوجود الحضاري لتلك الامة بل جانبا منها اختلط فيه الايجابي بالسلبي، وكنتيجة للتراكم المتسارع فان الجانب السلبي سيطغى على الايجابي وتسقط حضارة تلك الامة.هل يمكن للحضارة الغربية ان تستمر؟لا شك ان ظهور الحضارات وسقوطها او إنهيارها يتم وفق ترتيب دوري كنتاج للتقادم الحضاري أو لانتفاء العناصر المشكلة لكل حضارة، وربما لوصول تلك الحضارة لغاياتها ثم عدم قدرتها على تحقيق غايات جديدة.(3)ككل الكيانات في تأثرها بحركة التاريخ تصاب الحضارات بالهرم، والعجز عن تقديم إنتاجٍ مستقبلي، ولكن الفرق ان بعضها يستعجل النضج الحضاري بمحاولتها لاختزال مراحل التنامي، والحضارة الغربية تقع في هذا الجانب، ويمكن ان أشبه الحضارة الغربية بمحاولة تزويج فتاة قاصرة لم يكتمل نضجها الجنسي ولا الفكري، ثم إجبارها على أن تلد اطفالاً عدة، وأن تتحمل رعايتهم دون أن تكون ذات خبرة كافية في ذلك. وهنا تظهر سلبيات إنحدار الموقف الاخلاقي، فبدون النضج الحضاري لاقيمة واقعية للناتج لتأثر هذا الاخير بالعناصر السلبية لحركة التاريخ.وهنا لابد من النظر إلى آراء توينبي (4) في هذا المجال، فالنزعة القومية جزء أساس في نشوب الصراعات في موقف توينبي، ولعله هنا ينظر الى الصراعات الاوربية خلال الحربين العالميتين التي اكتسبت صفة قومية، وكنت آمل ان يبقى توينبي لعصرنا هذا ليرى تحول الصراع إلى الموقف الديني مع الاخذ ينظر الاعتبار بقاء النزعة القومية كجزء من حركة الصراع.من جانب آخر لايمكن تجاهل آثار الحروب الدينية في أوربا (5) على عملية الصراع ككل، فلاتزال آثار هذه الصراعات ساخنة بين الانكليز والايرلنديين حتى الوقت المعاصر. وهو صراع (كاثوليكي - بروتستانتي) وقد حاولت أوربا تجاهل الوازع الديني في عملية الصراع لكنها لم تتمكن من التخلص من العنصر القومي حتى من خلال منظومة الاتحاد الاوربي.وهنا نلاحظ كيف أن الحضارة الغربية حاولت تسويق صراعاتها الى الخارج للتخلص من الضغط الناتج عن الموقفين الديني والقومي، فالإعلان عن أن أوربا لن تدخل حرباً بعد الحرب العالمية الثانية إعلان غير دقيق، لانها دخلت الكثير من الحروب والصراعات داخل وخارج الاراضي الاوربية (كحرب كوسوفو على سبيل المثال)، بل وكانت عنصرا مشاركاً في خلق الازمات منذ تشكيل منظمة الامم المتحدة.وهنا لابد من الاهتمام بالاتجاهات القومية وتأثيراتها في عملية الصراع، فالعلاقات البريطانية الامريكية هي بالاصل علاقات قائمة على دعم العنصر الانكلوسكسوني، فالبريطانيين يشعرون بالعزلة في أوربا وهذا الشعور التقى بشعور الامريكيين بالعزلة العالمية منذ التأسيس، ولهذا التقى العنصر الانكلوسكسوني البريطاني بالامريكي كمحاولة لتوحيد الاتجاهات العنصرية في مواجهة المتغيرات العالمية وهذا يفسر طبيعة هذه العلاقة، ولماذا بقيت الحكومات البريطانية على اختلاف توجهاتها الحزبية من المحافظين والعمال تربط قراراتها بالقرار الامريكي؟وقد حذر العديد من المؤرخين الغربييين من إنهيار الحضارة الغربية المعاصرة وصعود الصين المتسارع إقتصاديا مما يؤشر إنحساراً غربياً كبيراً في العديد من مراكز الشرق (6). ومن خلال تجاربي العملية وفي السنوات بين 2008-2013م كنت قد حضرت وشاركت ببحوث في العديد من الندوات لمؤرخين بريطانيين وغربيين، وكان هناك شعور سائد بقرب نهاية الحضارة الغربية، ولعل مشاركة الغرب في تأجيج عمليات الصراع ونشوب الحروب في الشرق وخاصة في مناطق العالم الاسلامي ومحاولات فصل الكيانات المسيحية عن الاسلامية كما حدث في المناطق الرخوة (السودان والصومال) وحاليا خلق الصراعات بين الاقباط والمسلمين في مصر ومحاولات تهجير المسيحيين في العراق وسوريا، فان كل ذلك دليل كافي على محاولة الغرب لنقل الصراع من البيئة القومية الى البيئة الدينية من جديد وإبعاده عن الاراضي الاوربية وعن مناطق الانكلوساكسون بالذات، ولكن الساسة الغربيين يجدون أنفسهم عاجزين عن حصر الصراع خارج أراضيهم لأن النار امتدت الى يد حامل العصا المشتعلة.صناعة الاسلام المزيف:منذ البدء أدركت المخابرات البريطانية أهمية صناعة إسلام مزيف ودسة في عملية الصراعبعد أن أدركت أن الذي أوصل العرب إلى أواسط أوربا هو الدين الاسلامي (العقيدة الاسلامية)، فقامت بصنع الحركة السلفية الوهابية (القرن 12هـ/القرن 18م)، القاديانية (الاحمدية) في (القرن 19م)، جماعة الاخوان المسلمين (22/3/1928م)، ثم قامت وكالة المخابرات في الولايات المتحدة بصناعة تنظيم القاعدة (اواخر آب 1988م -1989م)، وقد تم استعمال كل هذه التنظيمات في إنشاء عملية الصراع بين المسلمين ومن الملاحظ أن كل هذه الجماعات المدعية للاسلام لم تحارب الغرب ولم تحارب اسرائيل منذ نشوئها وحتى الان.هذا يقودنا الى طرح الكثير من التساؤلات عن الغايات من إنشاء هذه التنظيمات أو الجماعات، وكنا قد كشفنا في العديد من دراساتنا السابقة حول دور السعودية وقطر ومنظومة دول الخليج في الصراع الاسلامي الاسلامي والذي بقي يصب في مصلحة الغرب وإسرائيل بالذات. وقد عرضت كل من السعودية وقطر على الولايات المتحدة مبلغ (10 ترليون دولار امريكي) لتغطية جانباً من عجز ميزانية الولايات المتحدة البالغ (17 ترليون دولار) مما أدى الى موافقة أوباما ووزير خارجيته على الطلب السعودي القطري، في الحرب على سوريا، وقد تم كلف، معهد بؤوكنجز في واشنطن فرعه في الدوحة ( قطر) حيث تقوم قطر بالتمويل، والذي يديره وزير الخارجية حمد بن جاسم آل ثاني لكن الرئيس الفعلي له هو نائب وزير الخارجية في عهد كلنتون (تايلور بورد) وهو من يضع الاستراتيجية الامريكية الحالية لاوباما. (7)ووفق طروحات هذا المعهد تم حشد (87) من علماء الدين السلفية، وقد تم تكليف القرضاوي للتواصل معهم لاصدار فتاوى سلفية ضد العراق ومصر وسوريا وحزب الله وحض الشباب على الذهاب الى هذه البلدان للحرب ضد بقية المسلمين المناوئين للسياسات الامريكية تحت حجج حماية السنة والسلفيين. وقد وضع لذلك ثلاثة أهداف: الهدف الاول: هدف إقتصادي: إختلاق الذرائع لمهاجمة العراق وسوريا، ومصر، للسيطرة على الشرق الاوسط وتسخير طاقاته للمخططات الغربية وخاصة السيطرة على الثروة النفطية.الهدف الثاني: ديني: ويدعو الى حرب دينية سلفية ضد الشيعة وخاصة العراق وإيران وسوريا والشيعة في لبنان (حزب الله خاصة)، وهذا الهدف أعتبر مكافئة أمريكية بريطانية للسعودية وقطر الداعمة للفكر السلفي الرجعي.الهدف الثالث: سياسي: لإشغال المسلمين عن التفكير في الصراع ضد إسرائيل وإضعاف الدول العربية القوية عسكرياً.وقد تم الاعتماد على الغرب في وضع الخطط وإدارة الاستراتيجية العسكرية وخاصة بريطانيا لمعرفتها بالشرق وبصناعة الاحزاب الدينية المزيفة، ويكون التمويل سعودي قطري، ولاجل ذلك اصدر القرضاوي وشيوخ السلفية مئات الفتاوى لحض الشباب على الحرب حتى ان القرضاوي قال في إحدى خطاباته: " لو عاد محمد اليوم لتحالف مع حلف شمال الاطلسي ".وقد تم تحشيد (300 الف) مقاتل من المرتزقة من (38) دولة تصدر لهم الاوامر عبر (17) لغة لإرتكاب المجازر في سوريا كما فعلوا ولازالوا يفعلون في العراق دون أن تتلكف الولايات المتحدة وبريطانيا دولارا واحدا أو أن يخسروا جندياً واحداً..................................1- الجداول: هي جداول تبين نشوء وسقوط الحضارات الإنسانية عملنا طوال 40 سنة على جمعها وتحقيقها لتشكل في النهاية قاعدة اساسية لعملنا في الاستقراء والإستنباط التاريخي، وهي جداول متخصصة لم ننشرها خوفاً من سرقتها او العبث بها من قبل غير المختصين. راجع البياتي، الأستاذ الدكتور وليد سعيد، دراسات في فلسفة نهاية التاريخ.2- انظر البياتي، الاستاذ الدكتور وليد سعيد، إشكاليات الشرق الاوسط الجديد، دراسة في فلسفة نهاية التاريخ.3- انظر، شبينغلر، أوسفالد (أوزوالد) (1880-1936): إنحدار الغرب، ط/1 - برلين - المانيا.4- تويني، آرنولد (1889-1975م) دراسات في التاريخ.5- الحروب الدينية في أوربا: وقعت هذه الحروب بعد ظهور الحركات الدينية وخاصة البروتستانتية وتشكيل مذاهب كنسية أدت إلى ظهور حركة صراعات استمرت بحدود مائة وواحد وثلاثون عاما (1517-1648م)، وشملت سويسرا وفرنسا، المانيا، (بوهيميا) هولندا، إنكلترا، سكوتلاند، آيرلند والدنمارك.6- فيرجسون، نيل، أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد، في محاضرة نظمها معهد شاتم هاوس في لندن، وقد ركز فيها على أفول الحضارة الغربية.7- عن تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن بداية 2013م.الاستاذ الدكتو وليد سعيد البياتيالمملكة المتحدة - لندن28 أيلول 2013م
https://telegram.me/buratha