لا تخلو شوارع بغداد المزدحمة والخطرة والتي يكون فيها احتمال الموت محتوما من منظر الاطفال المتسولين الذين يلاحقون السيارات الفارهة طلباً وإلحاحا علهم ينالون من المارة مبلغا نقدياً.
هذه ظاهرة باتت معتادة لدى الكثيرين حتى إننا اعتدنا مساعدتهم بشكل يومي دون ان نفكر لمجرد التفكير بحل نهائي لهذه الظاهرة التي بدأت تتزايد وتتفاقم بسبب ارتفاع نسبة البطالة وانتشار حالات اليتم بشكل كبير في العراق إذ ان ما يقف وراء انتشار هذه الظاهرة بلا شك هي الأسر والمجتمع وبالتالي الحكومات قد جنت عليهم ودفعتهم الى ما هم عليه الآن فلم تلتزم بتوفير المأكل والملبس والأمان والتي تعد من واجبات كل دولة وقد التزمت بضمانها دستورياً، فمن يستحق ان يدان هو المجتمع أسرا وحكومات وليس هؤلاء الضحايا الاطفال. ومع ذلك فان التشريعات الوضعية عكست تناقضاً غير طبيعي في توجهاتها وسياستها إزاء هؤلاء الاطفال فهي في قسم منها تساعد هؤلاء الصغار وتدين من يتسبب في دفعهم الى الشوارع للتسول، وفي قسم آخر ترى ان هؤلاء الاطفال والذين هم ضحايا الاعتداء والاستغلال بمثابة جانحين ومنحرفين وليسوا ضحايا لذا استوجب عقابهم. فكثيرة هي التشريعات التي تجرم فعل تحريض الاطفال والأحداث على التسول وتدين المسؤولين عن رعاية الطفل إذا ما أهملوا واجباتهم تجاهه مما دفعه الى التشرد وانحراف السلوك وتفرض عقوبة على هؤلاء المسؤولين عن الطفل أذا ما كانوا هم من دفعه لهذا التشرد والانحراف .وفي نفس الوقت تدين الطفل.هناك دول عدت تشريعاتها فعل تحريض القاصر على التسول أو استخدام الغير له في التسول أو إنهم كانوا الدافع للجوئه إلى التسول جريمة يعاقب عليها التشريع الجزائي. على سبيل المثال (قانون العقوبات الألماني في المادة 361/5) جعل من حالة إهمال الشخص واجبات الإعالة نحو من هو مسؤول عنهم بحيث يصبح في حالة فقر مدقع مستحقة للعقاب، أما نظام الاطفال والأحداث في سريلانكا لسنة 1939 فقد قرر ان فعل استغلال الوالدين او البالغين الآخرين للطفل في التسول يعد جريمة تستحق العقاب، كذلك عد قانون العقوبات الفرنسي فعل التحريض المباشر للقاصر على التسول جريمة وذلك في المادة (227ـ 20و29) والمادة (261ـ 3). أما مشرعنا العراقي فقد قرر في المادة (390ـ2) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 انه ( اذا كان مرتكب هذه الأفعال ـ المنصوص عليها في الفقرة 1 من نفس المادة ـ لم يتم الثامنة عشرة من عمره تطبق بشأنه أحكام مسؤولية الأحداث في حالة ارتكاب مخالفة. ( يعاقب بالحبس مده لا تقل عن شهر ولا تزيد على ثلاثة اشهر كل شخص أتم الثامنة من عمره وكان له مورد مشروع يتعيش منه او كان يستطيع بعمله الحصول على هذا المورد وجد متسولاً في الطريق العام او في المحلات العامة او دخل دون إذن منزلا او محلا ملحقا به لغرض التسول وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنة اذا تصنّع المتسول الإصابة بجروح او عاهة او استعمل أية وسيلة أخرى من وسائل الخداع لكسب إحسان الجمهور او كشف عن جرح او عاهة او الخ في الاستجداء ). إلا انه قرر في المادة (392): ( ان يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة اشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين ديناراً او بإحدى هاتين العقوبتين اذا كان الجاني ولياً او وصياً او مكلفاً برعاية او ملاحظة ذلك الشخص ). ان مشرعنا الجزائي العراقي قد سلك مسلكا غريبا متناقضا، فكيف يعاقب الطفل اذا ما تسول ويعاقب من يحرضه ويغريه على التسول أيضا، وهو الطفل ـ أصلا ما كان ليتسول لولا وجود من يحرضه على ذلك ويدفعه عليه كونه لا يفقه الا ما يلقنه إياه الآخرون. ولو رجعنا الى قانون رعاية الأحداث لو جدنا ان المشرع عد حالة التسول إحدى الأوضاع المكونة لحالة التشرد بموجب المادة (24) وقرر في المادة (29) عقوبة الغرامة التي لا تقل عن مائة دينار ولا تزيد على خمسمائة دينار لولي الصغير او الحدث الذي أهمل رعايتهما بحيث أدى ذلك الى تشردهما او انحراف سلوكهما. اما المادة (30) فقررت للولي عقوبة الحبس مده لا تزيد على سنة او بغرامة لا تقل عن مئة دينار ولا تزيد عن خمسمائة دينار اذا ما هو دفع الحدث او الصغير الى التشرد او انحراف السلوك .اما المادة (26) فقررت تسليم الصغير او الحدث اذا ما وجد في إحدى حالات التشرد او انحراف السلوك الى وليه او قريب صالح لينفذ قرارات محكمة الاحداث وليتعهد بضمان حسن تربيته وسلوكه بموجب تعهد مالي مناسب يقوم بدفعه اذا ما اخل بشروط التعهد الذي تعهد به مع إيداع الصغير او الحدث إحدى دور الدولة. وبذا نجد ان قانون العقوبات العراقي جعل من الطفل تارةَ مجرما وتارة مجني عليه وفي تناقض غريب، في حين جعله قانون رعاية الاحداث مشردا او منحرف السلوك وان لم يقرر له عقوبة جزائية ولكنه يعرض بموجب القانون على قاضي التحقيق الذي يحيله بعدها الى محكمة الاحداث وهذا المسلك يعطي معنى الإدانة وان الطفل مدان فكان الاوفق لو ان المشرع يسلك معه المسلك العالمي المتجسد بكون هذا النوع من الاطفال يعد ضحية ومن ثم يوكل أمر العناية به وتأهيله بدنياً ونفسياً واجتماعياً الى مؤسسة رعوية متخصصة بالأطفال الذين يعيشون في ظروف صعبة ودون أن يكونوا مقيدين بحكم قضائي او معروضين على جهة قضائية كالمحققين والمحاكم بل ان مثل هذه المؤسسة تضم بين كادرها الإداري أشخاصاً قانونيين مهتهم الاستدلال عن من كان وراء وضع الطفل في هذه الظروف الصعبة سواء كانوا أشخاصاً أم ظروفاً اجتماعية أو اقتصادية أم غير ذلك من الأسباب الدافعة ومن ثم العمل على علاجها او علاج الطفل وإنقاذه من تأثيراتها وفي جو اسري ليعود شخصا نافعا وعضوا فعالا في المجتمع بدلا من ان نجعلهم يشعرون بأنهم مجرمين وهم في الحقيقة ضحايا المجتمع وظروفه فيكبرون وهم يشعرون بالحقد على المجتمع والناس اجمع كونهم هم السبب في وضعهم هذا .
16/5/13924
https://telegram.me/buratha