الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
طروحات في الحكمة المتعاليةوفلسفة التاريخ
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيمدخل:أستعرض هنا بعض الطروحات التي عرضتها على عدد من طلبتي في الدراسات العليا في موضوع الحكمة وكنت قد طلبت منهم ان يقدموا افكارهم في أسئلة تعرض علي ليتم الاجابة عنها وهنا اسجل بعض تلك الاجابات التي شكلت مادة طيبة يمكن الافادة منها خاصة لطلبة الفلسفة الاسلامية . وقد حضر الجلسة طالبتاي سلفا داسون، وكاتي ماكلايد، من جامعة كمبريدج وكنت اساعد بالاشراف على بحوثهن في فلسفة التشريع، إضافة لثلاثة طلاب هم روبرت (روبي) جونسن، وآدم لونج، وجان هنسلي من جامعة لندن، وبحضور الاستاذة (البروفيسورة) وليامز. وكان كل من كاتي ما كلايد وجان هنسلي يفهمون اللغة العربية ويتكلمون بها بشكل بسيط مستعملين المفردات الفصحى، وقد عقدنا الجلسة في مكتب أصدقاء المكتبة البريطانية في الدور (الطابق) الثالث في يوم الثلاثاء 12 شباط 2013م ليدور الحوار باللغة الانكليزية وتتم الاجابة على الطروحات. وإني اعرض هنا ترجمة إلى العربية لهذا الحوار.الحوارات:ماكلايد: هل يمكن للفوضى أن تكون خلاقة؟د. وليد: في البدء يجب ان نعرف ان ثمة قيمة أخلاقية للعمل الحضاري، وهو يتبع معيارية تتتقدم لكما تقدمنا في تحقيق النتائج، والتقدم يخضع للمنهج العلمي والعقلي، ومن هنا لا يمكن للفوضى ان تكون خلاقة لانها فوضى أي عمل غير منضبط ولا يخضع للقواعد ولأنها لا تعتمد المنهج العلمي أو العقلي، كما أنها تتجرد عن الموقف الاخلاقي، وإذا قلنا بان الفوضى خلاقة يجب ان نقول بانها مبدعة وقادرة على الانتاج الحضاري التجارب القديمة والمعاصرة تقول عكس ذلك تماما كما نعاصره الان في العراق مثلا.روبرت: أيهم أعظم برأيك هيغل أم ماركس أم ديكارت أم كانت؟د. وليد: كل واحد من هؤلاء له مكانة عالية في عصره وترك آثاراً كبيرة، إلا إني أجد الاعظم كفيلسوف هو ابن سينا والفارابي والكندي وملا صدرا الشيرازي (صدر المتألهين)، لأن هؤلاء قدموا رؤيا تمتلك موقفا روحياً إلى جانب الموقف المادي في إدراك قيمة الوجود، فهيغل لم يؤسس لنظرية تطبيقية بشكل كامل، والماركسية فشلت في التعامل مع مفردات الحياة مما أدى إلى فشلها، والجوانب الاخلاقية والرمزية عند ديكارت وكانت بقيت محدودة على الرغم من تأثيرها في الفكر الاوربي لفترة من الزمن، في حين ان المعيارية الاسلامية بقيت ثابتة في طروحات ابن سينا وملا صدرا، وهما تعرضا للفسفة الهيغيلية وناقشا مفاهيمهاى ومصاديقها، وبينا مواقف الضعف والقوة، وكانا اكثر موضوعية في التعامل مع مفردات الحياة.سلفا: من أين أتت فكرة المخلص في تاريخ الشعوب؟د. وليد: إذا أردنا أن لا نسعرض الفكرة في الجانب الديني وخاصة عند الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلامية، فإننا نرى في حركة التاريخ أن الافراد الشعوب والأمم تعيش كلها عملية صراع متواصل، وحين تقف كلها على شفير هاوية الفناء، وحين تتغلب المثل السفلى على المثل العليا، ويتحكم بالشعوب والأمم ملوك وحكام فاسدين، ويصبح القتل والموت فاكهة يومية، ويصير البحث عن الامان عملا مستحيلا عندها ينادي الافراد والشعوب والأمم أين المخلص، أين المنقذ أين المؤمل؟ بإعتبار ان فكرة الخلاص من الظلم أصيلة في التكوين الإنساني.آدم: دكتور كنت قد قرأت لك كثيراً من البحوث والدراسات في فلسفة نهاية التاريخ، فهل للتاريخ نهاية؟ وكيف يكون الوعي بها؟د. وليد: في العقيدة الاسلامية مبدأ أصيل يقول: (أن الله واجب الوجود وكل ما دونه محتمل الوجود). ومن هنا فكل ما هو محتمل الوجود هو له بداية ونهاية، والحياة نفسها كذلك، واقرب مثال على ذلك الإنسان الذي هو أحد عناصر حركة التاريخ، فهو يولد ويموت، قد تطول أو تقصر حياته، لكنها في النهاية محددة، فقد نفسر نهاية التاريخ بنهاية الوجود البشري على الارض، كما كانت نهاية التاريخ بالنسبة لعصر الديناصورات أو للعصور التاريخية المتعارف عليها في مفاهيم التاريخ القديم، العصر الجليدي والعصر الحجري والعصر النحاسي وهكذا لكل واحد منها بداية ونهاية، ومن هنا فلايمكن الوعي بنهاية التاريخ إلا من خلال الوعي بحركة التاريخ نفسها.روبرت: لقد استطاعت الفلسفة المادية ان تنتج الحضارة الغربية، فهل يحتاج الإنسان إلى الموقف الروحي لاستمرار الحياة؟د. وليد: الفلسفة المادية هي نتاج تراكمي لما قبلها ولذا لا يمكن إعتبارها أصيلة، وقد اثبتت التجارب الإنسانية أن كل تقدم فكري لا يصاحبه تسامي روحي فانه حالة تنذر بالخطر، فالولايات المتحدة التي تقود العالم المادي وقبلها بريطانيا قد تسببت بإنهيار العديد من الشعوب، وحاولت تطبيق مناهجها عنوة من خلال فرض الحروب والنزاعات الدولية لكنها بالنهاية فشلت في فيتنام وكوريا، وأمريكا اللاتينية، كما فشلت بريطانيا في صراعها مع الهند وبقية مستعمراتها في الشرق، فاضطرت للخروج من الهند، لتشهد نهاية الحرب العالمية الثانية بداية نهاية الحقبة الاستعمارية، وها هو الاتحاد السوفياتي إنهار والفكر الماركسي كذلك، وإنهيار الولايات المتحدة قد بدأ لكنه سيأخذ حقبة اطول.سلفا: لكننا الان نشهد صراعاً دمويا بإسم الإسلام، فهل هذا جزء من الرؤية الحضارية الاسلامية في التاريخ؟د. وليد: في البدء احب أن تتذكروا طروحاتنا السابقة في مفهوم الحضارة، فالحضارة في موقفي الفلسفي كما تعلمون هي: (الناتج الايجابي لحركة الأفراد والشعوب والامم)، وهذا موقفي الفلسفي كما ذكرته لكم في مناقشات سابقة. كما ان النشوء الحضاري وتطوره يتبع منظومة العلاقات، ولعلي هنا أشير لموقف توينبي في قوله: " أن الظروف الصعبة لا السهلة هي التي تستثير الامم في صناعة الحضارات ". مما يعني ثم تراكم من الفعل السلبي والايجابي يؤسس لصناعة الحضارة، لكن ما إن تتشكل الحضارة فيجب عليها أن تتخلص من الناتج السلبي وتركز على الناتج الايجابي في التقدم. وفي التاريخ الاسلامي الكثير من الشخصيات التي تسلمت الحكم لكنها لم تتبع التراكم الايجابي في الفعل، مما ادى إلى إنهيار الحضارة الأسلامية في مراحل ما، مع الحافظ على قدراتها في إمكانية الاستمرار، فكي تستطيع اية أمة أن تتطور عليها أن تعي مكامن صيرورتها. وفي عصرنا الحاضر ثمة دول ومناهج تتبع المعايير السلبية في فهم الاسلام ولهذا فهي تقدم صورة مشوهة وغير حقيقية عن الفلسفة الاسلامية.سلفا: من تقصد في الوقت الحاضر؟د. وليد: السعودية التي تتبنى الفكر الوهابي الذي يقول بتكفير كل ما عداه والشواهد كثيرة، فكل هذه الدول والمؤسسات التي تتبع الفكر الوهابي السلفي قد قدمت صورة سيئة عن الاسلام، سواء من خلال الجمود الفكري الذي تتميز به، أو من خلال إستخدام الدين والمال في الخراب الحاصل الآن.الاستاذة وليامز: لقد تركت الحضارة الاسلامية أثرها في الفكر الاوربي منذ القرن قبل الف عام (القرن الرابع الهجري) وفي ما قبل عصر النهضة كان للثقافة الاسلامية دور كبير في اوربا لكنها تراجعت، فكيف لنهضة حضارية ان تنتكس بهذا الشكل؟د. وليد: ذكرت قبل قليل أن الانحراف بالفكر الاسلامي أدى إلى تراجع التأثير الحضاري، وهذا الانحراف كان قد بدأ مبكراً كما ذكرت لكم في حواراتنا السابقة، ولولا بقاء التأثير المباشر للأئمة (عليهم السلام) لما بقي شيء من الفكر الاسلامي الأصيل، وانا اعرف ان بعضكم معجب بأقوال أخوان الصفا بسبب تأثير قراءآتهم الصوفيه، فاخوان الصفا يقولون: " خلافة الغصب لا تدوم لأنه لابد أن يظهر من بظهوره تكتمل السعادات، إنه كالشمس يبعث في العالم روح الحياة ". وهم هنا يقصدون كل الذين تسموا بالخلافة ما بعد رسول الله إلا الإمام علي عليه السلام لأنه الوحيد الذي كانت خلافته بالانتخاب وبالبيعة من جميع الناس دون غصب أو إكراه. فإبتعاد الامة عن القيم التي جاء بها نبينا محمد (صلوات الله عليه وآله) هو الذي أدى إلى إنهيار تأثير الحضارة الاسلامية في الفكر الاوربي وغيرها. ولعلي هنا اذكر ما قاله الفليلسوف الفرنسي ماري جان كوندرسيه: " ما حمله المسلمون من تراث كان كافياً للإيقاظ أوربا من غفوتها وإن لم يحل دون عودة المسلمين لغفوتهم ". وأكرر ان سبب نكوص المسلمين هو انحرافهم عن المنهج الرسالي الأصيل.ماكلايد: هل الإنسان قادر على الخلود؟د. وليد: في موقفي الفلسفي الخلود قضية نسبية، بإعتبار ان كل ما هو غير الله محتمل الوجود كما ذكرنا، فدعوني افسر لكم الموضوع من موقف فيزيائي، ففي تكوين الذرات تظهر مكونات عمرها (1/100000) جزء من الثانية في حين عمر الارض (4.45) بليون سنة تقريباً فتكون الارض خالدية مقارنة بهذا المكون، وكذلك عمر الإنسان مقارنة بعمر الأرض، وفي الدراسات البيولوجية الحديثة، فان الانسان قادر على الإستمرار بالحياة ما لم يتعرض لعوارض خارجية كالمرض والتلوث الطبيعي للجو وغيرها، فنوح عليه السلام الذي عاش ما يقارب الف عام يعتبر خالداً مقارنة بالانسان المعاصر الذي يعيش (70-100 عام)، نعم يمكن للانسان ان يعيش طويلا إذا أحسن التعامل مع مفردات الحياة.جان: مالفرق بين الانسان والإله. هل يمكن أن يصير الأنسان إلهاً؟د. وليد: الله في الفكر الاسلامي ثابت الوجود أي لا يمكن إلا أن يكون موجوداً، وهو بسيط غير مركب من أجزاء، ولو كان مركباً لوجب ان تكون لهذه الاجزاء مساحات وأوزان وأعمار زمنية وهذا يخالف العقيدة الإسلامية في الله، وهو أزلي لا يحدد بزمان ولا مكان ولا يوصف بشكل من الأشكال، واسمح لي ان استعمل نص قرآني وكلام للإمام علي عليه السلام فهل تقبل؟ جان: نعم:د.وليد: النص القرآني: ﴿هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿22﴾ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿23﴾ هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿24﴾. الحشر/22-24.وأما كلام الامام علي: " لا أسمٌ ولا جسم ولا مثيل ولا شبيه، ولا صورة، ولا تمثال، ولا حدٌ ولا حدود، ولا موضع ولا مكان، ولا كيف ولا أين، ولا هنا، ولا ثمة، ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيامٌ ولا قعود، ولا سكون ولاحركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحانيٌ ولا نفساني، ولا يخلو منه موضع، ولا على لون، ولا على خطر قلبٍ، ولا على شم رائحةٍ ". انظر الصادقي، الحوار بين الماديين والإلهيين: 251، عن توحيد الصدوق: 312. أي بمعنى انه لا يوجد شبيه لله ولا مثيل ولا مقارب له، وهو قائم بذاته لا احد معه.وأما الانسان. فهو محتمل الوجود أي يمكن ان يكون موجوداً أو غير موجود، وجسمه مركب من كل العناصر المكونة للارض بنسب متفاوتة، وهو غير أزلي أي عمره محمدود. وكون أن جسمه مركب فهذا يدل على إنه مخلوق لان الخالق غير ذلك تماماً. وقد ذكرت ذلك سابقا فلا حاجة أن أكرر. وكل هذه المفاهيم تشير إلى إستحالة أن يكون الإنسان إلهاً.ماكلايد: عفواً دكتور لكن ما قيمة الإنسان إذا كان سيخضع لله؟د. وليد: في البدء يجب معرفة ان الله ترك للإنسان حرية الإختيار (لا إكراه في الدين) لكنه بين له أنه لايوجد خالق غير الله، وأنه إذا قرر الإنسان إتباع ديانة كاليهودية في عصرها والمسيحية في عصرها ثم الاسلام، فعليه ان يخضع لشروط وقواعد ومبدايء هذه الديانة لانها ديانه سماوية ولانه أي الانسان جاء إلى هذه الديان مختاراً وليس مجبراً. وفي العقيدة الاسلامية كما في النظام التشريعي فان الانسان في الديانة الاسلامية مكرم فحرمة الانسان عند الله أعظم من حرمة البيت الحرام (الكعبة) التي هي محل التوجه للعبادة عن المسلمين ويسمونها بيت الله. ولهذا نجد في الشريعة الاسلامة ان العقوبات لاتنفذ إلا بعد استنفاذ كل الطرق لحماية الانسان وهناك شروط قاسية في تحديد المذنب او تقييم الذنب حفاظاً على كرامته، ففي القتل يوجب المشرع الاسلامي وجود شاهدين عاقلين، بينما القوانين الوضعية تكتفي بشهادة شاهد واحد حتى وأن كان طفلاً لا يعقل. من الخطأ أجبار احد ما على دخول الاسلام لأن ذلك مخالف للشريعة، أما ما تسمعونه هذه الايام من حروب باسم الجهاد وغيرها فلا علاقة لها بالاسلام الاصيل. ماكلايد: فهل قيمة الانسان مادية أو معنوية؟د. وليد: الاسلام يتخذ من قيمة الانسان موقفاً ماديا ومعنويا على السواء، ففي الجوانب المادية تلزم الشريعة بتعويض مادي عن أي أذي يلحقه إنسان بآخر، فالعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، كما ان الشريعة تلزم الافراد والمجتمع بالجانب الاخلاقي في العلاقات والتعاملات ولهذا حرمت القتل والزنى والكذب والغش والكلام البذيء، والسخرية كما حرمت الربى، والتعاملات المالية المزيفة. وفي جانب الحقوق فقد اطلعتكم على رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين زين العابدين التي ترجمتها لكم، وفيها معايير اخلاقية وقانونية لاتتوفر في اكثر التشريعات المعاصرة سعة.أعتقد إننا سنكتفي بهذا الحوار لهذا اليوم وسنكمل الحوار الاسبوع القادم في جلسة أخرى حيث سيحضر طلاب من جامعة برمنكهام للإنظمام لنا.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندن28 / آذار / 2013م
https://telegram.me/buratha