علي محمد البهادلي
بعد أن اُستبعِد الخط الرسالي عن موقع القرار السياسي بعد أن تسلم مقاليد الحكم الإسلامي معاوية ابن أبي سفيان وما جرى من بعد ذلك من انحراف كبير عن مسار الشريعة المحمدية ، بدأ الخط الرسالي معارضته القوية للنظام الحاكم ، وقد عبر عن ذلك بعدة طرق وأساليب ، لكن الهدف كان واحداً وهو إرجاع الأمور إلى نصابها ، فمرة يتخذ أسلوب المعارضة المسلحة والثورة العارمة ومرة أخرى يتخذ أسلوب العبادة وضخ مفاهيم عقدية في ثنايا الأدعية يتضمن ما بين سطورها مضامين سياسية تُعرِّض بالسلطة الغاشمة وتكشف زيف ادعاءاتها ، ومرة يتخذ الأسلوب الفكري والفقهي وطرح مرجعية مقابل مرجعية أخرى ، وهذا بنفسه يعطي انطباعاً عن معارضة لكن بشكل ذكي جداً . أما الأسلوب المتقدم فهو إعداد نخبة مثقفة ثقافة صحيحة تتسم بأرقى درجة من النزاهة والأمانة والموضوعية وزجهم في الميدان السياسي واختراق أجهزة الحكم الطاغوتي ، لا لشيء من حطام الدنيا أو مناصبها ، بل للوصول إلى مركز القرار السياسي الذي يمكن صاحبه من اتخاذ إجراءات وقرارات يخدم بها المستضعفين ويقلل الظلم الواقع عليهم ، فمركز القرار يُعَد من الميادين الخطرة ؛ لأن الحاكم الظالم بما لديه من قوة وسلطان قادر على تحريف أحكام الشريعة وتغيير مساراتها بما يصب في خدمته ، وهو ما رأيناه ابان الحكم الأموي والحكم العباسي ، فالأمويين بدءً بمعاوية بن أبي سفيان قد استغلوا الفقهاء ورواة الأحاديث وأخذوا يشترون الأحاديث المزورة والموضوعة التي تطلق يد الحاكم في ظلم رعيته واستعبادهم وسلب حقوقهم المشروعة ، بل تحرم الخروج على مثل هؤلاء الحكام وتعطي الشرعية الكاملة لتصرفاتهم ، فمن يريد أن يغير عليه فإنما يريد أن يغير على رسول الله وعلى الله ، وهو على حد الكفر كما يقولون !! لذا استبيحت الدماء وانتهكت الأعراض وسلبت الأموال لمجرد اعتراضات خرجت من قبل الخيرين الذين يرون الحق لا يُعمَل به والباطل لا يُتناهى عنه . إن هذه المرحلة المتقدمة قد سبقتها عدة خطوات أسهمت في الوصول إلى تلك المرحلة ، ويكاد يكون عصر الإمام الكاظم هو ذروة في ميدان وصول الكوادر الرسالية إلى مواقع القرار ، فمنصب الوزير وهو ما يناظر رئاسة الوزراء حسب اصطلاح السياسة الحديثة قد تسنمه أحد خواص الإمام ( سلام الله عليه ) مما يدل على مدى فاعلية الخط الرسالي في المجتمع آنذك بحيث وصل إلى ذلك المنصب ، بيد أن الوصول إلى هذه المناصب كان هدفه واضحاً جداً وهو إنصاف المظلومين وتقليل الظلم والإجحاف الذي قد يلحق بالناس ، فالخليفة هارون الذي يُعَد من أبرز الخلفاء في ميدان الإسراف والبذخ وهو من أوضح صور هدر المال العام والفساد الإداري والمالي ، كان مسرفاً وظالماً ولا يرحم من يشتبه به ، فإذا ما كان وزيره موالياً له فإنه بالطبع سيشدد على الناس ويأخذهم على الشك والتهمة فضلاً عن استغلالهم اقتصادياً وحلب ثرواتهم وممتلكاتهم بعناوين مختلفة يختلقها أمثال هؤلاء الظلمة ، أما إذا كانت أذرع هذا الظالم سليمة من العيب ولا تتملق إلى الحاكم وتتصف بالزهد والعفة ، فإننا بذلك نضمن نسبياً عدم التعدي على حقوق الرعية ، وإذا ما أصابها ـ أي الرعية ـ بعض الأذى فإن صاحب القرار الإنسان الرسالي لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه الحالات بل يسعى ما أمكنه من أجل تخليصه من قبضة المستكبرين ومن وشايات المتملقين ، وهذا ما حصل للكثير ابان عهد الأئمة (ع) . من وحى الذكرى العطرة للإمام الكاظم عليه السلام نستلهم مثل هذه الدروس ، فما أحرى بالمؤسسات الدينية النزيهة أن تعي الدور الملقاة على عاتقها لا سيما أنها تنطق عن الإمام المعصوم باعتبارها الوريث الشرعي لأغلب الصلاحيات التي كان يتمتع بها كالتشريع والسياسة ، فلو فكرت مثل هذه المؤسسات بإعداد مثل هكذا كوادر تأخذ على عاتقها السير على وفق المنهج السليم والطريق الواضح ، وتكون بديلاً ناجحاً للساسة الفاسدين الذين تذمر الشعب العراقي منهم ، وأخذ يتطلع في أفق المستقبل ويستشرفها عله يحظى بما يتمنى ، وهو وصول حاكم عادل ينصف المظلومين وينتصف من كل الظالمين ، يوفر الخدمات والأمن ، ويحنو على الفقراء والمعدمين والأرامل والثكالى ، لو فكرت هذه المؤسسات مثل هذا التفكير لأمكنها أن تسترد مكانتها المرموقة في قلوب الناس التي تصدعت بعض الشيء لأسباب لا نريد الخوض فيها الآن ، أما إذا لم يكن في حساب تلك المؤسسات مثل هذا التفكير ، فحري بها أن تترك المجال لغيرها ممن هو أهل له ، فمن يتنصل عن مسؤولياته يجب على الأمة أن تسعى لعزله وأن تجرده عن كل امتيازاتها التي نالها بسبب هذه الموقع المعظم وهو موقع القيادة والمرجعية .
https://telegram.me/buratha