بقلم: علي الفحّام
علوم الهندسة كانت ومازالت طريقا خصبا لرقي الأمم وتحضرها وجسورا آمنة نحو الرخاء والاعتماد على النفس، فالهندسة هي العمارة والبناء والرفاهية والحضارة والفن الحقيقي والتكنولوجيا وأم العلوم.. والأمة التي تخلو من المهندسين امة نفد عطاؤها وتوقفت نبضات الحياة فيها ونضبت ينابيع الإبداع منها. ولا تقارن المهن والعلوم الأخرى بالهندسة لان الأخيرة هي القاعدة الأساسية والركيزة التي يجب أن تولى بالاهتمام إذا ما أرادت الأمة مواصلة البقاء على حالها في اقل تقدير. فالطب لا يعدو كونه تشخيصات غيبية وتصورات يشوبها عدم الدقة إذا ما جرد الطب من أجهزته الكشفية الهندسية، والإعلام يصبح عقيم الوصول إلى حواس المتلقي لو لم يتربع على قاعدة من احدث الأجهزة والمستلزمات الهندسية المتطورة، والزراعة يستحيل أن تتغلب على معضلاتها لولا الهندسة وابتكاراتها، ومن المحال أن تستمر الحياة على هذه الوتيرة من الرفاهية والتقدم من غير الهندسة وأهلها.. وقديما كان الحكام يولون المهندس الرعاية والاهتمام ويوفرون له إمكانيات الإبداع، حتى الحكومات الدكتاتورية أولت العلوم الهندسية مساحة شاسعة من الاهتمام وشرعت القوانين التي تمنح المهندس المكانة المرموقة والحقوق المستحقة لإدراكها التام أن الهندسة هي وحدها من يخطو بها وبأوطانها نحو المستقبل والبقاء.. وليس في النية عقد مقارنة بين الوضع الحالي وأوضاع المهندس في زمن النظام الصدامي ولكن من باب الاسترسال في سرد الوقائع وقراءة جميع الأوراق، فأن نظام صدام شرع بعض القوانين التي تعطي المهندس جزءً بسيطا من حقه بين ما هو حافز أو مخصص مهني وبنسب تجاوزت 200% عكس الحكومات الحالية التي لا تريد أن تسلك نفس المسار وإن كان لحساب مصلحة البلد، وربما خوفا من أن يقال أنها تقلد النظام السابق أو أنها تسير على خطاه بغض النظر عن كون بعض تصرفاته وقراراته فيها جانب من الصواب والإنصاف... لذا لم يصبح المهندس وحده ضحية هذه السياسة، إنما البلد أيضا ناله غبن كبير بحرمانه من الطاقات الهندسية لأبنائه، لان المسألة لم تقف عند حد المرتبات أو المخصصات المالية، بل وصلت إلى تغييب الكفاءات الهندسية الشجاعة عن ساحة العمل الحقيقي وإبقائها في دائرة الظل، وتعمد البعض من كبار المسؤولين إتباع سياسة التمييز بين الكوادر الهندسية في وزارات الدولة، ووزارتا الكهرباء والنفط أفضل برهان على سياسة الكيل بمكيالين، فهاتان الوزارتان المتخمتان بالكوادر الهندسية تعتمدان نظام رواتب وحوافز مخالف لما هو موجود في الوزارات والدوائر الأخرى، والسبب يكمن في أن وزارتي النفط والكهرباء توفران الرواتب الضخمة والطاقة الكهربائية لمنازل ومكاتب كبار المسؤولين، أما الوزارات الأخرى فالمهندسون فيها غير ذوي أهمية... وبالالتفات قليلا إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي نتذكر أسماء الشركات والمؤسسات الصناعية في العراق ومنها: القادسية، ديالى، الهلال، القيثارة، عشتار ونصر الرائدة في ما خف وما ثقل لمختلف الصناعات، كانت تعمل بامتياز من كبريات الشركات العالمية وطرحت منتجاتها عالية الجودة بالأسواق العراقية وسبقت دول المنطقة جميعا وحققت الاكتفاء النسبي ومنافسة البضائع الأجنبية ذات المنشأ الأصيل. اليوم ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين وفي أسوء تقدير يفترض بنا الحفاظ على هذا المستوى.. تلك المنشآت والشركات الصناعية العراقية نهبت معداتها ومكائنها من قبل عصابات منظمة مرتبطة بكبار المسؤولين الحاليين، نقل البعض منها إلى دول الجوار وبيع هناك، والقسم الآخر هربه المسؤولون الأكراد إلى محافظات الشمال العراقي. والعملية بمجملها لا تعدو كونها أجندة إقليمية تهدف إلى تدمير الصناعة العراقية المشهود لها بالسمعة والجودة على مستوى المنطقة وبعثرة الطاقات الهندسية التي تدير الصناعة الوطنية كي لا تقوم لها قائمة مرة أخرى. واستكمل مخطط نسف الصناعة ومحو التكنولوجيا بتوزير شخصيات اتصفت بالجبن والاسترزاق وسوء الإدارة لهرم الصناعة العراقية ذات الماضي المشرف، مما أتاح الفرصة لان تغزو أسواقنا البضائع الصينية الكارتونية وتحول مسؤولونا كبيرهم وصغيرهم ما بين تاجر وسمسار لبضائع دول الجوار التي كانت تحتضنهم. والقضية ليست تحامل على المسؤولين أو أحزابهم السياسية، لا... بل القضية مترابطة وكما أن هناك من ينفذها بدقة وتخطيط فهناك من ينفذها بغباء وجهل أو طمعا بالمال، فوزارة التعليم العالي والبحث العلمي هي الأخرى تشترك بالمؤامرة الكبرى ضد الصناعة عموما والهندسة بشكل خاص، فهي منحت الموافقات للعديد من الجامعات الأهلية بافتتاح كليات وأقسام هندسية من دون أن تتوفر فيها إمكانيات الدراسة الهندسية: الشهادات العلمية التدريسية والمناهج التخصصية أو الورش والمختبرات الهندسية، ولكن جرى افتتاحها بسبب رضوخ الوزارة لطلبات كبار الشخصيات المتنفذة في الأحزاب السياسية المشتركة بالحكومة، والمصيبة أن هذه الكليات تخرج المئات من المهندسين وتزجهم للعمل في مؤسسات الدولة بشهادات تجارية إن صح التعبير... والأمثلة هنا واضحة ولا تحتمل التحديد لأننا بصدد طرح المشكلة بعيدا عن التسقيط أو الإساءة للآخرين. ومما لا يفوت التنبيه إليه أن النقابات طالها حمى الصراع السياسي لتحزيبها وطلائها بألوان التبعية والانقياد والتنكر للقضايا النقابية، وتعبئتها بالمشاكل السياسية وجعلها مقرات للكسب الحزبي واقتناص الأصوات الانتخابية، ولكننا نترقب من نقابة المهندسين الانتفاض والتحرك بمهنية وبمنهجية لتصحيح الانحراف في مسارات الحركة الهندسية، وننتظر الكثير من النقابة في الدفاع عن حقوق المهندسين وان تقود نهضة تقنية حقيقية ترتقي بأوضاع علوم الهندسة وشؤون أهلها، كونها الممثل الوحيد لحقوق الشريحة الهندسية بالبلد، فمن حق النقابة مشاركة الوزارات المعنية برسم خطط التنمية وإعادة تأهيل الصناعة الوطنية من جديد لمحو صفة الاستهلاك الدخيلة من سلوكيات المجتمع، وندعوها للتدخل الجاد والمستقل في إنصاف الكفاءات الهندسية المبعدة عن خانة المسؤوليات وإطلاق يد خيار المهندسين لإحداث التغيير الايجابي. وعليها واجب رعاية البراعم الهندسية الشابة من أجيال المهندسين الجدد لصقل خبراتهم وتطوير أفكارهم لأنهم أمل الوطن ومستقبل الصناعة الوطنية، وبلا شك فان ذلك يتحقق من خلال التنسيق المشترك مع الجامعات العراقية لتطوير المناهج الهندسية وتأهيل الورش الصناعية والمختبرات العلمية وتنظيم إيفادات دورية بالتعاون مع الكليات والدوائر الحكومية إلى الدول الأوربية الصناعية لاكتساب الفائدة العلمية واغتنام الفرصة للتمتع بجمال الطبيعية التي تزيد من القابليات الذهنية والبراعة العقلية التي يحتاجها المهندس..
https://telegram.me/buratha