عبد الامير جاووش
كل الأفكار تقود في ميادينها , وتحكم في التطبيق , لذا لا يمكن وضع خط فاصل حقيقي بين ما هو عملي واقعا . فأي رأي يمكن أن يتحول إلى عمل أو إلى مؤثر في موقف ما , حتى الأسطورة العلمية قد توحي بنظرية كما حصل لفرويد .
ولكن يجب التفريق بين أفكار قاصرة وبين أفكار مريضة , فالأفكار القاصرة مثل ازدياد المراهق جرأة بفعل الإيمان المتمركز في الذات في القدرة الكلية للتفكير المنطقي ,فهو يستطيع أن يفكر منطقيا بالمستقبل وبأناس وأحداث مفترضة , وهو يشعر بأن العالم يجب أن يخضع نفسه لخطط مثالية (منطقية) بدلا من أنظمة الواقع ,
فهو لا يفهم أن العالم غير منظم بشكل عقلاني بصورة دائما كما يتخيله هو .فلا يحاول فقط تكييف ذاته للبيئة الاجتماعية , بل انه يحاول كذلك , بنفس القوة , أن يكيف البيئة الاجتماعية لذاته - وتكون النتيجة فشل نسبي في التمييز بين وجهة نظره هو ... ووجهة نظر المجموعة التي يأمل في إصلاحها .هذا شكل من أشكال ظاهرة الافتقار للتمييز .... فالمراهق يمر عبر مرحلة يعزو بها لتفكيره الخاص قوة لا حدود لها , لذلك فأن أحلامه بمستقبل مجيد من خلال تغيير العالم بواسطة الأفكار ... تبدو ليس فقط حلما خياليا بل كذلك فعلا مؤثرا يعدل , بحد ذاته , العالم الحسي الواقعي .وكما يرى (جان بير بياجييه) فأن النقطة الرئيسية في عملية انحلال التمركز حول الذات , هو الدخول في عالم العمل أو البدء في التدريب المهني الجدي .بينما الأفكار المريضة أو المنحرفة , فهي المتكونة تحت وضع نفسي معقد , أي هي التي تحوي على بؤر من الأفكار والرؤى المنشطرة والمعزولة عن العقلانية الإنسانية مثل ( العنصرية ) , فتصطبغ بالكهانة الفصامية أو العرافة الهستيرية , وتتقمص رطانة الخطابة المشارعة الأفكار وتمتاز بالتجليات الطوباوية , وقد يقع الناس تحت وطأة الانهيار (الأخلاقي) بها لما تعدْ به من جنة على الأرض .تلك المنسوجات العنكبوتية المجانبة للعقلانية تخفي تحت اطمارها جنون العظمة والشعور بالاضطهادية والتوجس من المؤامرة وتحث على الخوف المدمر للذكاء .وحين تسترسل في تداعياتها تشتمل على انهيار القيم ونكران الأحكام ومحو المقاييس وتصدع المنطق وزعزعة البداهة , وهناك تكثر الهفوات وتزيد السقطات فتغوص في جنبات وتغرق في العنف الثوري (الشعور بالاضطهاد) . وكل ذلك يصاغ بلغة خاصة ومنطق معين , وينتهي إلى قرارات مفزعة لا إنسانية وغير واعية تدعو كل سايكوباث (مجنون اجتماعيا باحث عن لذة آنية ) إلى اعتناقها وتفعيل ارهاصاتها .
وليس أكثر تعويقا لعملية الإصلاح المضاد لهذه الحركات من سطوة البيروقراطية الثقافية , التي تهتم بالتراكم المعلوماتي والترديد التقليدي , فهي رجعية معاندة للإبداع الخلاق , وعاجزة عن الحلول العلمية , ومتناقضة في أنساقها , وهشة الموقف ولا تتحمل المسؤولية الأخلاقية , خصوصا عند انفلاتها مع التحيز وعدم الدقة واللا موضوعية .فأبسط أشكال البيروقراطية تفرض على الموظف الالتزام الدقيق بالأحكام والقوانين الإدارية , وهذا ما يحول الموظف إلى آلة تسيرها الأحكام والقوانين خصوصا عندما لا يستطيع تغيير نصوصها وقت قيامه بواجباته , وهذا ما يقتل عنده صفة الخلق والإبداع وهنا تتعرض المصلحة العامة للضرر.اعتقد أن تدارك الموقف في مجتمعنا الحالي , يحتاج إلى فهم للواقع عليه بمنهج العمل وفق نظرية تنسجم مع ذلك الواقع , واستنادا إليها تحتسب الأولويات وتحدد الأساسيات مثلا :1- النظرة الأحادية للوجود , وحصر فلسفة التوحيد في مفاهيم الزمان والمكان والمادة والوعي باعتبارها مبادئ أولية نسبية مترابطة متصلة نهائية .2- التأكيد على فلسفة العلم , والتثقيف بالمنطق الرياضي .3- الاعتماد على نظرية معرفة , والاهتمام بالتعليم وربطه بتاريخ العلم .4- التركيز على كيفية التفكير وليس الأفكار , والاهتمام بالمهم5- فسح المجال لأساليب بحث جديدة تهدف للتطوير6- وضع القيم الأخلاقية الاجتماعية في صياغة جمل كلامية قصيرة .
سنقع في إخفاقات كثيرة , وينثني البعض عن المواصلة ويتقبع آخرون , وكل ذلك لا يتيح لنا العذر عن ترك مواصلة العمل بتواضع كبير , وهمة عالية ونظرة متفائلة تجنبا للأسوأ .وإنما الأخطاء المميتة تحدث مع الآراء ذات الزي العلمي والزركشة الرومانتيكية , ولكنها جوفاء خاوية لا تستند إلى ركن وثيق . وكل الأفكار المعوقة ( تقريبا ) تبدأ مع أحكام معينة ثم تستغل من جانب موقف أحادي , وبسبب الغرابة وعنصر المفاجأة تسبب الدهشة والذهول إلى اجل مسمى ,وكثيرا ما يحدث ذلك في مضمار العلوم الاجتماعية , لأن الأحكام فيها تتفاعل مع النوازع النفسية , أكثر من اعتمادها على النظرة الموضوعية , وكثيرا مازلت القدم في موضعين :الأول : في النظرة الأنانية التي تعتمد التجربة الخاصة لتقديم حلول ارتجالية .
الثاني : تضبب الوعي الذي يحبك آراء شمولية ويطرح حلول تاريخية , من خلال التفريق بين منطق العلوم الاجتماعية وبين منطق العلوم التطبيقية .
يجب أن نتجنب الذوق المريض , ونرفض كل الصراع الحضاري , وندعو إلى تحديد المشتركات الإنسانية , ونقر كل ما هو غير ضار ولكنه ضروري للتفاؤل بالمستقبل .وإذا كان هناك منظور من موقع متحيز تستل فيه فرضيات وتكبس في منطق خاص , لتجتر منها أحكام تخالف منطق العقل السوي , ثم تدعو ذوي المصلحة الخاصة لنصرتها وفقا لمبدأ المصالح المشتركة والأهداف الخاصة , تجاوزا فوق كل الحواجز الحضارية للمجتمع الإنساني , فأنه يجب أن يؤشر ذلك اللبس في التفكير الضال كجريمة أخلاقية , وأيضا ما يدعو إليه من خصخصة المصالح بأنه جريمة إنسانية , إذا عجزت عن مقاضاتها القوانين الجنائية , فلا تعجز عن هتكها المحاكمات المنطقية , شرط أن يجد المستنيرون الدعم الكامل من الضمير العام .إننا ملزمون بالاعتذار من الجميع إذ نعد بالكثير ثم لا نقدم إلا الأقل , فأحيانا نسهو وننسى أو يجمح بنا الغضب أو ننكفئ من الخوف أو تعتصرنا الفاقة , فنقول ما لا نعتقد أو نخطيء في التعبير أو نسيء اختيار المثل .ولكن لن نحيك حبائل الجهائل ولا نغرر بأباطيل الأضاليل ولا نعزف أوتار العواطف ولا نكذب لنكسب ولا ننتصر بقول الزور ولن نتنكر لتجارب الآخرين ولا نستهين بحق احد , فإنما سبيلنا المنطق وبضاعتنا المحبة .......
https://telegram.me/buratha