إعـــــداد محــــمــد الــناصـــري
بمناسبة ذكرى رحــيل الامام الخميني قدس سره الشريف .... نتقدم بأحر التعازي الى صاحب العصر والزمان الإمام الحجة بن الحسن صلوات الله وسلامه عليه، والى مراجعنا العظام وعلمائنا الأعلام، والامة الاسلامية جمعاء، وأتباع أهل البيت ـ ع ـ ولد الإمام الخميني (قده) عام 1320 للهجرة (21/9/1902 م) بمدينة خُمين - 349 كلم جنوب غربي طهران - في بيت عُرف بالعلم والفضل والتقوي.. ولم تمضِ علي ولادته ستة أشهر حتي استُشهد والده آية الله السيد مصطفي الموسوي علي أيدي قطّاع الطرق، المدعومين من قِبل الحكومة آنذاك، وكان استشهاده (رحمه الله) في الحادي عشر من ذي القعدة عام 1320 للهجرة. وهكذا، تجرّع الإمام الخميني (قده) منذ صباه مرارة اليتم، وتعرّف علي مفهوم الشهادة. أمضي الإمام فترة طفولته وصباه تحت رعاية والدته المؤمنة السيدة هاجر، التي تنتسب لأسرة اشتُهرت بالعلم والتقوي، وكفالة عمّته الفاضلة صاحبة هانم، التي عُرفت بشجاعتها وقول الحق. وفي سن الخامسة عشرة، حُرِم الإمام من نعمة وجود هاتين العزيزتين. مرحلة الدراسة والتدريس درس سماحة الإمام في مدينة خُمين حتي سن التاسعة عشر مقدّمات العلوم، بما فيها اللغة العربية والمنطق والأصول والفقه، لدي أساتذة معروفين. وفي عام 1339 للهجرة (1921 م) إلتحق بالحوزة العلمية في مدينة آراك، وبعد أن مكث فيها عاماً، هاجر الي مدينة قم لمواصلة الدراسة في حوزتها. وهناك، وفضلاً عن مواصلة دراسته علي يد فقهاء ومجتهدي عصره، إهتم بدراسة علم الرياضيات والهيئة والفلسفة. وفي الوقت الذي اهتم فيه بكسب العلوم، حرص علي المشاركة في دروس الأخلاق والعرفان النظري والعملي في أعلي مستوياته لدي المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي، علي مدي ست سنوات. وفي عام 1347 هـ (1929 م) بدأ الإمام الخميني الراحل (قده) بمزاولة التدريس، أي منذ أن بلغ سن السابعة والعشرين من عمره، درّس سماحته بحوث الفلسفة الإسلامية، والعرفان النظري والعملي، وأصول الفقه، والأخلاق الإسلامية.الأسرة والأبناء إقترن سماحة الإمام الخميني (قده) عام 1929 م بكريمة المرحوم آية الله الحاج الميرزا محمد الثقفي الطهراني، وكانت ثمرة هذا الإقتران ثمانية أبناء هم: الشهيد آية الله السيد مصطفي الخميني، وابن اسمه علي توفي في سن الرابعة، والسيدة صديقة مصطفوي عقيلة المرحوم آية الله إشراقي، والسيدة فريدة مصطفوي عقيلة السيد الأعرابي، والسيدة فهيمة - زهراء - مصطفوي عقيلة الدكتور السيد البروجردي، وبنت اسمها سعيدة توفيت ولها من العمر سبعة شهور، والمرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني، وبنت اسمها لطيفة توفيت وهي طفلة. مرحلة النضال والثورة إبتدأ الإمام الخميني (قده) جهاده في عنفوان شبابه، وواصله طوال فترة الدراسة بأساليب مختلفة، بما فيهما مقارعته للمفاسد الإجتماعية والإنحرافات الفكرية والأخلاقية. ففي عام 1943 م، ومن خلال تأليفه ونشره لكتاب كشف الأسرار قام سماحته بفضح جرائم فترة العشرين عاماً من حكم رضا شاه - والد الشاه المخلوع - وتولي الرد علي شبهات المنحرفين دفاعاً عن الإسلام وعلماء الدين. كما أثار في كتابه هذا فكرة الحكومة الإسلامية، وضرورة النهوض لإقامتها. وانطلق الإمام الخميني (قده) في نضاله العلني ضد الشاه عام 1962 م، وذلك حينما وقف بقوة ضد لائحة مجالس الأقاليم والمدن، والتي كان محورها محاربة الإسلام، فالمصادقة علي هذه اللائحة من قِبل الحكومة آنذاك كانت تعني حذف الإسلام كشرط في المرشحين والناخبين، وكذلك القبول باستبدال اليمين الدستورية بالكتاب السماوي بدلاً من القرآن المجيد. بيد أنّ سماحته هبّ لمعارضة هذه اللائحة، ودعا مراجع الحوزات العلمية وأبناء الشعب للإنتفاض والثورة. وعلي أثر برقيات التهديد التي بعث بها الإمام الي رئيس الوزراء وقتئذ، وخطابات سماحته التي فضحت الحكومة، وبياناته القاصمة، وتأييد المراجع لمواقفه، إنطلقت المسيرات الشعبية الحاشدة في كلٍّ من مدينة قم وطهران وسائر المدن الأخري، مما اضطُر نظام الشاه الي إلغاء اللائحة والتراجع عن مواقفه. ودفعت مواصلة النضال الشاه لارتكاب إحدي حماقاته التي تمثّلت في مهاجمة المدرسة الفيضية بمدينة قم في الحادي والعشرين من آذار عام 1963 م، وما هي إلاّ فترة وجيزة حتي انتشر خطاب سماحة الإمام وبياناته حول هذه الفاجعة في مختلف أنحاء إيران. وفي عصر العاشر من محرّم الحرام عام 1383 للهجرة (3/6/1993 م) فضح الإمام الخميني (قده) عبر خطاب حماسي غاضب، العلاقات السرّية القائمة بين الشاه وإسرائيل ومصالحهما المشتركة. وفي الساعة الثالثة من بعد منتصف ليل اليوم التالي، حاصرت القوات الحكومية الخاصة بيت الإمام (قده)، وتم اعتقاله وإرساله مكبّلاً الي طهران. إنتشر خبر الإعتقال بسرعة خاطفة في مختلف أنحاء إيران. وبمجرّد أن سمعت الجماهير نبأ اعتقال الإمام (قده) نزلت الي الشوارع منذ الساعات الأولي لفجر الخامس من حزيران 1963، وراحت تعبّر عن استنكارها لعمل الحكومة في تظاهرات حاشدة، أعظمها تظاهرة قم المقدسة، التي شهدت أكبر هذه الإستنكارات، والتي هاجمتها قوات النظام بالأسلحة الثقيلة، وكان نتيجتها سقوط العديد من المتظاهرين مضرّجين بدمائهم. ومع إعلان نظام الشاه الأحكام العرفية في طهران، إشتد قمع تظاهرات أبناء الشعب في تلك الأيام، حيث قتلت وجرحت قوات الحكومة العسكرية الآلاف من أبناء الشعب الأبرياء. وكانت مذبحة الخامس من حزيران 1963 م بدرجة من القسوة والوحشية. وأخذت تتناقل أخبارها وسائل الإعلام العالمية والمحلية. وأخيراً، ونتيجة لضغط الرأي العام واعتراضات العلماء وأبناء الشعب في داخل البلاد وخارجها، إضطر الي إطلاق سراح الإمام بعد عشرة أشهر تقريباً من المحاصرة والإعتقال. واصل الإمام جهاده عبر خطاباته الفاضحة للنظام، وبياناته المثيرة للوعي. وفي هذه الأثناء، تأتي مصادقة الحكومة علي لائحة الحصانة القضائية التي تنص علي منح المستشارين العسكريين والسياسيين الأميركيين الحصانة القضائية، لتثير غضب قائد الثورة وسخطه. فما أن يطّلع الإمام الخميني علي هذه الخيانة حتي يبدأ تحركاته الواسعة، ويقوم بإرسال مبعوثيه الي مختلف أنحاء إيران، ويعلن لأبناء الشعب عن عزمه بإلقاء خطاب في العشرين من جمادي الآخرة عام 1383 هـ. ألقي سماحة الإمام خطابه الشهير في اليوم المعلن، دون أن يعبأ بتهديد النظام ووعيده. فانتقد لائحة الحصانة القضائية، وحمل بشدة علي الرئيس الأميركي وقتئذ. أما نظام الشاه، فقد رأي أنّ الحل الأمثل يكمن في نفي الإمام الي خارج إيران. ومرة أخري حاصرت المئات من القوات الخاصة والمظليين بيت الإمام، وذلك في سَحَر يوم الثالث من تشرين الثاني عام 1964 م. وبعد اعتقال سماحته، اقتيد مباشرة الي مطار مهر آباد بطهران، ومن هناك، وطبقاً للإتفاق المسبّق، تم نفيه أولاً الي مدينة أنقرة (تركيا)، ومن ثم الي مدينة بورساي التركية. وقامت قوات الأمن الإيراني والتركي المكلّفة بمراقبة سماحة الإمام، بمنعه من ممارسة أي نشاط سياسي أو اجتماعي. مرحلة الإبعاد والنفي إستغرقت إقامة الإمام بتركيا أحد عشر شهراً. وخلال هذه الفترة، عمل نظام الشاه بقسوة لم يسبق لها مثيل علي تصفية بقايا المقاومة في إيران. مثّلت الإقامة الجبرية في تركيا فرصة اغتنمها الإمام في تدوين كتابه المهم تحرير الوسيله، حيث تطرّق لأول مرة آنذاك في كتابه هذا - الذي يمثّل الرسالة العملية لسماحته - الي الأحكام المتعلقة بالجهاد، والدفاع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المعاصرة. في يوم 5/10/1965 م يُنقَل سماحة الإمام برفقة ابنه السيد مصطفي، من تركيا الي منفاه الثاني بالعراق، ليقيم في مدينة النجف الأشرف. ومن منفاه في النجف كان سماحة الإمام، فضلاً عن انشغاله بتدريس الفقه لمرحلة البحث الخارج وعرضه للأسس النظرية لمبدأ الحكومة الإسلامية، التي حملت عنوان ولاية الفقيه، كان يتابع بدقة الأحداث السياسية التي تشهدها إيران والعالم الإسلامي، رغم كل الصعوبات الموجودة، وكان حريصاً علي إيجاد قنوات الإتصال مع الثوريين في إيران، ومع عوائل شهداء انتفاضة الخامس من حزيران، والسجناء السياسيين بشتي السبل. وقد وفّر وجود الإمام في العراق الفرصة لأن يكون علي اتصال مباشر بالمؤمنين والطلبة المسلمين الموجودين خارج البلاد بنحو أفضل من السابق. وكان لذلك دور كبير في نشر أفكاره وأهداف النهضة علي المستوي العالمي. فأثناء اعتداءات الكيان الصهيوني والحروب العربية الإسرائيلية، بذل الإمام الخميني (قده) جهوداً كبيرة في الدفاع عن نهضة المسلمين الفلسطينيين ودول خط المواجهة، من خلال اللقاءات المتعددة التي كان يجريها مع زعماء الفصائل الفلسطينية المناضلة، وقيامه بإرسال المبعوثين الي لبنان، وإصدار فتواه التاريخية المهمة التي اعتبرت تقديم الدعم العسكري والإقتصادي لثورة الشعب الفلسطيني والبلدان التي تتعرض للإعتداءات الصهيونية، واجباً شرعياً. وكان ذلك من جملة النشاطات التي تصدر لأول مرة من أحد مراجع الشيعة الكبار. تشكيل الحكومة الإسلامية ومكتسباتها لم يكن تحقق وعود الإمام الخميني (قده) وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، مجرّد حادثة داخلية قادت الي تغيير النظام السياسي، بل كانت الثورة الإسلامية زلزالاً مدمراً للعالم الغربي، كما وصفها كثير من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين في مذكراتهم التي نُشرت فيما بعد. وهكذا، ومنذ صبيحة الحادي عشر من شباط (فبراير) 1979 م، بدأ عداؤهم للنظام الإسلامي الفتيّ، بشكل سافر وواسع وشامل. كانت أميركا تقود جبهة الأعداء، التي ساهم فيها بشكل فاعل كلٌ من الحكومة الإنكليزية والعديد من الدول الأوروبية الأخري، جنباً الي جنب مع كافة الأنظمة العميلة للغرب. كما انضم الإتحاد السوفياتي السابق والبلدان الدائرة في فلكه - بسبب امتعاضهم من سيادة الدين في إيران - الي الأميركيين، وناصروهم في الكثير من مواقفهم العدائية ضد إيران. وكان الإمام الخميني (قده) يطمح، من خلال إعلان التعبئة العامة للشعب الإيراني لإعمار البلاد، الي تجسيد مثال المجتمع الديني السليم والمتطور. وبوحي من ذلك، أعلن عن تشكيل مؤسسة جهاد البناء التي هيّأت الأرضية لحضور الكوادر المتخصصة والطاقات الثورية في المناطق المحرومة والقري والأرياف، لتبدأ خلال فترة وجيزة عمليات شق الطرق، وإنشاء المراكز الصحية والعلاجية، وتأسيس شبكات المياه والكهرباء علي نطاق واسع. ولم يمضِ سوي شهرين علي انتصار الثورة، حتي أعلن الشعب الإيراني، في واحدة من أكثر الإنتخابات حريةً في تاريخ إيران، عن تأييده بنسبة 98.2 بالمئة لإقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. وتلت ذلك الإنتخابات السياسية لتدوين الدستور والمصادقة عليه، وإقامة انتخابات الدورة الأولي لمجلس الشوري الإسلامي. في هذا الظرف بالذات إشتد تصعيد أمواج الفتن ووتيرة الضغوط الخارجية. وكانت أميركا تسعي عن طريق طابورها الخامس، الي إنهاء النظام الإسلامي بمشكلاته الداخلية، والتمهيد لإسقاط النظام عبر إثارتها للفتن والإختلافات. رحيل الامام رغم أنّ الإمام الخميني (قده) كان قد شارف علي التسعين من عمره الشريف، إلاّ أنه لم يتوانَ لحظة عن السعي علي طريق رقيّ المجتمع الإسلامي، وكان يعتبر أحد أكثر الزعماء السياسيين نشاطاً في العالم. فإضافة الي اطّلاعه اليومي علي أهم أخبار وتقارير الصحافة الرسمية، وقراءة عشرات الملفات الخبرية الخاصة، والإستماع الي أخبار الراديو والتلفزيون الإيراني، كان يحرص علي الإستماع للإذاعات الأجنبية أيضاً. كان سماحة الإمام يؤمن بشدة بالبرمجة والنظام والإنضباط في الحياة، فقد كانت لديه ساعات معيّنة من الليل والنهار يتفرغ فيها للعبادة والتهجد وتلاوة القرآن. كما أنّ رياضة المشي، وفي ذاته ذكر الله والتأمل والتدبّر، كانت جزءاً من برنامجه اليومي. كذلك كان سماحته حريصاً علي اللقاء بطبقات الشعب، لا سيما الطبقات المحرومة والمستضعفة، فحتى الأسابيع الأخيرة من عمره المبارك كان لديه كل أسبوع لقاء مع عوائل الشهداء؛ ولم تؤثر نشاطاته اليومية المكثفة، ولا حضوره المستمر إجتماعات مسؤولي النظام الإسلامي، دون ذلك. والسلام عليك يوم ولدت ويوم رفعت روحك الى السماء ويوم تبعث حياً
https://telegram.me/buratha