بقلم عبد السلام صالح
قرار محكمة الثورة بإعدام الشهيد العميد الركن فالح أكرم فهمي
حين حاولت أن اكتب شيئا عما في القلب وان اسكب الذكريات حبرا أدركت حقا كم هو صعب الرجوع بالذاكرة لتلك الأيام وكم هو مؤلم استحضار ذكريات الراحلين الذين غابوا بأجسادهم وما غابت سيرتهم وذكرياتهم عمن رافقهم الطريق وشاطرهم الهدف وتجرع معهم كأس المنون . في مثل هذه الأيام من عام 1988م كُتبت بين سطور العمر قصة .وغُرست بين الحنايا غصة.
ففي نفس العام كان المقبور حسين كامل يشغل منصب مدير عام جهاز الأمن الخاص وقد أوعز لجلاوزته باعتقال العميد الركن فالح أكرم فهمي وهو نجل المرحوم أكرم فهمي القيمقجي مؤسس اللجنة الاولمبية العراقية .
لقد كان العميد الركن فالح أكرم فهمي شخصيه عسكريه ورياضيه مرموقة ويمتاز بدماثة الخلق والتفاني في العمل والإخلاص للوطن وامتازت علاقته بأقرانه بالشفافية والصدق دوما وكان جريئا في أطروحاته في زمن الخوف من النظام فقد عاش مهموما بالوطن عاشقا للحرية ومدافعا عن الإنسان أينما كان لذلك دفع حياته ثمنا لكلمة حق وضمير متيقظ .
فامتدت يد السلطة الدموية لتقتلع الشجرة المثمرة العميد الركن فالح أكرم فهمي من مقر عمله . وبعده بأيام معدودة تم اعتقالي لأرافقه في رحلة التعذيب كما رافقته في الحياة .
ولأتجرع كأس الألم كما تجرعت كأس الحرية ولأصرخ بالآهات كما صرخت بكلمة الحق .وبعد رحله تعذيب مميتة كنا نتبادل فيها الصرخات بين زنزانتي وزنزانته23 و24 ليبقى صدى صراخه ذكرى أليمه مازالت في قلبي دفينة.في تلك الأثناء فقدنا الزمن وتفاصيله ولم نكن نعرف اليوم والساعة والليل والنهار بفعل الضوء الساطع الذي علق أعلى الزنزانة اللعينة.وبعد أيام من التعذيب المميت فوجئت بجلاوزة النظام يقتادوني معصوب العينيين وبقوه إلى إحدى غرف التحقيق وهناك رفعوا الغطاء عن عيني لأرى نفسي مباشره أمام المقبور حسين كامل وبعض معاونيه ممن هم أسواء منه خلقا وقيما وكان قد سبقني إلى هناك العميد الركن فالح أكرم فهمي وكنا في حاله جسديه منهكة تماما بفعل الدماء الغزيرة التي كانت تصب من أجسادنا الخاوية وفي حالة نفسية مزرية .وبعد رحلة تعذيب وتحقيق ليست بالقصيرة من قبل حسين كامل وعصابته تم إعادتي إلى الزنزانة التي كانت تعتبر الجنة بالنسبة لغرفة التحقيق .
ومكثنا هناك لمدة أربعة أشهر تقريبا (وهذا ما تضح لي لاحقا )وخلال تلك الفترة لم التقي بالعميد الركن فالح أكرم فهمي إلا أثناء خروجنا للمرافق وكنا نتبادل النظرات المأساوية والحائرة لما سيحول إليه مصيرنا وخصوصا وان حسين كامل تعهد أمامنا بأنه سيقطع رؤوسنا بسبب تهجمنا على النظام البائد.واستمرت جلسات التحقيق والتعذيب بشكل يومي بغية إرهاقنا وتحطيمنا معنويا ونفسيا. وبعد ها أرسلنا سويا إلى سجن رقم واحد السيئ الصيت وهناك وضعنا بقواطع متقابلة كنا نتبادل الحديث خلسة وكانت الإجراءات مشدده جدا نحونا .
وكنا نعاني من آثار التعذيب البشع وكان إلى جانبي في غرفة منعزلة شخص يقوم الحرس بإخراجه لتنظيف باحة السجن يوميا وتبين لي بأنه وزير النفط الإيراني الذي اسر بمدينة المحمرة.واستمرت لقاءاتي أليوميه مع العميد الركن فالح أكرم فهمي للتحادث بمصيرنا ولاسيما بعد أن علمنا بان أوراقنا أرسلت إلى محكمة الثورة فتيقنت الموت المحقق لأن أحكامها لا تخرج عن نطاق الإعدام وتتفنن في أنواع الإعدامات فمنها شنقا ومنها رميا بالرصاص ولكن الموت واحد وان تعددت الأساليب.! ولكن العميد الركن فالح كان يتصور أن علاقاته الشخصية مع الفريق عدنان خير الله قد تشفع له بتخفيف الحكم الصادر علية .
ولسوء الحظ وأثناء وجودنا في سجن رقم واحد توقفت الحرب العراقية الايرانيه في 8/8/1988 واصدر الطاغية عفوا عاما ولكن العفو لم يشملنا ! وبعد أشهر قليله تم إخراجنا صباحا معصوبي الأعين والأيدي ولم تفتح عيوننا إلا وأنا والعميد الركن فالح أكرم فهمي في محكمة الثورة وفي سرداب قذر للانتظار يفتقد إلى ابسط مقومات انتظار الحيوانات وليس البشر! وبعد مثولنا أمام المقبور عواد البندر وزبانيته وكنا بنفس القفص اصدر حكمة بدقائق بالإعدام شنقا حتى الموت على العميد الركن فالح أكرم فهمي
وكان نصيبي الحكم بالسجن رغم عدم ثبوت الأدلة ضدي وإنكاري التهجم بكل ادوار التحقيق! ومباشرة بعد الرحلة المضنية في محكمة الثورة نقلنا إلى سجن ابو غريب وتفرقنا هناك ولم التقي بالعميد الركن فالح أكرم فهمي إلا صباح يوم اسود اقتادتني مجموعه من جلاوزة النظام باتجاه غرفة الإعدام وسط دهشتي وقلقي حيث لم أظن أن تفكيرهم القذر يصل إلى هذه الدرجة ليقتادونني لأشاهد بعيني إعدام رفيقي وصديقي! وكان حضوري لمشاهدة إعدام زميلي وصديقي (أبو إبراهيم) هو بتوصية من المقبور حسين كامل شخصيا ليحفر في قلبي جراح لا تندمل ما حييت ! لكنني لن اندم على كلمة حق قلتها ولو أصبحت ذكرى مؤلمة.
وهناك وجدت العميد الركن فالح أكرم فهمي وهو فوق منصة الإعدام شامخا شموخ الجبال بكبريائه ونفسه الأبيه دوما .وكم هو قاس شعوري بالعجز عن مساعدته وكم هو مؤلم أن يكون أمامي ولا استطيع التحدث معه وكم هو قاتل شعوري أن نكون في نفس المكان ولا استطيع معانقته وتوديعه أو ربما ليودعني هو فانا من اعدم وليس هو وأنا من خرجت روحي مع روحه .
وفي لحظات تدلى جسده الطاهر ليعانق مئات الآلاف من شهداء العراق على مذبح الحرية والمجد..ولقد مكثت جثة الشهيد العميد الركن فالح أكرم فهمي لأسابيع في ثلاجة بعدها تم تسليمه إلى ذويه !ومن ثم أطلق سراحي برحمة الله وخرجت وأمامي طريقين لا ثالث لهما إما الموت بالبقاء في العراق حيث كنت أثق أنهم سيعتقلونني ويعدمونني خلال أيام أو الموت بالهجرة بعيدا عن الوطن والأهل فاخترت الرحيل وجمعت أحزاني وتزودت بجراحي وارتديت أشواقي حيث لم يكن أمامي متسع من الوقت لأحمل أمتعتي وأودع عائلتي ورحلت في ارض الله الواسعة وتحت سماءه .
ومع مرور الأيام كنت أرسل أشواقي مع النسيم لبغداد وأهلها فما نسيتها لكنها نسيتني وما بعت العهد يا أرض الرافدين فأين وفائك لأبنائك ونحن من صرخنا بأعلى الصوت ندافع عن كرامتك وعن حريتك ودفعنا حريتنا وحياتنا وانتمائنا فداء لترابك .
فمنذ سقوط النظام وإلى الآن لم احصل أنا شخصيا على أي تعويض عما مررت به من عذابات أو رد اعتبار لما تكبدته من غربة وقهر ووحشه رغم تقديمي الطلبات الكثيرة! والمدعمة بالأوراق الثبوتيه الرسمية الصادرة من محكمة الثورة والجهات الرسمية بذاك الوقت!لكن أملي بالله تعالى ومن ثم بان تكون الحكومة القادمة منصفه وعادله بتعويض هكذا حالات وإعطاء الأهمية القصوى لرد الاعتبار لمن بقى على قيد الحياة من ضحايا المقصلة ألصداميه ولاسيما الكثير منهم لازالوا يعانون الأمرين من شغف العيش!
ونداء خاص إلى السيد جاسم محمد جعفر رئيس مؤسسة السجناء السياسيين بمعالجة هكذا قضايا بنظرته الأنسانية والحكيمة والتي يعرف بها .
وخالص دعائي لله ان يرحم اخي وصديقي العميد الركن فالح اكرم فهمي ويسكنه فسيح جناته فقد ترك بموته معنى ان نضحي لهدف. وأن ندفع حياتنا ثمنا لمبداء. وأدعو الله أن يرحم الشهداء من ضحايا النظام البائد فهم شموع تلاشت وذابت إلا أنها أضاءت لنا الطريق .
ونحن ضحايا الشتات وأبناء الغربة ننتظر رد اعتباراتنا و حقوقنا وتعويضاتنا التي مهما بلغت لن تعوضنا عن جرعة ألم تذوقناها ولحظة خوف ورعب عشناها .وقد قال اهل الحكمة من المتقدمين (لا يجمل المعروف إلا ثلاث .أن يكون من غير طلب.وأن يأتي من غير إبطاء. وأن يتم بغير منة ) ...
https://telegram.me/buratha