المقالات

إعادة كتابة التاريخ أهم ضمانة لبناء العراق الجديد (6)

1137 15:36:00 2009-12-07

عامر هادي العيساوي

في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات ظهرت في الساحة العراقية مستجدات كثيرة ساهمت في صنع الإحداث الكبيرة التي وقعت على رؤوس العراقيين ,ولعل أهم تلك المستجدات ان بريطانيا العظمى غسلت أيديها من قدرة العراقيين على الحفاظ على مكتسباتهم وحكم بلادهم بأنفسهم والتقدم الى الإمام باتجاه دولة المؤسسات والقانون والعدالة حتى ان (تشرشل)رئيس الوزراء البريطاني ذم العراقيين في نوبة غضب حيث قال (العراقيون أي بركان لنكران الجميل),ومن هنا بدا الانكليز ينفضون أرجلهم من المستنقع العراقي الذي توحلوا فيه ويبحثون عن غطاء للانسحاب منه وهذا ما حدث لاحقا0وبذلك أصبحت الملكية الدستورية على مرمى الأسلحة الخفيفة للغارقين حتى آذانهم بشهوة السلطان بغض النظر عن الوسائل, ليحكم العراق بعد ذلك لأكثر من نصف قرن حكما دكتاتوريا دمويا مرعبا كما سنرى0ومن المستجدات الأخرى ظهور جيل جديد من الساسة لا ينتمي إلى المدرسة الارستقراطية المتمثلة بكبار جنرالات الجيش العثماني من الناحية الطبقية ولكنه امتداد طبيعي لها من الناحية الفكرية والسياسية ,وإذا كان هناك اختلاف من هذه الناحية بين الجيلين فان الأخير أكثر قسوة وهمجية وتعطشا للدماء0لقد أصبح لهؤلاء بالإضافة للأحزاب السياسية العاملة في الأوساط الشعبية والتي تطلق أجمل الشعارات كالوحدة والحرية والاشتراكية تنظيم سري في القوات المسلحة أسسه العقيد رفعت الحاج سري يسمى (الضباط الأحرار) وقد كان الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف من أوائل الذين انضموا الى هذه المنظمة السرية0 ومن المستجدات أيضا القضية الفلسطينية كما أسلفنا والتي استخدمها دعاة القومية كسلاح ضد خصومهم وكوسيلة لتحريض الشارع العراقي الملتهبة مشاعره اصلا0 وبسبب هذه العوامل وعوامل أخرى أصبح الطريق إلى قصر الزهور يسيرا, وفي ليلة الرابع عشر من تموز عام 1958 استطاع الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف توجيه القطعات التي تحت إمرتهما إلى العاصمة بغداد واحتلالها والقبض على الملك فيصل الثاني الذي كان ما يزال صبيا حيث تم إعدامه وكذلك تم إعدام عبد الإله ونوري السعيد0وبعد انقلاب تموز مباشرة عين الزعيم عبد الكريم رئيسا للوزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة بناء على شعار أطلقه عبد السلام(ماكو زعيم إلا كريم) بينما عين شريكه عبد السلام نائبا له ووزيرا للداخلية0 وقد يعترض البعض على تسمية ما حدث في الرابع عشر من تموز انقلابا وللرد أقول : لقد كان في العراق دستور دائم وبرلمان منتخب وتداول مستمر لمنصب رئيس الوزراء ثم تحرك تحت جنح الظلام مجموعة من الضباط الطامحين واحتلوا على ظهور الدبابات العاصمة وعينوا رئيسا للوزراء غير مستعد للتخلي عن المنصب الجديد الاميتا أو مقتولا فهل يمكن أن يسمى مثل هذا العمل ثورة0 وإنصافا نقول:إن أعداء الزعيم يشهدون قبل أصدقائه بنزاهة الرجل وا استقامته لم يعاقر الخمور ولم يعاشر النساء ولم يسرق درهما وكان يعيش براتبه ويسكن بيتا صغيرا ويتخذ من وزارة الدفاع مقرا له 0 اما من الناحية السياسية فلم تكن للزعيم عقيدة سياسية واضحة وإنما مجموعة من المبادئ لعل أهمها اعتقاده ان على الحاكم ان يحترم إرادة الشعب ويتصرف وفق ما تقتضيه تلك الإرادة وفي نفس الوقت يكون حارسا أمينا للمسيرة المنطلقة الى الأمام ويتدخل في الوقت المناسب بما يحميها من الزلل والانحراف لا ان تكون إرادة الحاكم سيفا مسلطا على رقاب الناس وتفرض عليهم بالنار والحديد0 اما أهم التهم التي وجهت إليه من خصومه فهي انه يكره العرب لان في نسبه عرقا غير عربي على طريقة رمتني بدائها وانسلت0 وفي الحقيقة فان عبد الكريم لم يكن عربيا ولا كرديا ولا سنيا ولا شيعيا بل كان عراقيا فاجأ بمنهجه رفاقه الذين جاؤوا بأجندة مختلفة تماما.أما عبد السلام فإذا كان من سبقه من الطائفيين قد أخفى توجهاته لأسباب سياسية فقد أعلن الرجل برنامجه بعيد الانقلاب ولخصه كما يلي (القضاء على الشيعة والأكراد في العراق)0لقد فاجأ الزعيم رفاقه الانقلابيين كما قلنا بتوجهاته السياسية البعيدة كل البعد عن أهداف دعاة القومية المزيفين حيث لم يكن الرجل عروبيا ولا كرديا ولا سنيا ولا شيعيا بل كان (فوق الميول والاتجاهات )كما كان هو يقول عن نفسه0 لقد كان بحق عراقيا في همومه وتطلعاته ولم لا ؟ وهو المتأثر إلى ابعد الحدود بشخصية المرحوم نوري السعيد فقد كان يقول عنه (إن نوري السعيد رئيس وزراء كفوء ولا احد يستطيع أن يؤدي دوره)وقال أيضا (نوري السعيد ما جابته جيابه)0 وعلى هذا الأساس دب الخلاف بين الزعيم وعبد السلام منذ الأيام الاولى0 لقد شعر قاسم ان شريكه يتحداه ويتصرف وكأنه قائد الانقلاب فحين سافر بتاريخ 18 /تموز /958 الى دمشق والتقى هناك بالرئيس عبد الناصراعلن التوصل إلى اتفاق للدفاع المشترك دون استشارة الزعيم0 ومما زاد من الخلاف بين الرجلين اطلاع الزعيم على برقية مرسلة من قبل القائم بإعمال سفارة الجمهورية العربية المتحدة الى وزارة خارجيتها تؤكد ان عارف يعمل من اجل الوحدة وهو مستعد للتخلص من قاسم متى تطلب الأمر ذلك0وفي الثلاثين من أيلول عام 1958 جرد عارف من كافة مناصبه وعين سفيرا في بون وبعد ثلاث أسابيع عاد عارف سرا إلى بغداد وحين علم قاسم بذلك أرسل في طلبه والتقى معه في مكتبه في وزارة الدفاع وبعد مشادة كلامية بين الرجلين شوهد عارف يخرج مسدسا من جيبه فعالج الزعيم ومن كان معه الموقف ولكنه أصر على الإنكار وزعم انه أراد الانتحار0 ثم أحيل عارف إلى المحكمة العسكرية الخاصة وحكم عليه بالإعدام ولكن الحكم لم ينفذ وبقي رهن الاعتقال لأكثر من ثلاث سنوات ثم أطلق سراحه بعفو خاص بعد ذلك0وبعد الانقلاب مباشرة عاد إلى العراق رشيد عالي الكيلاني الذي كان منفيا في تركيا والذي كان يرى ان منصب الدكتاتور لا يستحقه سواه فهو بطل حركة مايس التي أحيطت بهالة من الإعجاب والتقدير من قبل طلاب الكراسي النافخين بأبواق العروبة0 وفورا شكل حلقة سرية تتكون من مبدر الكيلاني وعبد الرحمن الدوري وغيرهم واتصل أيضا بعدد من رؤساء العشائر جريا على ألاعيبه القديمة, ولكن الاستخبارات العسكرية اكتشفت المخطط وتمكنت عبر وكلائها من تسجيل أحاديث إفراد هذه الحلقة وتقديمها كأدلة دامغة إلى المحكمة العسكرية الخاصة التي احيل عليها الكيلاني ورفاقه فحكموا بالإعدام ولكن الحكم لم ينفذ أيضا 0وبعد أن فرغ قاسم من أمر الكيلاني وعارف اصدر قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 الذي حول انقلاب تموز إلى ثورة حقيقية قلبت حياة العراقيين رأسا على عقب حيث تم مصادرة أراضي الإقطاعيين وتم توزيعها على الفلاحين0 صحيح ان دوافع القانون سياسية وانه اضر بالعملية الزراعية في العراق وذلك لان نجاح تطبيق هكذا قانون مرتبط بالتطور الزراعي الكبير إلا أن القانون فتح الباب على مصراعيه لكي يدخل الزعيم الى قلوب عامة العراقيين0 وهنا أخطا قاسم خطا استراتيجيا قاتلا ,فبدل أن ينظم الجماهير الممتلئة قلوبها بحبه تحت ضغط حرصه على البقاء فوق الميول والاتجاهات ترك تلك الجماهير تتخبط بين الأحزاب المختلفة التي تتربص به 0 استغل الحزب الشيوعي هذه الحقيقة ونجح في جعل الزعيم جسرا إلى قلوب الجماهير من خلال العمل في أوساطها وإطلاق الشعارات التي توهمها بان الزعيم واحد منهم من قبيل(عاش زعيمي عبد الكريم ,الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم) او (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) او (ماكو زعيم إلا كريم ,كواويد بعثيه)وهكذا ظهر مد عظيم للحزب الشيوعي في الأوساط الشعبية الفقيرة 0 وحين تفاقم أمرهم وخاف من الانحراف وجه إليهم ضربة تحد من عنفوانهم استنادا إلى عقيدته في الحاكم الذي يتدخل في الوقت المناسب لتصحيح إرادة الشعب0 لقد كلفت هذه السياسة الزعيم(الدكتاتور الوطني العادل) حياته فيما بعد في زمن تكالبت عليه كافة القوى الداخلية والإقليمية والدولية0 لقد كان بإمكان ابن الشعب البار والزعيم الأوحد وهو بحق يستحق هذه الألقاب في مجتمع البحث عن الرموز أن يعيد العمل بالدستور ويجيز تشكيل الأحزاب ويحدد موعدا لإجراء انتخابات عامة في البلاد وبذلك يؤسس ديمقراطية للعراق يكون هو فيها المرشح الأول دائما للفوز بمنصب رئيس الوزراء حيث لم يحصل في تاريخ العراق ا ن أحب الشعب شخصا كما أحب عبد الكريم قاسم 0 ولم تتوقف محاولات دعاة القومية من اجل التخلص من الزعيم قاسم فقد أعلن العقيد عبد الوهاب الشواف التمرد في الموصل مستغلا قضية قطار السلام المتوجه من بغداد الى الموصل والذي نظم برنامجه الحزب الشيوعي بالتزامن مع تحرك ضباط آخرين في بغداد ولكن محاولته باءت بالفشل حيث هاجمته الجماهير الشعبية في الموصل وألقت القبض عليه ونفذت فيه حكم الاعدام0

وبينما كان (موكب ) الزعيم المتكون من سيارة واحدة كان هو فيها مع سائقه ومرافقه قادما من وزارة الدفاع عبر شارع الرشيد(كان ذلك يحصل يوميا) كمن له عدد من الشباب (القومي) بمن فيهم صدام حسين وأطلقوا النار عليه ولكنه سلم بأعجوبة وحين حان وقت القصاص قال الزعيم (عفا الله عما سلف)0 إن من أهم أسباب النهاية المفجعة التي انتهى إليها الزعيم هو ذلك التسامح المفرط الذي أبداه مع أعدائه الذين عندما ظفروا به لم يمهلوه دقيقة واحدة , وليس في هذا دعوى للقتل او الانتقام حيث كان بامكانه ان يبقيهم في السجن ريثما تستتب الامور0 ولو قدر للزعيم أن تستتب له الأمور لعقد من الزمن لكان من الممكن ان يكون مؤسسا للدولة العراقية الحديثة بهوية وطنية بعيدا عن الطائفية السياسية المقيتة او العرقية , ولكن دعاة القومية الزائفون لهم رأي آخر , ففي يوم الجمعة المصادف الثامن من شباط 1963 انقضوا على مقره في وزارة الدفاع فكان ما كان لتبدأ بعد ذلك حقبة اشد سوادا من سابقاتها وكان الله في عون العراقيين0

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
صباح قطان
2009-12-08
عزيزي مسؤول موقع براثا انني واحد من اشد المعجبين لموقعكم الالكتروني وقارىء مواضب على متابعة اخبار العراق من خلال هذا الموقع. انني معجب بهذا المقال وارجوا ان تزودني بالحلاقات رقم 1,2,3و 4 كذالك ايميل الكاتب السيد عامر هادي العيساوي. ولكم جزيل الشكر والموفقية صباح قطان
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك