عامر هادي العيساوي
راجع دعاة القومية الزائفون تجربة حكمت سليمان وبكر صدقي فوجدوا أن مشروعهم الطائفي المقيت يكاد يكون مستحيلا في ضل وجود الحامية البريطانية وعشائر الوسط والجنوب الموالية للملكية والمستعدة دائما للقتال إلى جانبها 0 لقد انظم اليهم عدد من المدنيين المثقفين الطامعين والحالمين أمثال كامل الجاد رجي ويونس السب عاوي وقرروا النزول إلى الشارع العراقي بشعارات براقة خلبت عقول الشباب وملأتهم حماسا 00كانت الحرب الكونية الثانية تبدو واضحة في الأفق ,وكانت القضية الفلسطينية ووعد بلفور يتفاعلان بقوة في جميع المدن العربية0 ولما كانت ألمانيا وهي القوة الصاعدة آنذاك حليفا للدولة العثمانية في الحرب الأولى فقد قرر بقايا الأتراك في العراق من دعاة القومية الزائفين التحالف مع ألمانيا النازية لكي تقف بوجه بريطانيا التي كانت ترعى العملية السياسية في العراق0ومن حسن حظ هؤلاء أن الضروف المحلية والدولية صارت تتحرك لصالحهم فقد برزت القضية الفلسطينية كما أسلفنا إلى سطح الإحداث وأصبحت هذه القضية محورا للإحداث الكبرى في المنطقة العربية ومحورا لنشاط جميع المشتغلين بالسياسة وميزانا لتقييم مواقف الإفراد والجماعات سلبا أو إيجابا,كان رشيد عالي الكيلاني رئيسا للوزراء في تلك الفترة وقد قام بتطوير العلاقات العراقية الألمانية الى حد التنسيق العسكري وعقد صفقات الأسلحة, وكان نشاط السفير الألماني في العراق واضحا للعيان, وكان الملك غازي من اشد المتحمسين لهذه السياسة مدفوعا بشعور قومي صادق ونزيه وخالي من أية مطامع شخصية متأثرا بشخصية جده المرحوم الشريف حسين الذي تزعم الثورة العربية الكبرى مع الفارق أن الفتى لا يمتلك آية خبرة سياسية0 ومن خلال إذاعته التي كانت تبث من قصر الزهور كان يلهب المشاعر القومية في صفوف الشباب عبر بثها الأناشيد الحماسية والمقالات التي تدعو الى قيام كيان عربي مستقل وموحد0 ولم يتردد الملك غازي عن كيل الشتائم للبريطانيين وإطلاق اخطر الدعاوي حين أعلن أن مشيخة الكويت ليست شرعية وإنها جزء لا يتجزأ من العراق0 وليت الأمر توقف عند هذا الحد فبعد عودة وزير الشبيبة الألماني الىبلاده قادما من إيران توقف في بغداد وبحضور الوزير الألماني المفوض(غروبا) اجتمع بالملك غازي ودعاه لإرسال وفد من شبيبة العراق الى برلين بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب النازي في أواخر أيلول عام 1938 وقد قبل الملك الدعوة وأرسل ثلاثين من الفتوة الى هناك وقابلهم هتلر شخصيا وتجولوا لمدة أسبوعين وقد تابعت الصحف العراقية إنباء الزيارة أولا بأول ونشرت الكثير من المقالات التي تمجد بهتلر وألمانيا والحزب النازي0 ومن العبارات التي وردت في تلك المقالات (أبناء هتلر يحيون أبناء غازي) و(الفوهرر يحيي شباب العراق) 0 ومما تقدم نرى ان الملك غازي ومن إمامه دعاة القومية قد قطعوا شوطا بعيدا في علاقاتهم مع ألمانيا وعلى مرأى ومسمع من الانكليز0 وإذا علمنا أن نذر الحرب بين دول المحور وبريطانيا وحلفائها تلوح في الأفق نستنتج فورا بان إحداثا كبيرة ستقع في العراق0 ومما زاد الأمور تعقيدا أن مفتي القدس الأكبر الشيخ أمين الحسيني لجا الى بغداد وهو يعرف اغلب الضباط الموجودين في العراق حيث كان قد تعرف عليهم أثناء خدمتهم في الجيش العثماني0 تزعم المفتي الأكبر الحركة القومية في العراق والبلدان العربيةالاخرى وراح يتحدث باسمها في جميع المحافل وفي مراسلاته المتكررة مع سفير ألمانيا(فون بابن) في أنقرة وكذلك مع هتلر, وكثيرا ما أرسل وزير العدل العراقي ناجي شوكت وسكرتيره الخاص عثمان كمال في مهمات سرية الى أنقرة والى برلين0ولا ادري بأية عقيدة سياسية أو منهج فكري استطاع أمين الحسيني وعروبيو العراق آنذاك أن يربطوا بين ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية وبين مصالح العراق والمنطقة العربية اللهم إلا إذا اخذوا مصالح تركيا مع هذا المحور بنظر الاعتبار0ويكفي في هذا المجال الاطلاع على شروط ايطاليا في محادثات السلام التي أجريت في برلين عام 1940 وطبقا لتلك الشروط فان ايطاليا تريد نيس وكورسيكا وتونس وجزءا من الجزائر أما ما تبقى من الجزائر مع مراكش الفرنسية فستكون من حصة اسبانيا ,وإضافة لذلك فان ايطاليا تطالب بارتباط بري واسع بين ليبيا وإثيوبيا مما يستدعي إعطاء جزء كبيرمن السودان الى ايطاليا0 هذه بعض مطالب إحدى حليفتي أمين الحسيني والكيلاني وإما الحليفة الثانية فهما يعلمان أين وضعت العرب في تصنيفها العنصري للبشرية0 نظر نوري السعيد من حوله فوجد أن جميع ما أنجزه العراقيون خلال عشرين عاما على طريق الاستقلال أصبح مهددا بالزوال خاصة وان خصومه أصبحوا يمتلكون ورقة قوية يستخدمونها ضده متى أرادوا في الشارع العراقي بشكل عام والشارع البغدادي بشكل خاص وهي القضية الفلسطينية0 ولكي يجرد هؤلاء المزايدين قرر نوري السعيد العمل من اجل أيجاد حل عادل لهذه القضية 0 وتحرك نوري ,وطار الى لندن وعاد ثم طار مرة أخرى وهكذا الى ان تم له ما أراد,فقد توصل الى اتفاق لحل القضية الفلسطينية مع بريطانيا وقد نشرت بنود الاتفاق فيما أصبح يسمى (الكتاب الأبيض)0 وفيما يلي أهم بنود ذلك الاتفاق:1-يتم خلال عشر سنوات أقامة دولة فلسطينية مستقلة يتقاسم فيها العرب واليهود السلطة بموجب ضمانات لمصالح كل طائفة, وخلال الفترة الانتقالية يعطى العرب واليهود على حد سواء نصيبا متزايدا من حكم فلسطين0 2-يتمتع المندوب السامي البريطاني في فلسطين بسلطة تنظيم او منع بيع الأراضي العربية لغير العرب الى الحد الضروري للحفاظ على الحقوق والوضع السكاني للعرب0 3-يحدد عدد المهاجرين اليهود في السنوات الخمس التالية ب(75,000 ) على ان تستمر بعد ذلك بموافقة السكان العرب فقط0 لقد رفض الحسيني ومن معه من العروبيين مضامين الكتاب الأبيض واعتبروه خيانة عظمى وملؤوا الدنيا صراخا وزعيقا وأصدروا البيانات التي تدين وتشجب وتستنكر ولم ينقطع هذا العويل والشجب عبر ستين عاما حتى تعودنا عليه واخبرا عاد هؤلاء المستنكرون يناضلون من اجل تطبيق خارطة الطريق التي لا ترقى مضامينها بأي شكل من الأشكال الى مضامين الكتاب الأبيض المرتبط باسم نوري السعيد0 فاتنا أن نذكر آن الملك غازي توفي في حادث سيارة غامض وأصبح عبد الإله وصيا على العرش لان فيصل الثاني الذي أصبح ملكا بعد أبيه لم يبلغ سن الرشد0 ثم توالت الإحداث بعد ذلك,فقد كان الحسيني ودعاة القومية يبيتون أمرا عظيما, ولكن بريطانيا كانت تراقبهم وتعرف نواياهم0 لقد قرروا تنظيم أنفسهم من اجل إعلان التمرد في العراق وسوريا وفلسطين في وقت واحد على الوجود البريطاني0 ولكن ألمانيا نصحتهم بان أوان الثورة لم يحن بعد وانه سيحين عندما تقترب لحظة الانتصار0 لقد كان الوصي عبد الإله على دراية تامة بما يدور حوله من خلال عيونه ورجاله ومن خلال ما يستقيه من الانكليز فقرر اخذ زمام المبادرة للتخلص من رشيد عالي الكيلاني الذي كان رئيسا للوزراء ومن ضباطه الأربعة الذين هيمنوا على القوات المسلحة0أوعز الوصي الى مجلس الأعيان والنواب الذين ما زالا محتفظين بولائهما للملكية بان يشنا حملة قوية على الكيلاني لإجباره على الاستقالة وكثيرا ما تحولت الجلسات الى تبادل للشتائم والسباب , وهنا قرر الكيلاني اللقاء بالوصي لغرض مطالبته بحل المجلس النيابي إلا إن الوصي تملص من اللقاء وسافر الى الديوانية وتحصن بعشائرها0 وحين وجد الكيلاني أن ملاحقة الوصي الى الديوانية قد يفسد خطتهم فقد اضطر الى تقديم استقالته,ولكن الوصي إصر على البقاء في الديوانية وربط عودته الى بغداد بتشتيت الضباط الأربعة وإبعادهم عن العاصمة ومن ثم إحالتهم على التقاعد0 وجد المفتي والكيلاني ويونس السبعاوي وباقي الجماعة أن مشروعهم الكبير أصبح في خطر فقرروا مخالفة أوامر سيدهم هتلر والمباشرة فورا بالتنفيذ فاحتلوا العاصمة بغداد وأعادوا الكيلاني الى رئاسة الوزراء وعينوا الشريف شرف وصيا بدل عبد الاله0 ولكن حركتهم جاءت في غير وقتها فقد تدخلت بريطانيا بشكل مباشر فسجن من سجن وفر من فر واعدم من اعدم, ومرة أخرى ينسدل الستار على فصل آخر من فصول الجريمة التي تنفذ دائما بالضد من مصالح العراقيين وخدمة لأجندات دولة إقليمية مجاورة0 بقي أن نقول أن حركة رشيد عالي الكيلاني ما زالت تعتبر من الحركات التحررية الكبرى وان العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ ورفاقه شهداء في سجل الخالدين وان خير الله طلفاح بطل قومي لأنه اشترك في حركة مايس كما تسمى وهذا أمر بحاجة الى إعادة نظر0 وقد يقول قائل باني متحمس للدفاع عن سياسة بريطانيا في العراق آنذاك والحقيقة فان بريطانيا دولة عظمى تتحرك وفقا لمصالحها 0 إني في الواقع أدافع عن جيل من السياسيين أسس له الملك فيصل الأول مسارا حكيما للنهوض بالعراق تدريجيا والتحرك في الساحة الدولية ليس عبر الأناشيد والشعارات الرنانة وإلقاء الخطب الحماسية وإنما وفقا لمصالح هذا البلد المبتلى ببعض أبنائه الذين لا يهمهم سوى التربع على الكراسي حتى وان كانت قائمة على جبال من جثث الموتى0 ولنتخيل جميعا حال العراق لو أن الملكية لم تسقط وان تموز لم يات0
https://telegram.me/buratha