عامر هادي العيساوي
بعد أن فرغ ياسين الهاشمي وشريكاه الكيلاني وبكر صدقي من إخماد تمرد عشائر الديوانية من شركاء الأمس الذين تعاهدوا معهم على القتال صفا واحدا توجه الهاشمي للسير على خطى سلفه المخلوع علي جودت بحصر السلطة واحتكارها لنفسه من خلال إلغاء الدستور وتحديد صلاحيات الملك0 ومنذ البداية دب الخلاف بينه وبين أصدقاء الأمس كحكمت سليمان وكامل الجادرجي الذي انظم إليهم حديثا وغيرهم من عشاق السلطة من الذين لا يهمهم تدمير تلك الدويلة الناشئة حديثا0 وبعد اجتماعات سرية متكررة لأقطاب الإخاء او جماعة الأهالي(وهذا هو اسمهم الجديد) قرروا أنهم ملوا إنصاف الحلول وإنهم عازمون هذه المرة على التخلص من الملكية وممن سار في ركابها من خلال الجيش بتنفيذ الانقلاب العسكري0 فاتح حكمت سليمان الفريق بكر صدقي الذي كان قائدا للفرقة الثانية بنية الانقلاب العسكري فابدي هذا حماسا كبيرا ثم فاتح الأخير الفريق عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الأولى فوافق أيضا ولم يبق والحالة هذه إلا التنفيذ في الوقت المناسب0 استغل جماعة الأهالي سفر طه الهاشمي رئيس أركان الجيش وهو شقيق ياسين الهاشمي الى تركيا وتعيين بكر صدقي نائبا عنه فقرروا المباشرة بتنفيذ خطتهم0 وفي يوم 28/10/1936 بدأت القطعات العسكرية بالتحرك إلى بعقوبة ومنها الى بغداد وفي نفس الوقت بعث بكر صدقي كتابا مع العقيد شاكر الراوي الى حكمت سليمان ومنه الى الملك غازي ينذره فيه بضرورة استقالة ياسين الهاشمي وإلا فان قواته قادمة الى بغداد لتنفيذ هذا الأمر بقوة السلاح0 وحين وصل الكتاب الى الملك غازي أصابه الذهول ولم يدر ما يفعل, أما الفريق جعفر العسكري فقد رأى في حركة بكر صدقي عملا جنونيا يهدد البلاد بفوضى عارمة وقد يدفعها الى حرب أهلية لا يعرف الا الله مداها,ولذلك وجد هذا الرجل الغيور المتمسك بوطنه نفسه متحمسا للسفر الى بعقوبة واللقاء ببكر صدقي لعله يستطيع إقناعه بالتخلي عما هو مقدم عليه0 ولم ينتظر طويلا فقد شد الرحال وتوجه الى بعقوبة,وحين علم بكر صدقي بتوجه العسكري إليه أقام له كمينا على مسافة خمسة كيلو مترات من مقره بقيادة المقدم إسماعيل عباوي وزوده بأمر تنفيذ حكم الإعدام به بعد استدراجه الى مكان مناسب 0 وهكذا حينما وصل العسكري الى النقطة المذكورة رافقه في السيارة التي أعدت لنقله المقدم المذكور وعدد من أزلامه وفي الطريق انحرفت السيارة الى جادة فرعية ثم انزلوه وأطلقوا النار عليه لتكتمل فصول الجريمه0 وبذلك خسر نوري السعيد احد أهم مساعديه في مقاومة المشروع الطائفي المقيت0 وهنا وجد ياسين الهاشمي نفسه مضطرا لتقديم استقالته0 وفي اليوم التالي المصادف 29/10/1936 دخل ثعلب الصحراء حسب تعبير إبراهيم الراوي في كتابه( من الثورة العربية الكبرى الى العراق الحديث ) بجيشه العاصمة بغداد يزهو بالنصر ويبحث عن نوري السعيد كي يلحقه بالشهيد جعفر العسكري0 وحين علمت السفارة البريطانية بنواياه أرسلت من يبلغ حكمت سليمان بأنه في حالة مقتل احد الزعماء السياسيين فان السفارة البريطانية ستغلق أبوابها وتأمر موظفيها بالالتحاق بقاعدة الحانية وبذلك أحبطت نواياه0وهكذا أصبح حكمت سليمان رئيسا للوزراء بينما أصبح بكر صدقي قائدا للقوات المسلحة والحاكم الفعلي , ولكن نشوة النصر عنده لم تدم طويلا اذ سرعان ما بدا يشعر بخيبة أمل كبيرة لان مشروعه في ان يصبح دكتاتورا أوحدا في بلاد ما بين النهرين يصطدم بعقبات كثيرة لا يكاد يجد سبيلا لتجاوزها ,فهناك القوات البريطانية المستعدة للتدخل في حال تجاوزه لأي خط احمر وهناك عشائر الفرات الأوسط وهي قوة لا يمكن الاستهانة بها وهو يعرف أكثر من غيره بأنها غير مستعدة للتعاون معه لان سجله معها ملطخ بالدماء, وهناك أعداؤه في داخل المؤسسة العسكرية من أنصار جعفر العسكري ونوري السعيد, وهناك الضباط من أبناء العشائر الذين فتك باهليهم0 لقد شعر صدقي انه محاط بالأعداء من كل جانب وان حياته أصبحت في خطر ولا يدري متى تدور عليه الدوائر0أحاط بكر صدقي نفسه بإعداد كبيرة من المستهترين والمتهتكين وأبناء الشوارع والساقطين واتخذهم حرسا خاصا له في حله وترحاله,كما انشأ جهازا قويا من المخابرات اختار عناصره من المنحرفين والساقطين ونشرهم في أوساط الجيش وفي الشوارع البغدادية لمراقبة جميع من يشك في ولائهم له حتى أصبح الناس يتندرون بقولهم(اذا رأيت ثلاثة فقل إن واحدا منهم من المخابرات)0 لقد جعل صدقي من هؤلاء أسيادا على العراقيين يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم ,يقتلون من يشاءون ويعتقلون من يشاءون ويعتدون على إعراض الناس ويرعبون النساء والأطفال ويعيثون في الأرض فسادا0 ورغم ذلك لم يشعر ثعلب الصحراء بالأمان فكان اذا أراد التحرك الى مكان ما أعلن انه سيذهب بالقطار ثم يذهب بالسيارة, وكان يستخدم أكثر من سيارة واحدة كي لا يعرف في إي منها هو . وحين ضاقت به السبل لجا كإسلافه الى الحيلة والمكر والمؤامرات فعين احد أعوانه وهو المدعو ماجد مصطفى متصرفا في لواء الديوانية وأمره أن يتصل بكبار شيوخ العشائر فاتصل الأخير بعبد الواحد آل سكر ومحسن أبو طبيخ واخبرهما بان حكومة بغداد مصممة على التخلص من الملك غازي الذي اغرق البلاد بالفتن والاضطرابات بينما اغرق نفسه بالملذات ومعاقرة الخمور ومعاشرة النساء وهي بحاجة الى إسناد الشيخين الجليلين في هذه المهمة (الوطنية العظيمة) وهنا أجابه الشيخان بان المغفور له الملك فيصل الأول حين مات رحمه الله ترك الملك غازي أمانة في أعناقنا ونحن لا نخون هذه الأمانة مهما كانت التضحيات .ولم يستسلم بكر صدقي وإنما تفتق ذهنه عن فكرة جديدة وهي إنشاء دولة كردية عظمى تضم اكراد العراق وإيران وتركيا ولكن سرعان ما خاب أمله فقد احتجت إيران وتركيا على تدخل العراق في شؤونه الداخلية .وحين انغلقت في وجهه ووجه صاحبه حكمت سليمان جميع الأبواب دب الخلاف بينهما كما دب الخلاف بين من سبقهما وأصبح كل واحد منهما يخشى الأخر خاصة وان الاثنين كان كل واحد منهما يريد ان يصبح هو الحاكم بأمره دون الآخر .لقد تأكد صدقي بان أكثر من جهة تخطط لاغتياله ولكنه كان واثقا من رجاله وقدرتهم على حمايته فهم كثيرون ومتمرسون 0 وبتاريخ 11/8/1937 وعندما كان متوجها الى تركيا بطائرة خاصة توقف في الموصل وحل ضيفا على مطعم الضباط,وهناك دخل المطعم شاب مسلح أطلق النار عليه وعلى محمد علي جواد قائد القوة الجوية وارداهما قتيلين0 وقد حاول أزلامه من بعده الانتقام من عشرات الضباط الا أنهم لم يفلحوا حيث تم اعتقالهم واجبر حكمت سليمان على الاستقالة , وبموت بكر صدقي ورحيل حكمت سليمان ينسدل الستار على فصل من فصول محنة العراقيين المغلوبين على أمرهم والعاجزين عن حكم بلادهم بأنفسهم والتاركين أمرهم الى المتاجرين بدينهم وعروبتهم وهم منهما براء لتنفتح عليهم أبواب جديدة من جهنم ليرزحوا في عذابها بقدرية قل نظيرها في التاريخ ,ان الات لأعظم وأدهى.
https://telegram.me/buratha