علي محمد البهادلي
بعد الاتصال الحضاري الذي حصل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بين العالمين العربي والإسلامي وبين الغرب، اتضح للعرب والمسلمين حجم الهوة التي تفصلهم عن ما وصل إليه الغرب؛ فانبهروا أيّما انبهاربالمكتشفات والفتوحات العلمية؛ مما دفعهم لإرسال البعثات العلمية إلى أوربا. فماذا حصل ؟ إن كثيراً من الطلاب الذين أُرسلوا إلى هناك حدثت لهم صدمة، جعلتهم ينهزمون ثقافياً ونفسياً جراء ما وجدوه هناك، فلم يميزوا بين التطور العلمي وبين المنجز الحضاري والقيمي لتلك البلاد، فقاموا بعد رجوعهم من أُوربا إلى الدعوة لنبذ كل ما هو قديم ومرتبط بالتراث؛ لأنهم اعتقدوا أن سبب تخلفنا هو بسبب تمسكنا بالموروث الثقافي الذي أنجزته الأُمة، وراحوا يبشرون بالقيم والثقافة الغربية دون تمييز بين غثها من سمينها. أصبحت هذه الدول تتلقف كل شيء قادم من الغرب على اعتبارأنه يحمل صفة التطور والتقدم، فكان من ضمن ما استوردته الدول العربية والإسلامية هو الدستور، فاعتمدت كثيرمن تلك الدول على لائحة حقوق الإنسان المشهورة التي أصدرتها الجمعية الوطنية التي تشكَّلت بعد انتصار الثورة الفرنسية، وكانت كثير من مواد تلك اللائحة تخدم الطبقة البرجوازية التي ساهمت في انتصار الثورة، ومن ضمن تلك المواد هو ما يُعرف بالحصانة بشقيها ( الحصانة السياسية والحصانة الجنائية) إذ يتمتع السياسي بنوع من الحصانة تمنع القضاء من محاسبته إلا في حالة تلبسه بالجرم، أو بعد أن يتم رفع هذه الحصانة من قبل البرلمان لكن رفعها مقيد وصعب التحقق.
`والعراق أحد البلدان التي تضمن دستورها كثيراً من مواد هذه القوانين الوضعية، بما فيها الحصانة، وهذه أحدى الكوارث التي جرت على البلاد الويلات والمآسي؛ فبعض من السياسيين (برلمانيين، وزراء) متهمون بقضايا فساد أو التعاون مع الجماعات الإرهابية، لكن القضاء العراقي شبه مشلول ويقف مكتوف الأيدي ازاء هذا الأمر؛ بسبب صعوبة مقاضاة هؤلاء السياسيين المتمتعين بصفة الحصانة التي يصعب على مجلس النواب رفعها؛ بسبب التخندق الطائفي والإثني والحزبي، وشيوع منطق(سدلي وسدلك) وإذا ما لاح في الأُفق أن مجلس النواب عازم على رفع الحصانة عن أحد السياسيين فقبل أن يرفع المجلس الحصانة عن هذا المسؤول أو ذاك، امتطى صهوته وهرب إلى خارج البلاد.
إن الخطأ الفادح الذي نقع فيه كثيراً هو عدم تمييزنا بين ما هو منجز تكنلوجي صناعي وبين ما هو منجز حضاري، فكثير مما صدَّره لنا الغرب هو غير جيد وغير صالح. فالسياسي حاله حال أي موظف في الدولة فإذا أخطأ أو أساء استخدام منصبه يجب عليه المثول أمام السلطة القضائية. فالسياسي والمسؤول الحكومي في الدولة والحكومة الإسلامية حاله حال أي موظف في الدولة، فإذا أخطأ أو أساء استخدام سلطته يجب عليه المثول أمام القضاء، وفي التأريخ الإسلامي هناك أكثر من قصة وحادثة تدل على أن مثل هكذا قوانين لا وجود له في قاموس التشريع الإسلامي كمثول أمير المؤمنين علي (ع) أمام القضاء؛ بسبب دعوة قضائية رفعها أحد رجال اليهود أمام القاضي ضده، فما كان من أمير المؤمنين إلا أن مثل أمام القاضي دون أن يقول إني رئيس دولة تمتد حدودها من شمال أفريقيا غرباً حتى حدود الصين شرقاً ولا يمكن أن أمثل أمام القاضي الذي هو أحد رعيتي، وهناك حادثة مماثلة جرت مع الرسول الأكرم نعرض عنها تجنباً للإطالة. كنا نتمنى لو أن لجنة التعديلات الدستوريةـ لاسيما أنها تقترب من إنهاء مهمتها، تضع الحصانة كإحدى القضايا التي سينالها التغيير، فيصبح رفعها يسيراً غير عسير إذا ما اقتضت الضرورة رفعها لغرض الاستجواب والمثول أمام القضاء، ولا ندعو إلى إلغائها الآن؛ لأن الوضع السياسي لا يحتمل ذلك، إذ قد تستخدم ورقة ضغط أو ابتزاز سياسي في إطار لعبة ليِّ الأذرع التي تمارسها القوى السياسية ضد خصومها السياسيين.
https://telegram.me/buratha