الدكتور قاسم خضير عباس الخبير القانوني والكاتب الإسلامي المستشار القانوني لوزارة الدولة لشؤون المحافظات
إن القاضي في القانون الوضعي يطبق القواعد القانونية على المتهم وهو ملزم بذلك حتى ولو تيقن أنَّ المتهم برئ ، ولذا فإنَّ السجون قد ملئت بالأبرياء والمظلومين ، الذين استطاع المجرمون أن يلصقوا التهم بهم .وقد ظهرت دراسات قانونية حديثة تدعو إلى التخفيف من هذا الأمر الذي يتنافى مع أبسط القيم والأخلاق ، وتطبيق روح القانون في القضايا المطروحة أمام القاضي ، ومع ذلك لم يتغير الوضع كثيراً ، وبقي المجرمون يقفزون على نصوص القانون ، ويبحثون عن الذرائع والتبريرات لجرائمهم ، فيما تفنن بعض المحامين في إتقان التلاعب على القانون الوضعي لتخليص موكليهم من العقوبة .خصوصاً وأنَّ بعض المحامين قد باعوا ضمائرهم للشيطان ، ولم يتورعوا عن فعل أي شيء من شأنه زيادة مدخولاتهم المادية ، حيث امتهنوا مهارة فائقة في البحث عن ثغرات القانون ، لتلبيس الباطل حقاً ، والدفاع عن الظلم والعدوان ، وتعقيد القضايا من أجل ابتزاز الناس . ولذا فقد تساءل البعض عن مصداقية وجواز مهنة المحاماة ، التي كان لسماحة الشهيد آية الله السيد الحكيم رأي فيها ، حيث أجاب على استفساري حولها برسالة وردتني من سماحتة بتاريخ 15 محرم 1424 هـ - وقد ضمنتها بكتابي ( الإمام علي رائد العدالة الاجتماعية والسياسية ) وكتابي ( الرؤية الإسلامية للقانون الدولي العام ) - فقال مشكوراً : ( إنَّ مهنة المحاماة : هي مهنة محللة ، ويمكن أن يقوم بها الإنسان ، المحاماة مهنة محللة إذا كانت دفاعاً عن المظلومين أو عملاً من أجل كشف الحقيقة أو إثباتها أو توثيقها. ولا يجوز فيها الكذب والخداع والغش إلاّ في الموارد التي استثناها الفقهاء وهي محدودة.1ـ فالمتهم قد يكون مظلوماً ولكن لا يعرف أن يتصرف في حديثه بحيث يجعل الأدلة والقرائن تتجه إلى تثبيت ظلامته فينقلب لعدم معرفته من منكر لا يحتاج إلاّ إلى النفي إلى مدعي يحتاج إلى الإثبات وهو لا يملك الإثبات، فيمكن للمحامي أن يوجهه بطريقة مناسبة.2ـ وكذلك يمكن للمحامي أن يجد له النصوص والمواد القانونية التي تدفع عنه الظلم ، أو كشف العناصر التي تخفف العقوبة والملاحقة.3ـ وهكذا الحال فيما إذا كان المدعي محقاً والطرف الآخر يتهرب من الحق وهو لا يعرف كيف يطالب بحقه ويستخدم القرائن والشواهد والوثائق لإثباته، فيكون دور للمحامي في إحقاق هذا الحق.4ـ كما أنَّ المحامي له دور في توثيق الحوادث كالوصايا والمعاملات مثل البيع والطلاق والزواج... والخلاصة إذا كان عمل المحامي دافعاً للظلم عن المظلوم وإحقاقاً للحق للمستحق له وتوثيقاً للحقيقة، فهو عمل صحيح، هذا فيما لو تبينت له الحقيقة. أما لو لم يعرفها بل كان يحتملها فيمكنه أن يتقمص شخصية موكله فيما إذا كان يدعي ذلك ويعمل على أساس افتراض الصحة في عمل موكله ويكون عمله صحيحاً أيضاً.5ـ نعم إذا كان المحامي يعرف الحقيقة على خلاف ادعاء موكله أو يقوم بتعليم موكله التهرب من الحق والحقيقة فهو عمل محرم ، ومأثوم عليه ، لما فيه من كذب وافتراء أو ظلم أو غير ذلك من الأمور المحرمة شرعاً وواقعاً وإن كان القانون لا يمكن أن يعرفها أو يتوصل إليها. وهذا ما نبّه إليه رسول الله (ص) في حديثه المعروف ( إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والإيمان..) . فإنّ موقف القاضي يشبه إلى حد ما موقف المحامي أيضاً ، حيث قد يخطأ الواقع، ولكن مع الالتزام بالضوابط، وعندئذ يكون معذوراً حتى لو خالف الواقع ، نعم لو خالفه عن علمٍ فهو مأثوم ومجرم عند الله تعالى . ولذا ذهب الفقهاء إلى جواز حكم الحاكم بعلمه ) .وأتصور أنَّ هذه الإشكاليات التي تتزايد يوماً بعد يوم ، والتي تحدث عن جزء منها سماحة الشهيد الحكيم،جعلت كثيراً من المحامين الشرفاء يفكرون جدياً في إنقاذ مهنة المحاماة كمدخل لإصلاح النظام القانوني . وقد وضعوا تصوراتهم حول إصلاح نظام المحاماة على غرار إصلاح القوانين واللوائح القانونية الأخرى . ولدي بعض الملاحظات حول ذلك تتعلق بضرورة اعتماد الشريعة الإسلامية للتغيير والإصلاح والترشيد، وتطبيق مناهج الإسلام ومبادئ القرآن في المجتمع ، لأنَّ ذلك هو الطريقة الأفضل لاستتباب الطمأنينة ، وإشاعة العدالة بين الناس ، بلحاظ أنَّ الشريعة جعلت الوكالة : ( إستنابة في التصرف ) . وهو عمل المحامي في الوقت الحاضر .ويقول المحقق الحلي في كتابه القيم ( شرائع الإسلام ) في الجزء الثاني صفحة 196 بأنَّ : الوكالة والنيابة ضابطها ما ( جعل ذريعة إلى غرض لا يختص بالمباشرة ، كالبيع ، وقبض الثمن ، والرهن ، والصلح ، والحوالة ، والضمان ، وفي الأخذ بالشفعة ، والإبراء ، والوديعة ، وقسم الصدقات ، وعقد النكاح ، وفرض الصداق ، والخلع والطلاق ، واستيفاء القصاص ، وقبض الديات ، ( إلى أن يقول ) وفي إثبات حدود الآدميين … وفي الدعوى ، وفي إثبات الحجج والحقوق ) . وهذه كلها تقتضي حسن النية من الوكيل لا التلاعب بالألفاظ والخداع من أجل كسب القضية للموكل ، وبالمقابل فالوكيل ضامن إذا تعدى على مال الموكل .ويقول الشيخ أبو الأعلى المودودي حول ذلك في كتابه ( الإسلام في مواجهة التحديات ) صفحة 255 بأنه : ( من الإصلاح الكافي في مجال المحاماة عندي أن تلغى ممارسة المحاماة كعمل حر ، بل ينال المحامون رواتبهم من الحكومة ، ومن نظرية القانون في الوقت الراهن ، أنَّ وظيفة المحامي ليست الدفاع عن موكله ، وإنما وظيفته أن يساعد المحكمة في تفهم القانون وتطبيقه ، ومن الشنائع التي ما نشأت إلا لكون المحاماة مهنة ، وأنّ المحامين يحاولون تضليل المحكمة ، ويزورون الشهادات ، حتى لا تأتي ملابسات الدعوى أمام المحكمة إلا بصورة مشوهة باطلة ، ولهذا الغرض يطولون الدعاوى ويبالغون في التقاضي ). ولذا يقترح المودودي أن يحل محل عمل المحاماة منصب الإفتاء . وأرى أنَّ المودودي يعمم أحكامه على المحامين جميعاً عكس رأي سماحة الشهيد الحكيم ، كما أنَّ وجود منصب الإفتاء لا يتعارض مع وجود المحامين الشرفاء ، بعد إصلاح النظام القانوني للمحاماة وفق الشريعة الإسلامية ، وتطبيق أحكام القرآن بصورة شاملة في المجتمع ، والذي سنعطي بعض المقترحات بشأن ذلك .أولاً : ضرورة أن يكون الإصلاح على ضوء مصالح الناس ، فتشرع بعض المواد القانونية التي تحد من استغلال المحامي للموكل . ثانياً : لقد تطرق بعض المحامين إلى تصور جديد بتأميم مهنة المحاماة ، وذهبت إلى هذا الرأي في أبحاثي ، كما ذهب إليه المحامي عامر الدبوني في كتابه ( المؤسسة العامة للمحاماة ) صفحة 19 ، حيث قال : إنَّ تأميم المحاماة يعني وضع نقابة المحامين بالنسبة للمحامين كمركز وزارة العدل بالنسبة للحكام ، وجعلها هي التي تستقبل المراجعين ، وهي التي تتقاضى منهم أجور أتعاب المحاماة ، وفقاً لأحكام القانون ، وهي توزيع الدعاوى على المحامين حسب الحروف الأبجدية ، وفق نظام خاص ، كما تفعل المحكمة بتقاضي أجور القضاء المسمى رسم الدعوى وتنسيب الحاكم المختص للنظر في الدعوى ، وهي التي تقوم بدفع الرواتب للمحامين عن أتعابهم في هذه الخدمة القضائية على غرار ما تفعله وزارة العدل بدفع الرواتب للحكام والقضاة جراء قيامهم بأعمالهم القضائية . وقد علق الدكتور مشهور حسن سلمان على هذا المقترح الجديد في كتابه ( المحاماة تاريخها في النظم وموقف الشريعة منها ) بقوله صفحة 240 : إنَّ تأميم هذه المهنة يؤدي إلى : إتاحة الفرصة أمام جميع الناس في توكيل من تختاره لهم المؤسسة ، فإنَّ اختيار مؤسسة المحاماة للمحامي ، وتعيينه وكيلاً في القضية تنيط أمر مصيرها إليه ، ومحاسبتها له على تصرفاته ، وبذلك ضمان أفضل لحقوق الموكل من العبث والأهواء ، وصيانة مهنة المحاماة من عوامل التردي ، لأنّ ما يتعرض له المحامون من الحرمان والاستغلال أدى إلى تردي واضح في عمل المحامين وانعكس ذلك على المهنة .وأرى أنَّ تأميم مهنة المحاماة شيء إيجابي أذهب إليه ، مع أني أخالف الدبوني والدكتور مشهور في مسألة اختيار المؤسسة المقترحة للمحامي الذي يترافع في القضية ، وأعتقد أنَّ الأفضل هو تقسيم المحامين وفقاً للمناطق الجغرافية والإعلان عن ذلك رسمياً ، بحيث يكون لكل مواطن محاميه الخاص ، الذي يقبض أتعابه من الدولة ( المؤسسة القانونية المقترحة ) ، على غرار النظام المتبع في الدول الإسكندنافية والمطبق على الخدمات الصحية .وقد أفادنا الشهيد سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم بملاحظات حول هذه المسألة بنفس الرسالة التي ذكرناها سابقاً فقال : ( أما اقتراح أن تقوم الدولة أو نقابة المحامين بالمهمة فيكون تأميماً للمحاماة بطريقة أو أخرى ، فهو أمر يحتاج إلى دراسة ميدانية وليس من الواضح لديّ صحّة ذلك لأنّ المحامي قد لا يكون حريصاً ـ عند ذلك ـ في كسب الدعوى ويتهاون فيها ، وقد يستخدم نفوذه في الدولة أو النقابة للمزيد من الكسب والتحايل ) .وأضاف سماحة السيد الحكيم : ( نعم هناك شيء آخر مهم وهو أنّ المحامي ـ عادة ـ تكون له حماية وصيانة ويمكن مساءلته وملاحقته، إذا تبين أنه حرّض موكله على الغش والتهرب من قول الحقيقة أو استخدم الحيل في توجيه الكلام والوثائق والقرائن، وبذلك يمكن إصلاح المحاماة وتطويرها ) .واستدرك سماحته قائلاً : ( كما أنَّ من الضروري التوعية الأخلاقية والشرعية للمحامي بحيث تكون لديه التقوى القضائية ، وهذا هو الضمان الحقيقي للمحاماة عن الانحراف ) .ولذا فإنَّ سماحة السيد الحكيم ليس من الواضح لديه صحة تأميم مهنة المحاماة ، لأنها تقتضي دراسات وبحوثاً ميدانيه ، وكلامه علمي وصحيح ، لكنه لم يعارض الفكرة بصورة مطلقة على ما يبدو . وأرى أنَّ كلام الشهيد السيد الحكيم فيه من الموضوعية والعلمية ، لكني أتصور أنَّ المقترحات التي أفادنا بها سماحة السيد بشأن تحايل المحامي يمكن أن تحدث سواء كان التأميم حاصلاً أم لا . كما أنَّ المحامي لديه وسائله إذا أراد الغش والخداع والكذب ، حيث يبحث عن ثغرات القانون في الحالتين .وهكذا ومن خلال توجيهات الشهيد الحكيم فإنَّ المجتمع الإسلامي بحاجة إلى نهضة قانونية علمية تتأسس على مبادئ الإسلام العادلة ،كي تتخلص محاكمنا وخصوصاً في العراق من هذا الروتين الذي أطال مدد القضايا ، عندئذٍ يتم ترشيد القوانين وإصلاح النظم القانونية وفق أسس تتلاءم مع ظروفنا ومشاكلنا وإشكالياتنا ، وتتحقق كتابة القواعد القانونية المنسجمة مع المجتمع الإسلامي وأخلاقه وقيمه ، وتحديد مسؤولية المحامين الذين يتلاعبون بالحقيقة .والغريب أنَّ النظم القانونية المطبقة في بلادنا أكثرها امتداد لنظم قانونية غربية ، كالقانون الإنجليزي والقانون الفرنسي ، وهذا يعد خطأ كبيراً لا بد من تغييره ، وهذه الحقيقة قد تنبه لها فقهاء القانون الوضعي كالدكتور عبد الرزاق السنهوري ، الذي دعا للقواعد القانونية الإسلامية ، لأنَّ لها الأولوية لواقعيتها وموضوعيتها ، إضافة إلى سمة الإنسانية والأخلاق التي تتسم بها ، وقد تناول السنهوري في كتابه (مصادر الحق في الفقه الإسلامي ) عبقرية هذه المبادئ السامية ، التي تخطت عصرها ، ومدى نضجها وأهليتها للمجتمع المتحضر . وقد نشر السنهوري مقالاً في الأهرام يوم 1/1/1937 قال فيه : ( وإني زعيم لكم بأن تجدوا في ذخائر الشريعة الإسلامية من المبادئ والنظريات مالا يقل في رقي الصياغة وفي إحكام الصنعة ، عن أحدث المبادئ والنظريات وأكثرها تقدماً في الفقه الغربي ) . بلحاظ أنَّ القانون الوضعي – الوطني والدولي – يسير في أثر الشريعة ويترسم خطاها بالرغم مما وصل إليه من تقدم ، (وإنه لم يصل بعد إلى ما وصلت إليه الشريعة ، وإنَّ النتائج التي وصل إليها القانون والاتجاهات التي يتجه نحوها تدلل على أنَّ تطوره في المستقبل القريب أو البعيد لن يخرج عن النطاق الذي رسمته الشريعة ) .اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha