( بقلم : مهند السماوي )
في العادة عندما تعقد الاتفاقات الامنية بين الدول،غالبا ما يصاحبها السرية المطلقة،ففي حالة الدول الديمقراطية،تتم مناقشة الاتفاقيات الامنية تحت قبة البرلمان ثم بعد ذلك يجري التصويت حولها وتبقى على الاكثر سرية ضمن حدود الاجهزة التنفيذية والتشريعية،ولا يكشف عن تفاصيلها الا بعد مرور فترات زمنية طويلة.اما في حالة الدول الغير ديمقراطية،فأن الاتفاقيات الامنية وغير الامنية تعقد بدون استشارة البرلمان هذا اذا كان هنالك اصلا برلمان! وحتى لو كان صوريا فأنه لا تعرض عليه،وانما تبقى في حدود ضيقة من المعرفة تقتصر على الرئيس او الملك ونوابه والمحيطين به.
في حالة الاتفاقية الامنية المزمع عقدها بين العراق وامريكا،فأنه رغم الوضع الامني والاقتصادي الصعب الذي يمر به العراق،كذلك رغم الحرب الاعلامية التي تشنها دول ومؤسسات لتشويه صورة الوضع الجديد في العراق ولاغراض مختلفة،نلاحظ ان العراق ومن هذا الوضع الغير مستقر يناقش الاتفاقية وبمختلف تفصيلاتها ومن خلال الاجهزة الحكومية الرسمية من تنفيذية وتشريعية،بل وتفوق على الكثير من الدول الاخرى بحيث اصبحت مختلف وسائل الاعلام تناقشها بالاضافة الى المؤسسة الدينية ومختلف طبقات المجتمع المدني من احزاب ومنظمات شعبية،تلك حالة فريدة من نوعها،فبغض النظر عن مدى صواب الاراء المؤيدة او المعارضة للاتفاقية الامنية،نرى ان مجرد الرؤية وبموضوعية للحالة في العراق فأنها تثير الاعجاب،فلاول مرة في تاريخ العراق والعالم الاسلامي ايضا،تتم تلك المناقشات في جو من الحرية والديمقراطية رغم ظروف الارهاب القسرية والتي تدعمه دول كثير بغية اجهاض العملية السياسية في العراق كونها تؤثر على استقرارها في الحكم وتدعم التوجهات الشعبية الداعية الى التغيير في الحكم واساليبه القمعية.
تلك المناقشات الجارية والتعديلات المستمرة هي كلها تصب في مصلحة العراق وعلى المدى الطويل،وايضا تجعل هوامش الفائدة المرجوة منها تكون في صالح العراق،كما تقيد صلاحية القوات الامريكية الى ابعد حدود،وتلك كلها ثمار ناتجة من الممارسة الديمقراطية العلنية،فليحكم الجميع بموضوعية على مقدار ماوصلت اليه التجربة الديمقراطية في العراق رغم الاخطاء الموجودة فيها والظروف الصعبة التي تواجهها،ولنقارنها بالدول العربية الاخرى والتي تدعي النظم السياسية الحاكمة فيها بالاضافة الى وسائل اعلامها المختلفة،الوطنية والاستقلالية والنزاهة المزعومة!.
الاتفاقيات الامنية في الدول العربية:
لم نرى في تاريخنا العربي القديم او الحديث ان تمت مناقشة اتفاقيات امنية وعسكرية قبل التصديق عليها على مستوى السلطات الثلاث،التنفيذية والتشريعية والقضائية،ناهيك عن الرأي العام المحلي والدولي كما يجري حاليا في مناقشة الاتفاقية الامنية بين العراق وامريكا.
تعقد الاتفاقيات الامنية والعسكرية وتحاط بستار حديدي من السرية ولاتعلم بها الشعوب الا اذا كانت محظوظة فتسمع عنها في مختلف وسائل الاعلام العالمية بعد عقدها،وليس الوضع في حالة الدول العربية،بل في غالبية دول العالم الثالث،وما زيارة الوفود العراقية الى الدول التي عقدت اتفاقيات مشابهة مع امريكا وطلبها رؤية بنود الاتفاقيات للاستفادة منها الا دليلا على كون الدول التي سمحت للعراق للاطلاع على تفاصيل الاتفاقيات هي دول ديمقراطية تحكمها نظم سياسية مستقرة منذ زمن طويل مثل اليابان والمانيا وغيرها،وما امتناع الدول العربية عن تلبية الطلب العراقي الا تأكيدا ان تلك الاتفاقيات هي ليست في صالح الشعوب العربية بل هي تقلل من حدود السيادة وتمس استقلال تلك الدول كما تجعلها تابعة وبدون ادنى معارضة للدول الكبرى،فأين الدعاوى العربية الفارغة والتباكي على احتلال العراق! وهم محتلون بصورة اقسى واشد ولكن تحت نطاق من السرية المفضوحة.
ولنأخذ ابرز مثال على ذلك،مصر وهي اكبر دولة عربية،وقد عقدت اتفاقية ومعاهدة سلام مع اسرائيل منذ عام1979 والتي سبقها عام ونصف من المباحثات السرية بين الجانبين وتحت اشراف امريكي،فهل البطل الوطني المزعوم السادات! اخذ موافقة البرلمان حتى لو كان صوريا؟وهل اطلع الشعب المصري على تفاصيلها؟ وهل تم اجراء استفتاء عليها بأعتبار هي قضية تمس كرامة البلد واستقلاليته؟بل هل اخذ موافقة جميع مستشاريه؟وهل بعد مرور تلك الفترة الطويلة من عقدها،سمح النظام المصري للشعب بالاطلاع على بنودها؟الجواب بكل تأكيد على تلك الاسئلة وعلى غيرها هو:كلا!.
فعلام تبجح النظام المصري ووسائل اعلامه الرخيصة الكاذبة،بالوطنية والاستقلالية واتهام المشتركين في العملية السياسية العراقية بالخيانة وعدم النزاهة؟اذا كان بيته من زجاج فعلام يرمي الاخرين بحجر؟الجواب هو الوقاحة العلنية وبدون خجل! والمستندة على استبداد لا حدود له.
الجميع يعرف ان الاتفاقية مع اسرائيل هي مقيدة لحركة مصر السيادية على اراضيها ومواقفها،والحصار المصري على غزة الان هو ابسط دليل على ذلك!.
يستند النظام المصري في استمراره بالحكم على الدعم الغربي له كونه هو الوحيد القادر على ضمان مصالحه من خلال الاتفاقيات المعقودة سواء مع اسرائيل او مع الغرب من خلال منح القواعد العسكرية والتسهيلات اللوجستية المختلفة.
الدولة العربية الثانية في النفوذ السياسي هي السعودية،فهذه الدولة لا تختلف عن مواقف النظام المصري ووسائل اعلامه تزايد على العراقيين في وطنيتهم،وهم اي السعوديون قد عقدوا اتفاقيات امنية وعسكرية مع امريكا وبريطانيا منذ مطلع الاربعينيات،وتتواجد القوات الغربية على الدوام وممنوحة لها تسهيلات وصلاحيات واسعة ولكن في سرية تامة لا يعلم ببنود تلك الاتفاقيات الوزراء فكيف عامة الشعب!وكلها تحت شعار ان ولي الامر له الحق في ذلك!ياللسخرية المرة من تلك الانظمة التي تدعي الاستقلالية وعدم الانحياز والوطنية والنزاهة!.
ولحد الان مازالت هناك اتفاقيات سارية المفعول ولكن مجهولة لجميع افراد الشعب ما عدا زمرة صغيرة من الطبقة الحاكمة!بين السعودية والدول الغربية.
الامثلة كثيرة! ولنأخذ بلاد صغيرة،يتبجح اعلامها بوقاحة عن اتهام المسؤولين العراقيين بالخيانة وبيع وطنهم!...مثل قطر تلك الدولة الصغيرة التي منحت القوات الامريكية قواعد عسكرية انطلقت منها للهجوم على بلدان مجاورة،بينما يرفض العراقيين وبشدة انطلاق الهجمات على الدول المجاورة من خلال الاراضي العراقية!.
وقطر لاتحتاج الى قواعد عسكرية اجنبية كونها محاطة بدول عربية ليست معادية وفي نفس تركيبتها الحاكمة وطريقة الحكم ايضا مشابهة لها.
وتزداد الغرابة في وقاحة وسائل اعلامها وخاصة قناة الجزيرة وشيخهم المفضل القرضاوي،والذين ملئوا الدنيا ضجيجا عن احتلال العراق والدعوات المستمرة لتحريره المزعوم من خلال مساندة العصابات التكفيرية والبعثية الارهابية.
ولنسأل هل اطلع الشعب القطري عليها؟وهل تمت مناقشتها في العلن كما يجري في العراق الان؟وهل تم الحصول على موافقة غالبية الشعب عليها؟...الجواب:كلا والف كلا!فعلام هذا التبجح بالاستقلال المزعوم واتهام الاخرين بالخيانة!.
دولة اخرى مشابهة للحالة القطرية،وهي البحرين والتي تتواجد فيها قواعد عسكرية امريكية وقبلها بريطانية،رغم ان مساحتها صغيرة جدا لا تسمح ببناء قواعد عسكرية،وكذلك رفض غالبية الشعب البحريني لتلك الاتفاقيات والتسهيلات،دون نسيان ان تلك الاتفاقيات مر عليها زمن طويل جدا،وقد استخدمت كنقطة للانطلاق للهجوم على العراق وافغانستان ومحتمل ايران في المستقبل!.
مثال اخر،هو الاردن فتلك الدولة منذ استقلالها في الاربعينيات،هي محكومة بأتفاقيات عسكرية وامنية ايضا مجهولة للشعب وتمنح الاجانب صلاحيات واسعة مقابل المال والدعم المتواصل،وكذلك استخدمت للهجوم على دول مجاورة،ومازال اعلامها يهاجم الاتفاقية الامنية العراقية المزمع عقدها مع امريكا،دون نسيان تأييده الدائم لنظام البعث البائد الذي كان يعقد مختلف الاتفاقيات دون استشارة احد او اخذ موافقة الشعب! ومازال بقاياه يدعون الوطنية والنزاهة في رفضهم الاتفاقية!..وقاحة لاحدود لها.
البلدان الثورية ايضا لم تخرج من دائرة منح القواعد العسكرية وعقد مختلف الاتفاقيات بما فيها الامنية بمعزل عن الشعب رغم ان ذلك يتعارض مع الدعاوى الثورية الفارغة،ومثال على ذلك ليبيا،فالقذافي الذي يدعي الوطنية والاستقلالية والنزاهة،دعا مؤخرا روسيا الى بناء قواعد عسكرية في بلاده!وهو الذي ابتدأ بالدعوة لذلك!..دون نسيان ان كل الاتفاقيات المعقودة مع الدول الاخرى هي مجهولة لجميع افراد الشعب...وهذا النظام منذ عام 1969 وهو تاريخ قفزه على السلطة بصورة غير شرعية،مازال يواصل الكذب والاجرام بافظع صوره،فأين الوطنية والاستقلالية المزعومة؟.امثلة كثيرة لا حصر لها...وشعوب كثيرة يجري العمل بأسمها ومن وراء ظهرها تعقد مختلف الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية،وبصورة سرية وبأنتهاك واضح لا لبس فيه لكل مقومات السيادة الوطنية...
مقارنة بسيطة وبموضوعية نعرف من خلالها واقع الدول والشعوب،ونعرف من الواعي من المغفل،والوطني من العميل،والنزيه من اللص...واخيرا نقول ياللروعة مناقشة اتفاقية امنية في الهواء الطلق...
https://telegram.me/buratha