حليمة الساعدي ||
بعد ان انجلت الغبرة، وانطفأت النيران ولم تبقي اثراً للخيام، وانخرس صهيل الخيل المجنونة، وسكت العالم بأسره في لحظة صدمة من منظر يشيب له رأس الطفل الوليد،
ارتفعت رؤوس الاقمار الهاشمية على اسنة الرماح الاموية، وجمدت العيون، ووجلت القلوب، وانخرست الالسن من هول المطَّّلَع.
اشرأبت هنالك سلطانة الزمان واسطورة الصبر ولبوة علي وملكة الخدور وربة الصون والعفاف وكعبة الصبر وفخر الهواشم عقيلة الطالبيين زينب عليها السلام،
منتفظة تجمع شتات نفسها، وتلملم شمل من بقي من عيالات الحسين وآل علي، والنساء الثكلا و المرملات الهلِعات الخائفات الصارخات الفاقدات.
واطفال تناثروا في صحراء الطف كاللؤلؤ المنثور، تسحقهم سنابك الخيل وتطالهم سياط العدى و تسلب حُلّيّهم وثيابهم.
وزينب تحامي عنهم وتدافع وتصد بيديها الضرباتعن هذا وعن ذاك، فكم طالها من سياط العدى لسعات كأنها لسعات الافاعي والحيّات، ولم تبالي، فالآن بدأ دوروها الذي اوكله الباري لها و بدأت رحلة الجهاد الزينبي فتقمصت ارواح البدور السواطع فتارة تجدها حسيناً بعصمته وحكمته وفصاحته وشجاعته وتارة تجدها عباساً بغيرته وكفالته وصبره ومروئته.
وكانت كأبيها علي بن ابي طالب بهيبته وعزته وقدسيته. فلم تسمح لصعاليك يزيد ومرتزقته ان ينالوا من السجاد علي بن الحسين وهو بقية الله في ارضه والامام المعصوم بعد الحسين عليه السلام، فرمت بنفسها عليه وقالت اقتلوني دونه وكان عليلاً ضعيفاً، فتركوه بعد ان احكموا القيود وسحبوهم بسلاسل من حديد مصفدين عطاشى متعبين جياع رجالهم مقتولة و موذرة اجسادهم مرمية على الرمال و الرؤس تتقدمهم مرفوعة على الرماح وهم يساقون لقصر بن زياد في الكوفة والناس متجمهرة حولهم بين صارخ وباك وعاض على اصبعه ندماً وهناك خطبت بهم زينب. قال بشير بن خزيم الأسدي
ونظرت إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.
فارتدّت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثمّ قالت :
« الحمد لله والصلاة على أبي : محمّد وآله الطيّبين الأخيار.
أمّا بعد :
يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر !!
أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة.
إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم.
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ؟ والصدر الشنف ؟ وملق الإماء ؟ وغمز الأعداء ؟
أو كمرعى على دمنة ؟ أو كفضة على ملحودة ؟
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون ؟ وتنتحبون ؟
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً.
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ؟ الى اخر خطبتها، التي لو تدبرتم معانيها لوجدتموها كالصواعق تنزل على رؤوس الكوفيين المتخاذلين تذكرنا بخطبة امها الزهراء عليها السلام يوم مُنِعت حقها في نِحلَةِ ابيها الرسول الكريم (فدك).
ان زينب التي لم يُرى خيالها وكانت عندما تشتاق الى زيارة قبر امها الزهراء تحاط بالرجال المعصومين فيتقدمها ابيها امير المؤمنين وعن اليمين اخيها الحسن وعن الشمال اخيها الحسين واما العباس فيتخلف ورائها يمسك بيده سعفة يمسح بها اثر اقدامها عليها السلام.
لكنها اليوم في عرصة كربلاء تبرز بين الرجال الاجانب وفي الكوفة تخطب فيهم تقرّعهم وتنكل بهم وتقول،
أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فَرَيتُم ؟!
وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟!
وأيّ دم له سفكتم ؟!
وأيّ حرمةٍ له هتكتم ؟!
لقد ذكرت اكثر الاحادث ان بكاء الائمة المعصومين جميعهم عندما يتذكرون مصابهم ورزيتهم في طف كربلاء لم يكن حزنا على الحسين فقد مردوا على الشهادة وهم من قالوا الموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة إنما بكائهم لبروز عمتهم زينب وسبيها ووقوفها بين الرجال الاجانب، انها الغيرة العلوية الهاشمية انها المدرسة المحمدية الفاطمية نتعلم منها كيف يجب ان تصان الحرائر وكيف تموت الرجال من اجل الحفاظ على خدور النساء كي تبقى مصانة،
وبعد خطبة زينب في قصر عبيد الله بن زياد ندم الكوفيون حتى انهم عضوا على اصابعهم ثم قالت لهم زينب، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون.
ثم استقدمهم يزيد اللعين بن اللعين الى الشام وامر ان يساقوا عبر طريق وَعِرّ وطويل يساقون كما يساق سبايا الترك والروم ، تنكيلا بهم ولم يراعوا ضعفهم وان معهم اطفال ونساء والسجاد يعاني من مرض المَّ به. واركبوهم النوق الهزل بلا وطأة ولا هودج امعاناً في كرههم وحقدهم لعلي بن ابي طالب عليه السلام.
كانت زينب مدرسة لكل الامصار والقرى والضيع التي مرَّ بها ضعنهم وقد تجرعت غصص الاحقاد الاموية. كانوا يحرضون جهّالهم ونسائهم للنيل من ركب السبايا بالاسائة والشتم وقد نالهم ما نالهم من الضعف والمرض والتعب وعند وصولهم للشام استقبلهم اهلها بالحجارة والشتائهم وقد جهزوا المعازف والطبول فرحا بأنتصار
يزيد اللعين على الخوارج. ومرت قافلة السبايا من سوق الشام الكبير وعيون الرجال تتفحص النساء وبنات رسول الله يخفين وجوههن بأكمام ثيابهن حياءً وطلباً للستر والحجاب والسجاد يتحرق غضباً وغيرة لكنه مصفد وقد سال الدم من رقبته ومعصميه وقد رأه سهل الساعدي وكان صحابي رسول الله صل الله عليه وآله، فقال له جُعلت فداك يبن رسول الله كيف اساعدكم فقال له ياسهل ان كنت ترغب بمساعدتنا اعطِ بعض المال لحامل رأس الحسين كي يرفع الرأس حتى ينشغل الناس بالنظر للراس عن النظر الى النساء .
ففعل ذلك ودعا له الإمام السجاد عليه السلام وقال حشرك الله معنا يوم القيامة.
وبعد ان أُدخِلو السبايا على مجلس اللعين يزيد اراد ان ينكل بهم ويحرق قلوبهم لكنه تفاجأ برد عنيف وخطبة هزت اركان عرشه وزلزلت اساطين قصره وقلبت عليه الأمة عندما خطبت به زينب خطبتها المشهورة فبدلاً من ان يحرق قلبها هي احرقت قلبه بكلامها ولسانها لسان الصدق الواثق بالله والمسلم لقضائه وقدره.. حينما قال لها اللعين ما رأيت صنع الله بأخيك الحسين. قالت، والله ما رأيت الا جميلا..
اي جبل اشم انت يا زينب، ان الأمة الاسلامية مدينة لزينب عليها السلام و لأخيها الحسين في المحافظة على سلامة الدين وبقاء الرسالة المحمدية. وكان لدفاع زينب عليه السلام عن ابن اخيها علي بن الحسين السجاد عليه السلام اثرا واضحا في الحفاظ على سلالة الائمة المعصومين من العترة الطاهرة وكانت له نعم المعين في الحفاظ على النساء والاطفال فقد تحملت وتكفلت بمسؤولية رعاية وحماية من بقي من بيت العترة الطاهرة ولولاها لما بقي شيء اسمه اسلام، ولذهب دين محمد ادراج الرياح، ان ثورة الحسين ما كانت لتبقى بهذا الاثر ولما بقي لها من خبر لولا زينب الحوراء، التي سلكت جهاد التبيين واظهار الحقائق وتوضيح اللبس من الامور التي قد تنطلي على بعض البسطاء من المسلمين.
لم يشهد التاريخ امرأة بصلابة زينب وقوة شكيمتها وصبرها وايمانها وثقتها بالله وتسليمها لقضائه وقدره فقد كانت تقيم صلاة الليل في ليلة الحادي عشر من محرم واخوتها وابنائها وابناء اخوتها مجزرين كالاضاحي، وهم الليوث الهادرة و الثلة المعصومة، وخيرة خلق الله. ويقال انها في تلك الليلة كانت تصلي من جلوس فقد قصم مقتل الحسين واخيه ابو الفضل العباس ظهرها.
هذه هي زينب انها تالي المعصوم، لم تزل تعلمنا الدروس والعبر في الصبر والحكمة في المواقف الصعبة وما يتوجب فعله كي لا يقع في حبائل الشيطان.
انها زينب تعلمنا كيف ان على المرأة المحافظة على حجابها وسترها وعفتها في احلك الظروف واسوأها و يجب عليها ان تكون سنداً للرجل. ان لزينب عليها السلام فضل ودين في اعناق الرجال والنساء على حد سواء فهي مدرسة للشجاعة والاباء والشرف والمحافظة على الدين والدفاع عنه وحمايته من التشوهات الدخيلة فدين محمد يجب ان يبقى نقيا طاهرا كما جاء به جدها الرسول ولأجل ذلك يجب ان نضحي بكل ما نملك.. سلام على زينب الحوراء زينُ ابيها وفخر فاطمة الغراء. ـ
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha