( بقلم : كريم النوري )
الافكار السياسية او العقائدية هو عقلية في الغالب وليست قياسية تخضع لمعادلات ثابتة لا تقبل التغيير او التبديل كالرياضيات. وهذه الافكار عادة ما تكون نسبية وليست بديهيات كالواحد نصف الاثنين او الجزء اصغر من الكل.وأذا كانت الافكار والقناعات والعقائد تخضع للبديهيات او المقاسات الرياضية الثابتة لما تعددت التيارات والمذاهب ولما احتجنا الى الاجتهاد ولاصبحنا ملة واحدة وجهة واحدة بل حتى الملة الواحدة والمذهب الواحد لا يتفق اصحابه على كل المتبنيات بل يختلفون وتتفاوت آراؤهم وتتعدد قناعاتهم. وليس من الصحيح ان نكون قوالب فكرية جامدة لا تقبل الاجتهاد ولا نختلف بالتوجهات والقناعات فقد لا تختلف الانعام لانها لا تمتلك عقولا.اختلاف وجهات النظر وتعدد الافكار من خصائص البشر وهذه سمة اساسية مميزة للانسان عن بقية المخلوقات. وقد يقال بان هناك حقائق بديهية لا يمكن الاختلاف عليها وقد جرت العادة ان يتفق العقلاء على كليات لا تقبل التعدد او الاختلاف وهذه خارج عن سياق مقالنا لبداهتها.
وهناك ظاهرة تمثل خللاً في الوعي وشللاً في التكفير وهي اعتبار افكارنا السياسية ورؤيتنا للقضايا الفكرية بديهيات لا تقبل النقاش او الخطأ او المراجعة.. وربما هذه واحدة من اخطر عوامل التطرف والتزمت والتشدد "واذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالاثم" وهذا النمط من التفكير يؤدي الى الانغلاق وغلق باب الاجتهاد والتجديد ويقيل العقل ويفسح مجالاً لشيوع الجهل والعناد والمكابرة الفارغة.
العلماء الكبار يراجعون افكارهم ومتبنياتهم فيتراجعون ونلاحظ ذلك بوضوح في رسائلهم العملية وكتب الفتيا عبادات ومعاملات وفي بحوث الفقه واصول الفقه. الاعتراف بالخطأ فضيلة والاصرار على الخطأ جهل وعناد بل ان الوصول الى الفكر الصائب والرؤية المتبصرة لا تتأتى الا عبر المراجعة والتدقيق والتحقيق. تصحيح الاخطاء حالة ايجابية تدعو الى التطور والتحضر وتطوق وتضيق اتساع الاخطاء وتعمق الخلل. ونظرة المجتمع الضيقة التي تعيب على الاخرين تغيير مواقفهم لا تحجب الوعي المتقدم ولا تلغي اهمية المراجعة للمواقف والافكار.
ومن المفارقات في هذا السياق هي ان الكثير من سياسيينا ومثقفينا قد غادروا مرحلة القرية والقبيلة من عقود من السنين بل قرون لكنهم مازالوا يستعيرون ضمن تراكمات ومرتكزات عقولهم الوعي القروي او القبلي.اعرف احد قيادات الحركة الاسلامية الميدانية كان يحمل تصورات ربما مشوشة او مشوهة عن احد القادة الكبار وهي تصورات لا تتعدى العتب في الغالب وهذا القائد الميداني لما يلتقي ذاك القائد الكبير يقابله باهتمام ويقبل يده باحترام ولكنه يفاجأ من استغراب المقربين لهذا القائد الكبير واتهامهم له بالنفاق والتزلف لانه يقبل يد هذا القائد الكبير بينما كان يحمل تصورات ناقدة له!
هذا السلوك لهؤلاء المقربين يدفع هذا القائد الميداني باتجاه الابتعاد او ازدراء القائد وعدم احترامه لكي يكون بنظره المقربين مبدئياً ويسيىء لقائدهم حتى لا يكون منافقاً. ومن هنا فيمكن التأكيد على ان اختلاف الرأي لا يعني القطيعة والتقاطع دائماً. وتغيير المواقف والقناعات ضمن مقدمات موضوعية لا يعني النفاق وان التزمت بالرأي والاصرار على الخطأ لا يعني المبدئية والصلابة.
قد يدفع المجتمع غير المتحضر والمقربون الجهلة الى التزمت والعناد والعصبية وان الخضوع لهؤلاء احدى اسباب التطرف والتشدد والعصبية القبلية. ولذا لا نجد في واقعنا الشرقي والعراقي بالتحديداً ظاهرة الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية للكوارث والفواجع بل نلجأ عادة الى التبرير البائس والتفسير اليائس حتى كأننا معصومون ومنزهون عن الاخطاء وهذه واحدة من اسباب عدم ارتكاز ظاهرة الاستقالة في واقعنا السياسية بل حضور ظاهرة الاقالة. مشاهد وثنائيات المقارنة بيننا وبين الغرب لا يمكن احصاؤها او استقصاؤها او حصرها لكثرتها في الغرب وندرتها في الشرق وهي من عوامل تكريس الاخطاء وغياب المراجعة والمحاسبة.في كل كوارث العراق الجديد وفواجعة لم يبادر وزير او مسؤول كبير باعلان مسؤوليته عن الخطأ بل نلجأ عادة الى التبرير والتخدير عبر تشكيل لجان تحقيق لا تغني ولا تسمن من جوع ولم يطلع شعبنا على نتائجه حتى مرور سنوات. ففي فاجعة الجسر والاختراقات الامنية والاعتداء على زوراء الشعبانية واغتيال محافظي السماوة والديوانية وغيرها من الحوادث اليومية لم نجد شجاعاً يعترف باخطائه.
حالة نادرة يمكن الاشارة اليها في العراق الجديد الاولى كانت للرئيس مام جلال عبر اعتذاره لحزب الفضيلة عن مقال كتبته جريدة الاتحاد الناطقة باسم الحزب الذي يقود مام جلال ما اعتبر اساءة الى زعيم الفضيلة الروحي.وكان اعتذار مام جلال للفضيلة فضيلة بقطع النظر عن طبيعة المقال او صحته.
والموقف الثاني اعتذار النائب الدكتور وائل عبد اللطيف لحركة حزب الله وامينها العام الاستاذ حسن الساري بحسب ما صرح به لاحدى الفضائيات عن علاقة هذه الحركة بجهات اجنبية. مام جلال والدكتور وائل عبد اللطيف هما مفردة نادرة ويتيمة في العراق الجديد بينما لا يمكن حصر مواقف الغربيين في هذا المجال مجال الاعتذار او الاستقالة، لكن هذا لا يمنع الاشارة الى بعض المشاهد الرائعة فالرئيس الارجنيني الاسبق قدم استقالته معتذراً لشعبه بسبب فشله بالاحتفاظ بجزر فوكلاند المحتلة من البريطانيين ووزير غربي يقدم استقالته بسبب حادث مروري واخر يعتذر لشعبه من اخطاء سياسته الاقتصادية وووو وتطول القائمة.
ولو كان وضع الكهرباء العراقي متكرراً في أي دولة غربية لرأينا استقالة الف وزير بلا تبرير ولا تنظير بينما كريم وحيد وزيرنا الموقر الذي حول العراق الى ليل دامس مازال يتحجج بالارهاب والتكفير رغم حصول صحوات وتطورات على الملف الامني ليس لسبب واضح الا لانه لم يفقه حضارة الاستقالة او الاعتذار.
https://telegram.me/buratha