المقالات

المرأة الشهيدة، دروس من الواقع..


كوثر العزاوي ||

 

ارتبطتُ بها روحيًا وأنا أنظر لها مثالًا، من أول يوم دخلتُ التوقيف في أحد دهاليز الأمن العامة ببغداد من عام ١٩٨٢ وكان يغصُّ بالنساء الحرائر بمختلف الفئآت العمرية والغالب آنذاك عمر الشباب الذي لايزيد على العشرين عامًا ومن مختلف مناطق بغداد ومحافظات العراق.

كان لها من الهيبة والجَذَبة مايسرُّ الفؤاد ويصعب النظر في عينيها الذابلتين تهيّبًا الحاجة لذلك، كنت قد أحبَبتها كما لو كانت أمي أو اختي الأكبر، ولأني قضيت معها أطول مدة لي قياسًا ببقية الشهيدات "لأرواحهنّ الرحمة والرضوان" لذا تركت هذه الشهيدة في نفسي أثرًا لم تمْحُهُ السنين، وكان يوم رحيلها أمضّ على قلبي من يوم فقدي لأخوتي، رغم أنني عشتُ هاجس رحيلها في أي لحظة، طالما حُكمَ عليها بالإعدام، إذن سيأتي الجلاد يومًا ليسوقها الى مِقصلة الموت وعليّ أن استوعبَ هذه الحقيقة، ولكن ماذا نعمل وأشدّ عُرى المودة ماارتبط بالإيمان والمبادئ فالعُلقة هدف سامٍ، وأنّ الراحلَ شهيد!!

وتلك الرِفقة مازالت بصماتها على روحي والذكريات لاتبارح ذهني!

عند مكوثنا في موقف الأمن العام بانتظار المحكمة، كثيرًا ماكنّا نقضي الوقت بالصلاة والأدعية والبعض الآخر منه نتسلّى في صنع بعض الأعمال الفنية اليدوية بما يتيسر لنا من اللوازم الأولية البسيطة، وكنت أجلس بجانبها وهي تعمل حبّات صغيرة{خرز} من لبّ الصمون الذي يعطوه لنا كل صباح فنأخذ جزءً من العجينة المَرِنة ونعمل منها "مسبحة" وبينما هي تشكّل الحبّات من العجينة التي أطوع ماتكون بين أصابعها، أكون أنا قد شكّلت معها عددًا من الخرز واقوم بثقبها واتركها تجف، وهي تنظر إليّ مازحة قائلة: انا اسرع منك لكنك أكثر دقة مني، وارّد بخجل: أليس الدقة أوْلى من السرعة؟ تهزّ رأسها والابتسامة تجمّل وجهها وبنبرة واهنة تقول: صح والله "ياأم الدقة" أرى دقّتكِ تجعلكِ مستقبلًا بمنأى عن التهوّر والاندفاع إن بقينا على قيد الحياة!! فنضحكُ معًا، ومن تلك اللحظة لم تبارح عبارتها ذهني وكلما أردتُ اتخاذ قرارٍ ما، يطرق سمعي لطفَ عبارتها، إذ تعني لي الشيء الثمين الأحبّ إلى نفسي.

وفي سجن الرشاد وعند انتهاء الدوام، كنا ننتظر مغادرة الرقيبات، ما يعني ثمة فسحة من حرية نتنقّل فيها بين الغرف الصغيرة والذهاب إلى الشهيدات وما تسمى ب"غرفة الإعدام" المخصّصة لمَن حُكِم عليها بالإعدام، أجلس عندها وهي تبتسمُ فأغوص في بحر ابتسامتها التي توحي بالزهد والسخرية من الدنيا ومافيها، لتمنحني فيضًا من نور يتسلّل بهدوء إلى كياني، أقرأ معها القرآن وهي غالبًا ماتكون مستلقية، لما ألمّ بها من تعب ونحول جرّاء التعذيب الوحشي الذي لم يكن خافيًا على الظاهر من جسدها فضلًا عما خفي منه!! تستمع لي مرة وانا أقرأ، ثم تقرأ وانا استمع مرة أخرى، فلم أنسَ نبرات صوتها المنساب على قلبي وَهْنًا على وَهْن، وبعد إتمام القراءة لنصف جزء، اطلب منها السماح لي بتدليك قدَميها فتمانع، وما أن أُلِحّ عليها حدّ البكاء حتى تسمح لي، وكلّ القرائن تدل على حاجتها إلى مساجٍ كمحاولة لتهدئة آلامها التي لايعرف الهدوء إليها سبيلا!.

وثمة درس آخر تَركَته لي رفقة السماء، في يوم وعلى إثر احتدام النقاشٍ الذي دار بينها وبين إحدى الاخوات السجينات بشأن مسألة ما، كنتُ وقتها استمع ولأول مرة أراها غاضبة، وما أن انتهى النقاش حتى عادت إلى هدوئها ليفترقا بتمام التفاهم وتبادل الابتسامة، ونظرات الاعتذار تبدو جليّة بين الطرفين، وبعد انسحاب الاخت قلت لها:

ام ايمان، ارجوك لاتنفعلي هكذا مرة أخرى فقد يضر بصحتك وانت على غير مايرام..نظرت اليّ بِودّ كعادتها وقالت: {ماقيمة صحتي إن لم أبيّن مااستطيع بيانه من قول الحق، وهل غير الدفاع عن الحق سيجعلنا شهداء..}!! يالها من تذكرة!

فوالله لم أنسَ كلمتها الواعظة هذه ودرسها البليغ، وتلك الإنحناءة وهي تمشي الهوينا في الممرّ المقابل لغرفة الإعدام مرتدية الجوارب الصوف حتى في حرّ الصيف القائض لأنها تعاني من آلامٍ في أعصاب اطرافها وتشعر ببرودتها شتاءً وصيفا..

كما لاانسى ذلك اليوم الذي ودّعناها حيث الجنان ومافيه من دروس اخرى! وقد ارتدت إحرام الشهادة الذي أُعِدَّ لها كَفنًا من قِبل الاخوات السجينات، وبينما نحن ندور حولها وعيوننا غرقى بدموع الفقد والخسارة، تراها تتمتم بتسابيح الشكر والشوق للقاء الله والابتسامة تعلو ثغرها، وعيناها تُرسلان شعاع الرضا والتسليم فيما تصطدم بنظراتنا المودّعة لها ونحن ننزف حسرة وحزنا، نراها توزّع النظرات كأنها عاشقة تتهيّأ بحياء للقاء معشوقها! وفي ذلك ألف درسٍ وعبرة حفرتها لحظات الوداع على رخام الزمن في مساحة "سجن الرشاد" التي ضمّت أرواحًا لسنين عجاف، وسِيقت فيها أخرى الى مقاصل الموت لتعرج من هناك إلى السماء حيث عالم الشهداء الاطهر! لتبقى شاهدة على الظلم كما هي شاهدة على التضحيات والفداء في طريق الدفاع عن الحقّ.

 

٢٦-شعبان١٤٤٤هج

 ١٩-آذار٢٠٢٣م

 

 

ـــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك