كوثر العزاوي ||
وقتٌ لا يكاد يُقدَّر، لا بالدقائق ولا بالساعات، هو لايَشبه ايّ زمان، وليس في طيّاتهِ آن، ولايخمّنهُ عقل حاذق مهما بلغت حذاقته مالَمْ يقيم ولو وطَرًا في ذلك المقطع من الزمن الغابر! لما انطوت مسافاته على وقائعَ خانقة كاتمة، تستهدف الروح والعقل قبل الجسد البالي، إنها واحدة من الأساليب الإجرامية التي يعتمدها أوباش البشر من حثالة البعث الظالم بحق السجناء والسجينات قبل المحاكمة بهدف قمعِ ماتبقى لديهم من طاقة وقوة، وإستنزاف القدرة على التحدّي والصمود وخنق الأنفاس الأبيّة، ولكن هيهات!! فلو نَفَدَت كمية الأوكسجين فلم ولن تَنفَد عنايات الله تعالى بل ولن تنقطع ألطافهُ عن المستضعفين وهم بعينهِ التي لاتنام!
-كان يومًا عسيرًا من أيام الشهر الثامن من عام "١٩٨٢" الأيام التي عُرفَت بضراوة حرّها من صيف العراق اللّاهب!
فُتِح باب مايسمى -بالموقف- وهو أحد دهاليز الأمن العامة النائية عن أحاسيس البشر وأنظارهم، دخل احد ازلام القمع الصدامي ووقف على عتبة تلك الغرفة المكتظة بالنساء، فتيات بعمر الورود وأمهات منهكات، ثم قال: أي واحدة تسمع اسمها تتقدم هنا: اخذ يُذيع الأسماء
حتى بلغ العدد ال١٧ معتقلة وأشار إلينا أن اخرجنَ ورائي، وكنا لانملك شيئا يستوجب استعدادًا أو يُلزِمُ وقتًا، فقد كنّا نرتدي من رثّ الثياب وعباءاتنا التي هي الأخرى نالتها سياط البعث ليَبلى الجزء الأكثر منها وقد أبَت إلا الحفاظ على بقايا أجساد وسَترِ جراحاتها.
-ودّعنا مَن بقيَت من السجينات في عناقٍ ودموع وتمتمات الرضا بالقضاء حيث المصير المجهول، ونحن نُساق عنوة لاندري وِجهتنا وإلى أين مآلنا! ولعلّ أقرب مايخطر على البال آنذاك هو ذات ماحصل للعشرات من الاخوات المعتقَلات حينما أخذوهنّ بذات الأسلوب القسريّ ولم يعُدنَ، فيما تبيّن بعد التغييب أنهن قد أعدِمنَ وتمَّ دفنهن في مقبرة جماعية وإلى اليوم مجهولات الأثر.
-على كل حال- خرجنا بقلوب تعلقت ببارئها وألسنةٍ لم تنفك تلهج ذاكرة ربها ومَن عَليهم المعوَّل في "الشدائد" محمد وآل محمد "عليهم السلام" أركبونا جميعا في سيارة صندوق حديدي بلا نوافذ، تشبه برّادات نقل اللحوم في الوقت الحاضر، ولم نرَ من خلالها أيّ مَعْلَم من مَعالِم الطريق ولابصيص من ضوء النهار، إذ كانت بيننا تلك الطفلة الرضيعة مع أمها التي جاءت بها حاملًا وَوُلدِت في الموقف، "دعاء" ابنة الشهيدة عواطف مع زوجها وقد حُكِما عليهما بالإعدام كانت معي في نفس قفص المحكمة "قفص الاتهام" فلم أنسَ حال الطفلة وهي تتلوى عطشًا من شدة الحرّ وكأنها حمامة تحتضر! فوالله إنّ ذلك المشهد لأشدّ عسرًا وصعوبة والطفلة تكاد تلتقط أنفاسها وذلك العدد يستنجد طالبًا نسمة هواء، حيث أخذنا نصرخ ونضرب على جدران السيارة بلا شعور من شدة الإعياء جراء نفاد الأوكسجين في تلك السيارة اللعينة وهي تسير في الشارع مترنّحة كأنها وحش ينقل فريسته منتصرًا، وليت الناس والمارّة عَلِموا تحملُ السيارة من لحوم بشرية ببقايا حياة ونبضات واهنة والروح فيها تصطرخ تلتمسُ الهواء او قطرة من ماء!! ولكن أنّى لهم معرفة ذلك في عالَم الضجيج، والغفلة عن حقبةٍ غيّبها طاغوت العراق حقدّا وانتقامًا من شريحة رافعت راية الرفض بأيدٍ بيضاء لشباب وحرائر معارِضة لنظامٍ دمويّ سبق وأن بدأ مجازر الذبح والتغييب لآلاف الشرفاء والأحرار، علماء وأدباء وطلبة جامعات ومربّين ومن كل فئات الشعب العراقي رجالًا ونساءًا شيبًا وشبّانا حتى خلت تلك البيوت لذوات العفاف والشرف والنبل والمسؤولية، ليُودِعنَ أجمل سنين العمر بين قضبان السجون أو الموت على مقاصل الإعدام شنقًا لتلقى بارئها صابرة محتسِبة!
-وشيئا فشيئا أخذت سرعة السيارة بالتضاؤل، ولم نكَد نصدق حينما توقفت السيارة حقا!.نزلنا في مكان ليس على خارطة العالم مثيله! إذ لم تلحق عيوننا تشخيص معالمه، حتى
أنزلونا في قاعة كبيرة وفيها من المقاعد الكثير، عرفنا أنها قاعة الانتظار قبل الدخول إلى قاعة محكمة الثورة سيئة الصيت، وهو الآخر اسلوب معروف لدى قانون البعث المجرم، أنّ المعتقلين بقضايا إسلامية وبعد غلق ملفات قضاياهم يتم إرسالهم إلى المحكمة الصورية للاستماع إلى الأحكام المجحفة الصادرة بحقهم ظلمًا وعدوانًا قبل التسفير إلى سجن الرشاد بالنسبة للنساء. وسجن ابي غريب للرجال!!
وكان ماكان في قاعة المحكمة وبعد المحاكمة وصولًا إلى سجن الرشاد وماادراك ماسجن الرشاد!!
٢٨-رجب الأصب١٤٤٤هج
٢٠-شباط٢٠٢٣م
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha