جاسم الخيبري ||
في بداية عام ١٩٨٥ اعتقلت سلطات البعث قاسم ابو محمد وعائلته واودعته السجن وفصلته عن اولاده الاربعة لينقلون بسجن ثاني وتودع البنت في سجن النساء ...
استمر وجود ابو محمد الرجل الخمسيني لمدة ستة اشهر بالسجن ، تهمته انه كردي فيلي وحسب تقسيمات النظام البعثي انه من التبعية الايرانية ...
عاش غربة السجن لوحده ولا يعرف شيء عن بقية العائلة ، حتى جاء القرار بتهجيره الى ايران بعد شوط من التعذيب الذي لا يعرف سببه ...
في صيف نفس العام تم الدفع به على حدود ايران من منطقة جوان رود العراقية مقابل الحدود الايرانية وقيل له اذهب الى عمك الخميني مع العديد من الرجال معه ...
سار وحيدا بدون اولاده وبنته في الجبال وألم التعذيب والجراح اخذت القسط الاكبر من قوته...
كابر متحملا الم التعذيب ليكمل المسير فخانته قواه فسقط على الارض نازعت روحه الموت لتبقى ويلتقي بأبناءه ويضمهم لصدره بعد فصلهم عنه ولم يعرف شيئا عنهم صراخ الرجال من حوله يدعونه الى التحمل ويقولن له ان الحدود قريبة وان ابناءه في انتظاره متشوقين لرؤيته كل هذه المحفزات التي اختلقوها ليبعثوا عنده الامل وينتصر على الموت لم تنفع ، مسك بيده على كف احدهم وقال له بلغهم سلامي ، فتوقف لسانه عن النطق وبقيت عيناه مفتوحة تنظر الى السماء مودعا الحياة ......
دار اصدقائه حول رأسه وتوقفوا عن اكمال سيرهم ، وتحادثوا فيما يفعلون له
هل ينقلوه معهم الى ايران والمسافة بعيدة ، ام يدفنوه
ولكن بماذا يحفرون القبر في ارض صخرية واصابعهم غير قادرة على حفر سنتيم واحد .
فكان القرار تركه على حاله والنجاة بأنفسهم لان الوقت بدأ يدركهم وسيلقون نفس المصير والحزن مسيطر عليهم والتردد في اكمال المسير فكان قرار تركه هو الغالب عندهم فكلما توقف احد سحبه الاخر بعيون باكية الى ان ابتعدا عنه ولم يعد يشاهدونه وان كانت صورته لم تفارق مخيلتهم .
بقي ملقى على الطريق مع اثنين اخرين جثث هامدة واستمر الاخرون بالسير لاكمال الطريق المجهول ..
وفي اليوم الثاني تم تهجير النساء السجينات بوجبة واحدة من نفس الطريق ليتوقف سيرهن على صراخ بنت قاسم وهي تنكفأ على جثة ابيها ...
فأحطن بها النساء ليحجبنها عن رؤيته ويخففن الصدمة عنها ...
بقيت البنت تصرخ وتخاطب ابيها الميت وتعاتبه وتسأله عن اخوتها وهي تعددهم ، فلا من مجيب ..
كانت آمالها معقودة على رؤيته مع اخوتها بعد تخلصها من السجن ليعوضوها عن غربة الوطن ...
وهي تقف على جثته وتكرر عبارة يبوية ليش عفتني وحدي مو امي وصتك بيه من ماتت ؟؟ ماذا ستقول لها ؟؟؟...
انه لقاء غير متوقع ومؤلم ابكى حتى الصخر بالجبال وكانت كلمات البنت كالسكين تغرز في قلوب النساء ... ..
فما كان منهن الا ابعادها عن جثة ابيها وارغامها على مواصلة السير الى ايران لتنجوا هي الاخرى من الموت ...
البكاء والعويل رافق كل النساء على هول المنظر لكنهن تحاملن واحطن البنت بالعطف والحنان ..
في اليوم الاخر تم تهجير وجبة اخرى من الرجال ليكون ابو علي صديقه في السجن من ضمنهم وكان يحمل اباه الكبير على ظهره لعدم امكانه السير لكبر سنه ...
انزل الرجل اباه وجثى على ركبتيه وهو يتطلع جثة صديقه ابو محمد الرجل الطيب الوقور والديدان تخرج من فمه وتدخل انفه وتخرج الاخرى من اذنيه لتدخل فمه سائحة مستأنسه بهذا الجسد الطري لتأخذ نصيبها من لحمه ...
فأخذته الحمية لابعاد تلك الديدان عن وجه صديقه
لكنه توقف لانه يعلم ان هناك اعداد كثيرة في جسمه وان الامر انتهى ليترك الديدان تسوح في جسمه مستأنسه فأسدل الستار على حياة هذا الرجل المسكين .
تداعت الذكريات امام عين ابو علي وهو ينظر الى صاحبه بالشكل المؤلم ورائحة الموت تفوح منه ... ..
رغم ذلك لم يستطع ان يفارقه الا بعد ان وجد حلا بأن يضع احدى الاغطية التي مع اصدقاءه ويبعده قليلا عن الطريق ..
وهذا اكثر ما يستطيع فعله ليواصل المسير بحمل ابيه ..
لقد هانت الدنيا في عينه وهو يرى مصير الاخيار والطيبين
وهم يموتون بهذه الطريقة البشعة بعيدين عن اهلهم واوطانهم بلا ذنب اقترفوه .. ...
بقيت رائحة الموت ملازمة لابو علي والمنظر المخيف ماثل امامه وهو يقطع المسافات للوصول الى الاراضي الايرانية
بعد ٦ ساعات من السير على الاقدام في ارض جبلية وهو يحمل اباه على ظهره ..
فور وصوله مخيم المهجرين التقى عائلته التي فارقهم منذ سنوات لانهم في سجن اخر ، فأخبروه عن بنت ابو محمد صديقه فأهتم بها وأمر عائلته بضمها مع عياله ليخفف عنها فراق الاهل وصدمة مشاهدة جثة ابيها ..
هكذا دارت السنون على الكثير من المظلومين وحزب البعث يتغنى ببطولاته .....حتى جاءهم السيل ليجتث حكمهم من جذوره ...
لتبقى تلك الجرائم محفورة في ذاكرة الشرفاء لاخذ الثأر منهم ، ويبحثوا عن أثر قبر او دالة عن مكان دفن اولاده الاربعة مع أكثر من عشرون الف معهم .
فسلام عليك ابا محمد وعلى ابناءك الاربعة الشهداء والرحمة والرضوان لكل ضحايا النظام الصدامي المجرم
https://telegram.me/buratha