بسم الله الرحمن الرحيم
1ـ لقد اتخذت المرجعية الدينية العليا جانب الحياد في الانتخابات النيابية الاخيرة واوضحت انها لا تدعم فيها أي طرف على حساب طرف آخر ، وأن الامر متروك لارادة المواطنين يختارون من يشاءون من المرشحين ومن القوائم الانتخابية .
وبعد ظهور نتائج الانتخابات تلقت المرجعية الدينية العليا رسائل عديدة من قيادات اساسية في المكونات الاخرى تشدد فيها على رفضها المطلق للولاية الثالثة لرئيس الوزراء الحالي وتطالب بترشيح بديل عنه من التحالف الوطني ، ولكن ارتأى سماحة السيد آنذاك عدم التدخل في هذا الامر بل انتظار ما تسفر عنه حوارات الكتل السياسية ، و قد أبلغ سماحته كل من التقى بهم ـ ومنهم ممثل الامين العام للامم المتحدة ـ بانه لن يتدخل في موضوع تشكيل الحكومة المقبلة الا اذا حصل انسداد سياسي وواجه البلد أزمة خانقة تهدد العملية السياسية برمتها .
2ـ لقد كانت للمرجعية الدينية العليا ملاحظات اساسية على اداء الحكومة في ادارة شؤون البلد ومن هنا امتنعت عن استقبال المسؤولين فيها منذ عدة اعوام ، ومن ابرز تلك الملاحظات هو تقصيرها في توفير الخدمات و في مكافحة الفساد الذي تفشى بصورة غير مسبوقة في مختلف دوائر الدولة و في اعلى المستويات ، حتى أصبح عائقاً أساسياً امام أي تقدم حقيقي في المجالات المهمة كالأمن و الخدمات و التنمية الاقتصادية و غيرها . و قد ألح سماحة السيد على رئيس الوزراء أن تكون له صولة على الفاسدين كصولته على الخارجين على القانون إلا انه لم يقم بأي جهد حقيقي في هذا المجال بل ساهم في تقنين الفساد و حماية الفاسدين بما لا يتسع هذا المقال لاستعراض الشواهد عليه .
وعندما استولت عصابة داعش الارهابية على محافظة نينوى واجزاء واسعة من محافظات صلاح الدين و الانبار وديالى وتعاظم خطرها على بغداد وبقية البلاد ـ حتى اضطرت المرجعية الدينية العليا الى دعوة المواطنين للتطوع في صفوف القوات المسلحة تجنباً عن الانهيار التام ـ تبين مدى الخلل في ادارة الملف الامني ايضاً ، وهو الملف الذي كان يحتكره رئيس الوزراء بجميع مفاصله ولم يكن لغير من يعينهم ويرتضيهم من القيادات و المسؤولين أي دور فيه ، فكان هو المسؤول عن الاخفاق الكبير في هذا الملف ، بخلاف بعض الملفات الاخرى كملف الخدمات الذي طالما اعتذر عن فشل الحكومة فيه بان الوزراء الخدميين انما هم من كتل أخرى و يتعمدون عدم تحقق أي انجاز ملموس في توفير الخدمات حتى لا يحسب نجاحاً لرئيس الوزراء .
3ـ لقد باتت المرجعية الدينية العليا على قناعة تامة بان التدهور الكبير في الحياة السياسية العراقية بين ابناء الوطن الواحد من جهة و بين العراق ومحيطه العربي والاسلامي من جهة أخرى يجعل الحاجة ماسة الى تغيير في أكثر من موقع ومنصب تتغير معه آلية التعاطي مع أزمات البلد المستعصية ، وتعتمد رؤية مختلفة عما جرى العمل بها خلال السنوات الاخيرة اذا أريد درء مخاطر الارهاب و الحرب الطائفية و التقسيم التي تعاظمت في المدة الأخيرة ولا سيما بعد سقوط الموصل بيد الدواعش .
و بالرغم من قناعة المرجعية العليا بما تقدم الا انها آثرت الانتظار لبعض الوقت و لم تبد رأيها هذا ، عسـى ان تتجلى الامور للكتل السياسية فتبادر من تلقاء نفسها الى تبني التغييرات المطلوبة .
4ـ وفي هذا الاثناء تلقى سماحة السيد رسالة خطية من قيادة حزب الدعوة الاسلامية مؤرخة في السادس والعشرين من شهر شعبان الموافق 25 حزيران وقد ورد في آخرها : ( نحن نتطلع الى توجيهاتكم و ارشاداتكم ونعاهدكم اننا رهن أمركم بكل صدق في كل المسائل المطروحة وفي كل المواقع والمناصب لادراكنا بعمق نظرتكم ومنطلقين من فهمنا للمسؤولية الشرعية ) .
وعندئذ رأى سماحة السيد أن من مسؤوليته الشرعية أن يبدي رأيه صريحاً لهؤلاء الاخوة في رسالة خاصة ـ لم ينشرها الحزب الا مؤخراً ـ وقد ورد فيها : ( انني أرى ضرورة الاسراع في اختيار رئيس جديد للوزراء يحظى بقبول وطني واسع و يتمكن من العمل سوية مع القيادات السياسية لبقية المكونات لانقاذ البلد من مخاطر الارهاب و الحرب الطائفية و التقسيم ) .
وهذا (الرأي) لم يكن بصيغة فتوى شرعية بل كان يعبر عن موقف سياسي للمرجعية العليا التي اعترف الاعداء قبل الاصدقاء بحكمتها و صواب منهجها ودقة قراراتها السياسية في أشد الظروف وأكثرها تعقيداً .
5ـ وعندما وصلت هذه الرسالة الى رئيس الوزراء رفض ما ورد فيها ، مع انه طالما ابدى استعداده للعمل بتوجيهات سماحة السيد ، ومن ذلك ما أشار اليه في رسالته الخطية التي وجهها الى سماحته في 1 رجب 1435 الموافق 1 ايار 2014 حيث ورد فيها : ( ان العراق يمر بمرحلة جديدة يحتاج لرعايتـكم وتوجيهاتكم لتحـفظ العملية السـياسية من الانحراف او الخراب لا قدر الله ) . و قد حاول كبار الاعضاء في قيادة حزب الدعوة و قيادات بارزة في ائتلاف دولة القانون اقناعه بالالتزام بمضمون رسالة المرجعية الدينية العليا إلا انه ظل مصراً على موقفه الرافض لذلك .
6ـ ولما يئست قيادة حزب الدعوة عن اقناع رئيس الوزراء بسحب ترشيحه للولاية الثالثة قاموا بترشيح الدكتور حيدر العبادي لهذا المنصب و تمكنوا بعد حوارات مضنية من الاتفاق مع بعض الكتل المنضوية في دولة القانون وكتل الائتلاف الوطني على ان يكون هو مرشح التحالف الوطني ، وعندئذ قام السيد رئيس الجمهورية بتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة .
7 ـ ولكن رفض رئيس الوزراء القبول بما جرى ، وزعم انه ينافي استحقاقه الدستوري لانه حاز على أزيد من سبعمائة ألف صوت أي أعلى من أي فائز آخر في الانتخابات ، وقال ايضاً ان كتلة دولة القانون تعد هي الكتلة الاكبر ولذلك فان تكليف مرشح التحالف الوطني يعتبر خرقاً دستورياً .
وقد حاول أكثر من طرف اقناعه بان الاستحقاق الانتخابي في النظام البرلماني لا يعني أن من حاز أعلى الاصوات يكون هو الذي يجب تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة بل يتبع ذلك الضوابط القانونية ، وأما الخرق الدستوري فلا أساس له أيضاً فان التحالف الوطني أعلن عن نفسه قبل الجلسة الاولى لمجلس النواب في مؤتمر صحفي و في وثيقة موقعة من رؤساء كتله و ليس في الدستور ولا في قرار المحكمة الاتحادية ضرورة ابلاغ رئيس السن بذلك .
ولكن استمر رفض رئيس الوزراء لما جرى واشتكى الى المحكمة الاتحادية ولم يقبل بالواقع الجديد الا بعد ان تأكد ان شكواه لا توصله الى نتيجة لان المحكمة الاتحادية لن تحكم لصالحه .
8ـ يظن البعض ان الائتلاف الوطني لو وافق على مرشح دولة القانون لتمكن الطرفان من تشكيل الحكومة المقبلة ولنالت الثقة في مجلس النواب ـ لانهما يمتلكان الاغلبية المطلقة ـ وان لم يوافق عليها التحالف الكردستاني او اتحاد القوى الوطنية ، ولكن هذا غير صحيح فان الوضع الخاص للعراق يستوجب نيل الحكومة موافقة الكتل الرئيسية الثلاث عليها والا انهارت العملية السياسية وتعرض البلد للتقسيم الفعلي ، وقد كان موقف التحالف الكردستاني واتحاد القوى الوطنية واضحاً من انهما لا يشتركان في حكومة يرأسها رئيس الوزراء الحالي في مطلق الاحوال.
ويسأل البعض لماذا لم تمنح رئيس الوزراء فرصة تشكيل الحكومة حتى اذا فشل كلف بذلك غيره؟ و الجواب : ان السيد رئيس الجمهورية كان يرى ان الكتلة الاكبر في مجلس النواب هي التحالف الوطني فلم يكن باستطاعته دستورياً ان يكلف من لا يكون مرشحاً لها .
بالاضافة الى ان كثيراً من نواب دولة القانون رفضوا ـ بعد كل ما جرى ـ تكليف رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة ـ ومنهم نواب كتلة بدر والمستقلون وقسم من نواب كتلة الدعوة ـ فلم يعد مرشحاً حتى لتمام دولة القانون ، مع ان التدهور الامني الخطير الذي تشهده البلاد وما رافقه من معاناة وتشريد مئات الآلاف من المواطنين كان يحتم عدم تضييع الوقت فيما يعلم انه لا يؤدي الى أية نتيجة مقبولة .
9ـ يظن البعض ان ما حصل من التغيير كان استجابة لضغوط اجنبية ودولية ، ولكن هذا غير صحيح أيضاً فان من المؤكد ان القرار كان عراقياً بحتاً رعاية للمصالح العليا للشعب العراقي ، ولو لم تصل المرجعية العليا و القادة السياسيون الى قناعة تامة بذلك لما قبلوا بالتغيير مهما كانت الضغوط الخارجية .
10ـ يسأل البعض هل ان المرجعية الدينية العليا واثقة من ان تغيير الرئاسات الثلاث و لاسيما رئاسة الوزراء سيؤدي الى تحسن اوضاع البلاد و انحسار الاخطار التي تواجهها ؟ والجواب : ان المؤكد هو انه لم يكن هناك أي افق لتحسن الاوضاع ووقف نزيف الدم العراقي مع استمرار القيادات السابقة في السلطة ، وأما مع القيادات الجديدة فهناك أمل في تحسن الامور ولكنه منوط بما أشارت اليه المرجعية العليا من الشروط .
بقلم: وائل هاشم / متابع لنشاط المرجعية الدينية
https://telegram.me/buratha