منذ أن طرح مونتسكيو نظريته الشهيرة, والمتضمنة مبدأ الفصل بين السلطات, وعالم السياسة والحكم يشهد تحولات مهمة, قادت الى تطور العمل في مجال بناء الدول وتطويرها؛ وإذا أردنا أن ننظر الى نموذجين مطروحين في دول العالم المتقدمة, وأقصد بهما : نظام الحكم البرلماني الحكومي في أغلب دول أوربا, ونظام الحكم الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية, فإننا سنجد أن الثاني قد تجسدت فيه بوضوح ملامح نظرية مونتسكيو أكثر من الأول.
مبدأ الفصل بين السلطات الذي أقره مونتسكيو, كان يرمي من خلاله إلى تهذيب وتشذيب عوامل القهر السلطوي, والتي كانت تتجسد وتتمثل في ذلك الزمن بالسلطة المطلقة للملك, أو الإمبراطور, محاولا في الوقت نفسه, أن يجعل من صناعة القرار أو صياغة القانون, وتنفيذه والمتابعة والمراقبة في تنفيذه, يمر عبر مؤسسات متعددة, لكي لا يكون حكرا على جهة واحدة أو شخص واحد.
في الولايات المتحدة الأمريكية, يتميز نظام الحكم فيها بكونه نظام حكم رئاسي, إضافة إلى أن أمريكا ومع ما تتميز به من تقدم في حقوق الإنسان, والعمل بمبدأ الفصل بين السلطات, نجد أن عقوبة (الإعدام) معمول بها في هذا البلد! وهو عكس ما موجود في أوربا؛ ويذهب فقهاء القانون والفكر السياسي في تفسير هذا الاختلاف, إلى أن أوربا قد عانت ولعقود طويلة من تسلط الطغاة والدكتاتوريات- سواء الملكية منها أو الجمهورية- فكانت عقوبة الإعدام أداة طيعة بيد هؤلاء الطغاة لتصفية خصومهم.
في أمريكا الوضع يختلف, حيث أن أمريكا كبلد, تميز وخلال الــ 200 عام الأخيرة- أي منذ تشكيل الدولة, وإقرار الدستور الأمريكي- بعدم ظهور اي حالة من حالات الدكتاتوريات, المخالفة لروح وجوهر النظام الديمقراطي المعمول به في ذلك البلد, لذا وجد فقهاء القانون في هذا البلد, أن عقوبة الإعدام للمجرمين الذين يستحقونها, هي عقوبة مناسبة, ولم يتخوفوا منها أن تكون أداة بيد حاكم من حكامها في يومٍ من الأيام.
المعنى :
أن أنظمة الحكم, وأشكالها, وأنواعها, إنما تتشكل في البلدان والدول, بحسب طبيعة وأرضية وبيئة ومقومات وظروف ذلك البلد, ويتم الابتعاد دوما عن أي قانون أو شكل حكم, أو أدبيات عمل سياسي, قد تؤدي في المستقبل إلى تخريب بناء الدولة, أو القضاء على الشكل السياسي فيها.
في بلدٍ كالعراق, وبعد مئات السنين من تسلط أعتى وأغرب أنواع التسلط الدكتاتوري فيه, وبعد تذوق شعبه الويلات من خلال معايشتهم لكل أنواع التسلط الفردي والسلطوي, الدكتاتوري والاستبدادي والطغياني, ومع توفر أرضية اجتماعية وبيئية خصبة في هذا البلد, لتصدير كل أنواع الدكتاتوريات الممكنة, لذا فإن المطالبة بأن يتحول نظام الحكم في العراق من النظام البرلماني, إلى النظام الرئاسي, إنما هو فتح الباب على مصراعيه, لشرعنة ولادة دكتاتوريات جديدة, ستعمل على تفتيت مفهوم الفصل بين السلطات, وسترسخ ما تم بنيانه سياسيا وجماهيريا من فكر استبدادي وطغياني.
ولا أعلم, هل أن الداعين الى مثل هذا النوع من الأنظمة, قد عُميت أبصارهم عن الحرائق والكوارث التي أصابت المنطقة برمتها, نتيجة تسلط دكتاتوريات استبدادية تسلطية, تحكمت بأرواح شعوبها ومقدراتهم وحقوقهم وأصواتهم, وحكمتهم بالحديد والنار, ومن يأبى منهم فسيكون البديل هو : داعش!
*ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر- باحث مهتم بالأيديولوجيات السياسية المعاصرة.
https://telegram.me/buratha