لابد أن يعرف الجميع أن فتوى الجهاد , التي أصدرتها المرجعية العليا في 14/6 من العام الماضي , ليست ذي بــُعد عسكرياً وامنياً فقط , لصد هجوم عصابات داعش , التي كانت موجه لإسقاط حكومة بغداد , بذريعة الدفاع عن حقوق السنة , وإنما هناك أهداف إستراتيجية مدروسة ومرسومة بشكل متقن , وضعتها الدوائر السياسية العالمية والإقليمية , ليس للسيطرة على الوضع السياسي في العراق فحسب , وإنما المنطقة عامة.
حيث أن فتوى الإمام السيستاني أثبتت الحنكة السياسية للمرجعية الدينية , وقراءاتها الدقيقة للإحداث , واستشرافها للمستقبل لما تمتلكه من بـُـعد نظر , وأن الأبعاد السياسية لها تكون على الأصعدة العالمية والإقليمية والوطنية والشيعية , إذ كانت دول الاستكبار العالمي تخطط لحسم الصراع الأمريكي - الأوربي مع المعسكر الشرقي بحليته الجديدة (روسيا , الصين , إيران) , والحد من توسع القوى الشيعية في المنطقة , بعد فشل الغرب بإسقاط النظام السوري , كذلك إرجاع عميلها القديم (البعث) لحكم العراق , ولكن بوجوه جديدة , لذلك تفاجئ مهندسي تلك الدوائر , بالقوة الكامنة للمرجعية العليا في النجف الاشرف , ومدى نفوذها , وتأثيرها الجماهيري , كونها صاحبة القرار المصيري , ليس داخل الإطار الشيعي , وإنما تأثيرها على الوضع الدولي , وقد أصبح القرار المرجعي بقوة قرار ولاية الفقيه , إذ لم نقل تجاوز ذلك , وهذا دليل على فشل تقييم تلك الدوائر لحالة اللامبالاة التي إصابة الشارع العراقي , لما يصدر من توجيهات للمرجعية الدينية في خطب الجمعة , لاسيما ما كان منها قبل 12/6.
فيما قوضت الفتوى المرجعية العليا , المساعي الإقليمية الرامية لدعم وتقوية صنيعتها من الشخصيات السياسية والدينية والجماعات المنحرفة بتوسيع مساحاتها داخل العراق , وتنشيط عملاءها مما يسمى بالمرجعيات العربية , لزعزعة ثقة الشارع , وخلق جيوب للفتنة المذهبية والطائفية , وكشفت الفتوى الارتباط بين تلك الدوائر وجيوبها , وبروز محاولات بعضها لإفشال الفتوى أو سرقة جهدها أو التقليل من شأنها , بينما على الصعيد الوطني , وضعت الفتوى حداً للفوضى السياسية , التي رافقت الحكومة السابقة , وتردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية , بسبب مسلسل الأزمات المتكررة في نهاية كل عام , فتارة أزمة عربية – كردية , وأخرى شيعية – سنية , وخلافات مستمرة شيعية – شيعية , وأيضا الانسحابات الحكومية والاستهداف السياسي , فأصبحت الفتوى بمثابة الضربة القاصمة التي تحقق على أثرها التـغيير , ليس في التشكيلة الحكومية التي حظيت بالقبول الوطني والدولي , وإنما في تغيير السياسات والآليات التي كانت متبعة , نتيجة القرارات الارتجالية كعقد الاتفاقيات الغامضة , والصفقات المشبوه , على حساب المصلحة العليا للبلد والثوابت التي تأسس عليها (عراق ما بعد صدام) , حيث اختفت تلك التراجيديات , ألا أن ماكينات الإعلام لم تتوقف , باعتباره منهج قديم مستمر بأساليب جديدة , وان الفتوى وضع العربة على السكة , وما على الساسة ألا المضي بالطريق الصحيح.
أما على الصعيد الشيعي , فقد أثبتت الفتوى أن المرجعية الدينية , هي الجهة القادرة والمتمكنة فعلاً من الدفاع عن المذهب والوطن , والمطالبة بحقوق أبناءه على حد سواء , ولا يمكن لأحد المزايدة على مواقفها وجهودها المباركة , من خلال الشعارات وتظليل الحقائق , وان دخول داعش للموصل , كشف من هم المدافعين عن الوطن ؟ والمضحين من اجله بأغلى ما يملكون , وبين من يتسترون بالوطنية , وهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وحقوقهم , فكانت سرايا الحشد الشعبي القوة الوطنية المدافعة بجدارة عن الوطن والمقدسات , بعد انهيار المنظومة العسكرية والأمنية , والتي لم تستطيع الوقوف بوجه الإرهاب بسبب تفشي الفساد , ووصول الضباط البعثيين لمواقع القيادة , ولكن بعد الانتصارات المتلاحقة لمجاهدي الحشد الشعبي , بات من الضروري تقنيين تلك القوة الوطنية الدفاعية , تحت عنوان موحد وهو (الحرس الوطني) , وتقييدها بعدد من التوصيات التي أصدرتها المرجعية العليا , وتعتبر لائحة (المقاتل المثالي) لذا أصبح أي تحرك أو خلق لفوضى خارج الإطار القانوني , يعني خروج عن طاعة المرجعية العليا , ليس سياسياً كما حصل سابقاً , وإنما يعتبر تمرد وانحراف عن المسارات المرسومة , وتجاوز على هيبة القرار المرجعي , وسفك للدم العراقي , والعودة لتغليب المصالح الفئوية والحزبية على مصلحة المذهب والوطن.
ويظهر مما سبق , أن حكمة السيد السيستاني وحلمه , واطلاعه التفصيلي على الإحداث السياسية , والتحرك الدولي والوطني , جعلته يتخذ القرار المناسب بالوقت المناسب , فربما كانت فتواه عام 2005 بما يخص الانتخابات (صوتك من ذهب) , قد أعطت دافع كبير للمشاركة العامة بالانتخابات , ولم تأتي بعدها قضية أهم من انهار وشيك للعراق على يد الإرهاب , فكان صوت المرجعية الدينية يعلو على جميع الأصوات , التي أسست للخروج على طاعتها , وساهمت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لما وصل إليه الحال بالعراق , ولم تضع العلاجات اللازمة والضرورية لتفادي ما حصل , بسبب عدم التزام أصحاب القرار فيها لتوجيهات المرجعية العليا , فكانت فتوى الجهاد تمثل النتيجة العملية التي أثبتت قوة المرجعية الدينية , وجعلتها محل اهتمام جميع الدوائر السياسية العالمية.
https://telegram.me/buratha