الحق المهتضم
من نافلة القول أن مهمة التبليغ هي مهمة الأنبياء ع و المصلحين على مدى التأريخ .و هذا ما أكده القرآن الكريم في الكثير من الآيات المباركة . ولم يكن زمان يخلو من حجةقُلْ فَلِلّهِ الحُجّةُ البالِغَةُ ) الأنعام:149 (سُئل الإمام جعفر الصادق ع عن معنى هذه الآية المباركة ، فقال :) إنّ الله تعالى يقول للعبد يومَ القيامة : عبدي ، أكنتَ عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له :أفَلا عَمِلتَ بما عَلِمت ! وإن قال : كنتُ جاهلاً ، قال له :أفَلا تعلّمتَ حتّى تعمل ! فيَخصمه ، فتلك الحجّةُ البالغة (أمالي الشيخ الطوسيّ:22 / ح 10 ـ من الفصل الأوّل ).وعن سدير أنّه سأل الإمامَ الباقر ع فقال له : جُعِلت فداك ، ما أنتم ؟فأجابه ع قائلاً : نحن خُزّانُ علمِ الله ، ونحن تراجمة وحي الله ، ونحن الحُجّةً البالغة على مَن دونَ السماء ومَن فوقَ الأرض ( ــ تفسير نور الثقلين 776:1 / ح 333 .قال الإمام زين العابدين ع : أما حّق رعيتّك بالعلم ، فأن تعلم أن الله عز وّجل إنما جعلك قيّماً لهم فيما آتاك الله من العلم ، و فتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم الناس و لم تخرق بهم و لم تضجر عليهم ، زادك الله من فضله و إن أنت منعت الناس علمك و خرقت بهم عند طلبهم العلم كان حّـقاً على الله عزّ وّجل أن يسلبك العلم و بهاءه ، و يسقط من القلوب محّـلك .و أروع ما أشار إليه أمير المؤمنين ع و كله رائع قال : فسلوني قبل أن تفقدوني .فقام إليه رجل من أقصي المجلس فقال :يا أمير المؤمنين دلني على عمل ينجيني الله به من النار ، ويدخلني الجنة !قال : ( إسمع ، ثم إفهم ، ثم إستيقن ، قامت الدنيا بثلاث : بعالم ناطق مستعمل لعلمه ، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين الله ، وبفقير صابر.فإذا كتم العالم علمه ، وبخل الغني بماله ، ولم يصبر الفقير على فقره ، فعندها الويل و الثبور ، وكادت الأرض أن ترجع إلى الكفر بعد الإيمان ) .لقد كانت الأمة في حياة الرسول (ص) والأئمة من بعده تأخذ أحكامها الشرعية وتعاليمها الإسلامية مباشرة من المعصوم ولم تكن هناك حركة علمية أو اجتهادية كبيرة بالشكل الذي حصل في عصور الغيبة للإمام المهدي (ع) ، حيث أصبح على العلماء أن يُعملوا الفكر ويجتهدوا ويعتمدوا على أنفسهم في استخراج واستنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة ، مما أثرى الحياة الفكرية والعلمية في الأمة وأبرز الطاقات الكامنة فيها . و لئلا تقع الامة في حواضن شياطين الجّن و الإنس و بقاعدة اللطف الإلهي قيّض لها علماء ينوبون عن أئمة الهدى ع و يصبحوا الإمتداد الطبيعي لهم . و قد أشارت روايات أهل البيت ع الى ذلك ، و رسمت الخطوط العريضة لمن ينوب عنهم ، و ذكرت مواصفاتهم التي تؤهلهم للنيابة العامة عنهم ع . و لنقف مع رواية واحدة من عشرات الروايات التي تشير الى تولي علماء الامة مهمة توعية الامة و الذّب عن الدين الحنيف ، و ما يلصق به الأعداء من شبه و إفك وما يريدون به أن يبعدوا الامة عن نهج الإسلام الصحيح . و لنقرأ معا ً نصاً نورانياً من درر عترة الرسول الأكرم ص وهو الإمام علي بن محمد الهادي (ع) قال : ( لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه و الذابين عن دينه بحجج الله ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب ، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها ، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجلالإحتجاج ج 1 ص 10 ، المحّجة البيضاء ج 1 ص 32 ، حلية الأبرار ج 2 ص 455.و لا تجد هذا الإمتداد الذي يتصل بالرسول الأكرم ص عن طريق عترته الطاهرة ع في غير مذهب أهل البيت ع . و أضع رواية في منتهى الدقة عن باقر علوم أهل البيت ع حيث يقول :قال الباقر (ع) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة :( شـرّقا وغــرّبا ، لن تجدا صحيحا إلا شيئا يخرج من عندنا أهل البيت ) .و عليه فإن الإرض و العباد لا يتركان من غير حجة بالغة .و لذلك أشار الإمام الصادق ع الى تلميذه هشام بن الحكم بقوله ع :( يا هشام !.. إنّ لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة : فأمّا الظاهرة فالرسول والأنبياء و الائمة ، وأمّا الباطنة فالعقول ) .بعد هذه المقدمة المفعمة بدرر أهل البيت الأطهار ع أدخل الى العالم العامل شهيدنا المترجم له ، والذي كان مصداقا ً لقول سيد البلغاء و الموحدين أمير المؤمنين ع حيث يقول :( قوام الدين بأربعة : بعالم ناطق مستعمل له .. وبغني لا يبخل بفضله على أهل دين الله .. وبفقير لا يبيع آخرته بدنياه .. وبجاهل لا يتكبر عن طلب العلم. فإذا كتم العالم علمه ، وبخل الغني بماله ، وباع الفقير آخرته بدنياه ، واستكبر الجاهل عن طلب العلم ، رجعت الدنيا إلى ورائها القهقرى .. فلا تغرنّكم كثرة المساجد وأجساد قوم مختلفة ) .وبما أنه ( قده ) كان من أقرب المقربين الى المرجعين الراحلين الإمام الحكيم و الخوئي ( قده ) ، و محط ثقتهما فكانت له علاقات واسعة في الوسط الإجتماعي و موضع ثقته لذلك بدأ نشاطه يقوى و هو ما يصبو إليه في سبيل الدعوة و إرسال المبلغين و الذي لم يقتصر في ناحية القاسم ع و ما جاورها. و لنبدأ بأمكان التبليغ و التوعية الدينية و من قام بهذه المهمة من طلبة الحوزة العلمية في ناحية القاسم ع .ففي ناحية القاسم ع كان الشهيد يتواجد فيها أيام الأربعاء و الخميس الى ما بعد صلاة العشائين مساء الجمعة .يلقي دروسه على طلاب الحوزة و يقيم صلاة الجماعة في الصحن الشريف للقاسم ع . وينوب عنه في صلاة الجماعة بقية أيام الإسبوع .1 ــ سماحة المغفور له السيد شامل المدني . المعروف بورعه و إلتفاف المجتمع حوله لأخلاقه و أدبه الرفيع . و كان السيد شامل ( ره ) يذهب للتبليغ في أوقات متفاوتة في ناحية ( الحيدرية ــ بين النجف و كربلاء ) و هي مسقط رأسه . و بعد إعتقال الشهيد السيد الجلالي كان السيد شامل تحت المراقبة الشديدة ، حتى وصل الأمر أن أحد ( الرفاق المجرمين ) إستدعى السيد شامل الى مركز ناحية القاسم ع ليلاً. و أبلغه بأن يذهب بــ ( قاطع الجيش الشعبي ) فقال له السيد : إنني رجل دين في المنطقة ولا يوجد من يحّـل محّلي . فتجاوز الرفيق المجرم عليه بكلمات غير لائقة و هــّـدده الى يوم غد . فخرج السيد ( ره ) و إنحدرت دمعة من عينه من قلب ٍ و دعوة صادقة . فكان الله تعالى لهذا الرفيق بالمرصاد فبمجرد أن خرج السيد من مركز الناحية و ذهب الرفيق الى قضاء الهاشمية بإتجاه الذاهب الى محافظة بابل، فإصطدمت سيارة الرفيق اللعين بشاحنة كبيرة و إعتلت سيارة الرفيق بحيث إلتصق جسد الرفيق القذر مع حديد السيارة . و ذهب الى جهنم و بئس المصير مع رفاق دربه الذي سبقوه في هلاكه من عفلق و زبانيته الأرجاس الأنجاس . و هذه القصة مشهورة في ناحية القاسم ع .و بعد فترة و جيزة اصيب السيد شامل بعينه فراجع المستشفى فاجريت له عملية جراحية و لكنه توفي بعد قليل من إجراء العملية ، و إنتشر الخبر بأن ( نسبة التخدير ) كانت عالية مما تسببت بوفاته ، ولكن الذي عرف أن السيد ( ره ) تعرض للسّــم كما هو حال نظام الطاغية مع رجال الدين . و هنا بدأ الغليان الشعبي في الناحية لأن السيد و كما أسلفنا كان له مكانة خاصة خصوصاً لدى الشباب الذين يرون فيه الممثل الشرعي لمرجعية الإمام السيستاني ( مد ظله ) و خلف الشهيد السعيد السيد الجلالي ( قده) . فأصبح تشييع النعش الطاهر تظاهرة عارمة هـّـبت الناحية بقضّها و قضيضها في تشييعه حتى أوصلوا النعش الى حدود الناحية حاملين نعشه على الرؤس بأهازيج حماسية . و ما أن وصلوا النجف الأشرف حتى علت هتافات المشيعين و أغلبهم من الشباب مرددين :( ياعلي إتلگه حفيدك يا علي )فكان أن دخل أمن محافظة النجف بالإنذار و إعتقلوا الكثير من الشباب ، بعدها اغلقوا الحضرة العلوية الشريفة و لم يسمحوا إلا ّ بعدد قليل من المشيعين . و كان يوماً مشهوداً له . حتى أن شهيد المحراب ( قده ) ذكر هذه الإنتفاضة في مجلسه الإسبوعي الذي كان يعقده كل ليلة أربعاء في قم المقدسة .و لنعود الى المناطق المحيطة بالناحية المقدسة التي يكون فيها المُــّـبلغ ( طالب الحوزة ) من نفس المنطقة ليكون أقرب للنفوس و معرفته بطبيعة التعامل مع أهله و أقاربه . 2ــ ( ناحية السـنية ) وهي بإتجاه محافظة القادسية للذاهب إليها من ناحية القاسم ع .تصدى للتبليغ فيها كل من السيد محمد بدر، و السيد حسين ( هرب الى ايران و قتل على الحدود ) ، و السيد عدنان ( توفى ) ، السيد باقر السيد حسن ( اعدم ) ، و السيد إسماعيل ، السيد محمد بن السيد حسن ( اعدم ) ، السيد فاضل السيد حسن ( اعدم ) ، السيد كريم بن سيد شاكر إبن عم سيد باقر ( اعدم ) ، سيد مهدي اخو سيد حسين ( اعدم ) ، سيد حسّين السيد علي ( اعدم ) ، السيد حسن اخو سيد حسين سجن 7 سنوات و خرج . وهم من السادة الموسوية من أبناء المنطقة و الذين يعرفون بإسم السادة ( العجـام ) . و قد دفع هؤلاء السادة الأفاضل ثمن عقيدتهم إذ إعتقل نظام الطاغية هذه الثلة من طلبة الحوزة ومعهم الكثير من أبناء منطقتهم و لم تسّـلم أغلب أجسادهم الطاهرة .و لم يسلم منهم سوى السيد محمد السيد بدر الذي إعتقل في أبي غريب لأكثر من ( 11 سنة ) مع عائلة آل الحكيم و على رأسهم ( المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم ـ دام ظله ) ذاق فيها صنوف التعذيب ،.مضافاً الى حجز أموالهم المنقولة و غير المنقولة و كان أغلبهم من الأثرياء الذين كانوا يدفعون حقوقهم الشرعية بآلاف الدنانير العراقية للشهيد السعيد ، فأصبحوا في حال يرثى لها بعد إعتقال أبنائهم . حتى إضّـطر أشراف السادة من آبائهم الى البحث عن الحقوق الشرعية لسّد حاجاتهم مع عوائل المعتقلين لأن النظام لم يبق لهم شيئا ً من الأراضي الزراعية و دور السكن و أي مورد ، مضافاً الى تهجيرهم من مناطق سكناهم و تشديد الرقابة الأمنية عليهم . و قبل سقوط الرجس صدام اطلق سراح السيد محمد بدر من السجن و لكنه بقي تحت المراقبة و لم يتركه النظام من الإستدعاء للتحقيق و التهديد . و تنفست عوائل السادة الصعداء خاضعين لإرادة الله و إبتلائه و إمتحانه بفقد أبناء و فلذات أكبادهم . و كما ألقيت الضوء بنزر يسير من معاناة أولاد رسول الله ص في زمن النظام . لكن بدأت سحب المحنة و العذاب النفسي تلقي بظلالها على من بقي منهم . فكان من أمرهم أن عاشت أكثر من ثلاث عوائل مع أبنائهم في غرفة واحدة . و ليسمح لي السادة بأن أذكر مآسيهم ( و لا أراني أذيع سّـراً ) حيث أن ( 13 علوية ) لهن عباءة واحدة . و هنا ذكرت هارون اللا رشيد الذي اسموا عصره بعصر النور، و الذي وصل الأمر الى كاتب زنيم يدعى ( حسن عبد الغفار ) ليكتب كتابا ً تحت عنوان ( هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه ) ( 1 ) و كذلك كتب آخرون من وعاظ السلاطين ممن باعوا دينهم بثمن بخس كتاباً عنوانه : هارون الرشيد الخليفة المظلوم من تأليف احمد القطان + محمد طاهر الدين .هارون ( الذي لازالت ساحات بغداد و شوارعها تحمل رجس إسم هذا الطاغية و أسماء طغاة بني العباسـ لعنهم الله و لعن من والاهم ــ حفظاً للسلامة و المصالحة الوطنية ) حيث كن العلويات من نساء أهل البيت ع كل عشرة نساء بعباءة واحدة . و الأنكى للجرح أن أحدهم كان في المعتقل الى جانب السيد حسين الشهرستاني لما يقرب من اربع سنوات . و أخيراً تفضل عليه بعض المحسنين بأن عيّنـه حارساً ليلا ً براتب كان وقتها زهيدا.و عندما سمعت بهذا كتبت :و الى هنا و ختاماً بهذه المأساة التي هي واحدة من ملايين مآسي شعبٍ مذبوح تصّورأنه فارق الذل و المسكنة ليعيش حياة هائنة يعّوضه بها قادته الأفذاذ من ساسة البلاد الخيرين و لكن لا حياة ( حياء ) لمن تنادي .و الى تكملة حلقة المبلغين ألتقي سادتي القراء الأكارم بعونه تعالى .ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ( 1 ) نبذة من مقدمة كتاب اللقيط حسن عبد الغفار ــ ( هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه ) : كان رجل دولة عظيمة يواجه قوى غاشمه , ويحمل رسالة طاهرة , ووصلت الدولة الإسلامية في عهده إلى أزهى في العوة و نشر الدين و فتح الأمصار و الإعمار و الثراء و استتباب الأمن و السلام الاجتماعي , وأخضع الزنادقة و الخارجين , لذا فقد وجدت نفسي مدفوعا للكتابة عن هذه الشخصية من منطق الغيرة على الإسلام و أعلامه , و محاولة التصدي لهذه الافتراءات , ولم يكن شغفي بالكتابة عن هارون الرشيد هو الدافع الوحيد , ولكن حال الأمة الإسلامية التي فقدت الانتماء , أو لنقول أنه توارى وانزوى خلف الحاجات الملحة , ومسالك الغربة التي فرضت عليها , وركن معظمهم إلى التواكل والاعتماد على الغير , واكتفوا بأداء المشاعر من الصلاة وصيام وحج , وتركوا كيان الأمة تزلزله النكبات و تصعقه الملمات وقد تداعت عليه الأكلة . وفي هذا الكتاب لا نسعى لأن نجتر التاريخ ونفخر بالماضي التليد ونبكي على الأمجاد الضائعة , ولكن نسعى لنبعث من جديد روح الانتماء للأمة الإسلامية لتصبح حالة عامة تتغلغل في وجدان كل مسلم .
https://telegram.me/buratha