سماحة السيد حسين الصدر
جاء في معجم البحرين للطريحي ص57 الإمّعة (بكسر الهمزة والتشديد في الميم):هو الذي لا رأي له ، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه، والهاء للمبالغة. ورجل امَّع وامَّعه : ضعيف الرأي والملاحظ ان هناك طبقة من أشباه الرجال، يميلون مع القويّ حيثما ما مال، ويوافقونه على كل حال.وكأنّ الشاعر عناهم بقوله :
أخالفُ وضع الراحتين على الحشا وأنظرُ أنّى مِلْتِمُ فأميلُ
وتتجّلى هذه الظاهرة عند الانتهازيين الطامعين بالحظوه عند الحكّام، فانهم يتحولون الى " طين " يعجنه السلطويون كما يريدون، وليس للأمعات ازاء رغبات اولئك الحكّام رأي مخالف ،أو أي لون من ألوان الاعتراض.انّ في المتابعة المطلقة لذوي السلطان والجاه والنفوذ - حتى مع الاحساس بخطئهم ومجانبتهم للصواب - طمعاً في كسب رضاهم، انحطاطاً كبيراً، ومداهنةً ممجوجة، وانحداراً الى سفوح الجبن والميوعة، والرضا بتقمص الشخصية الهزيلة الهشة، التي تفقد كل ملامح الأصالة والتألق....مضافاً الى انها الخيانة الصريحة ، لكل مقتضيات الأمانة بالإصحار بالرأي، وبيان الرؤية الصائبة، في ما يعُرض من موضوعات، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة الشخصية.ان هؤلاء المتذبذبين، يفقدون احترام الناس في الدنيا ويبؤون بالإثم في الآخرة، وهم في المحصلة النهائية لا يحصدون الا الخسران المبين.الحكّام يبحثون عن الامعات، لأنهم لايريدون ان يكون لغيرهم رأي في قراراتهم.ومن هنا تجد " النطيحة " و " المتردية " في مكاتبهم ، وبالمقابل يلقي الخبراء والأكفاء ، المعتزون بانفسهم وآرائهم منهم كل جفاء واهمال .!!لقد شاع ان المرغوب فيه، من قبل المقامات العليا هو (mr yes ) - المستر يَسْ - أي ان المطلوب هو الامّعة تحديداً ، ليمرر ما يراد منه تمريرُه دون أية ممانعة أو تردد.
قصة ذات مغزى كان أحد اعلام الفقهاء في النجف الأشرف يُلقي بحوثه العالية على ثلة من العلماء الأفاضل - وهم من جنسيات مختلفة - وكان أحدهم حادّ الذهن ،وحادّ المزاج، وكان تركياً، فبمجرد ان يبدأ الشيخ الاستاذ محاضرته، يبدأ هذا التلميذ التركي ، بتوجيه الاعتراضات على أستاذه. كان الاستاذ، في غمرة تلك المعركة العلمية، يجيب على تلك الاعتراضات لكنْ بحماس ٍ وانفعال، وقد يعلو صوتُه فوق الحدود المتعارفة، وهكذا يستمر السجال الساخن حتى ينتهي الوقت المخصص للبحث.ونتيجة تكرار هذه الحالة تململ حُضّارُ البحث، ورأوا أنَّ الدرس قد تحوّل الى سجال بين الاستاذ وزميلهم التركي، الأمر الذي يحرمهم من بركات كثيرة، فما كان من استاذهم الا ان صارحهم قائلاً:انه في الواقع لا يستاء من اعتراضات زميلهم، بل قد يأنس بها كثيراً، لأنها تدفعه الى التفكير العميق لاستنباط الردود المناسبة على الاعتراضات، ما يشحذ الذهن، ويعمق القدرة على حّل المشكلات العلمية..
أقول :ان المسألة ليست مقصورةً على الحقل العلمي فحسب ، بل انها تمتد لتشمل كل الحقول والمجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .وان تعدد الآراء ، ما يُثري ويقود في النهاية ، الى اختيار الأصوب والأصلح .ان القدرة على إبداء الآراء ومناقشة الآخرين لا يقوى عليها ، الا اولئك الاكفاء المتمرسون ، من أصحاب الخبرة والتجربة والاختصاص، وقليل ما هم ، في العراق الجديد، بعد أن فتكت المحاصصات والمعادلات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بالمعايير الموضوعية والاخلاقية.انّ تسييس القضايا الفنية والعلمية والادارية، مسلك خطير وخيم العواقب ولا تنهض الدول الا على ضوء ما يتم الاعتماد عليه من معايير حضارية وموضوعية.ان مسألة حذف الأصفار من العملة العراقية مثلاً أصبحت مثاراً ومداراً لاختلاف الآراء بين الخبراء والاقتصاديين ولم تحسم حتى الآن، وأنما اعطيت المسألة هذه الفسحة لأنها لا تمس بشكّل مباشر مصالح معظم الكتل السياسية النافذة، بينما يستبد كل فريق سياسي برأيه في أخطر القضايا السياسية التي تواجه البلاد.ومن هذه المسائل الخطيرة مسألة الأقاليم والفيدرالية ، التي يصر عليها اليوم ، من كان ينكرها بالأمس بشدّة!.ان مطالبة الكثير من أعضاء مجلس النواب باعتماد التصويت الألكتروني انما جاءت بعد محاولات محمومة من كتلهم لابقاء التصويت باليد وكأنَّ المطلوب انْ يكون المصوتون من (الامّعات)!. وأرى من المفيد أن أنقل في ختام المقالة ، الحكاية التي نقلها الاستاذ سليمان فيضي في مذكراته ص 64 عن مدحت باشا فقد قال:" ان مدحت باشا حين قدم بغداد واليا، جمع مجلس الادارة، واقترح على أعضائه ان يكتبوا الى الباب العالي استئذانا بزيادة الضرائب للقيام ببعض الاصلاحات، فوافقوه على اقتراحه، وكتبوا المحضر وختموه بأختامهم.وبعد أيام عاد المجلس الى الاجتماع ، فاذا بمدحت باشا يقول :انه وجد الضرائب الحالية ثقيلة على أبناء الشعب.وانه ليس من الانصاف ارهاقهم بضرائب جديدة.واقترح ان يكتبوا قراراً آخر، يبيّنون فيه للباب العالي، تسرعهم في اصدار قرارهم الأول، فوافقوه على اقتراحه ، وختموا المحضر.وهنا أخرج مدحت من جيبه القرار الأول الذي تعمّد عدم ارساله لعلمه باجحافه.ومزّق القراريْن أمام الحاضرين!.ان تمزيق القراريْن أمام الموقعين عليهما، إنما هو الصفعة التي وجهّها مدحت باشا للأمعات.وهكذا يتدحرج الامعات - عبر مسار الزمن، وما تتضمنه من تحولات - الى السفوح ....، سفوح الذل والصَغار .....ولا بُدَّ ان تكون مصلحة الوطن ، عند أبنائه جميعاً، وفي مختلف المواقع، أكبر من أية مصلحة أخرى.وهكذا يجب ان تنطلق الآراء، بكل صدق وحرارة وصفاء ، لتعّبر عن الحرص والشعور العالي بالمسؤولية إزاء هذه المصلحة الوطنية.
https://telegram.me/buratha