من اعداد الشيخ حيدر الربيعاوي وتاليف الدكتور الشيخ عباس الانصاري ومن اصدارات المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية النجف الاشرف
مرحلة الأصلاح والعمران في عهد المنتصر:إستلم المنتصر العباسي زمام الأمور في الدولة العباسية عام (247) هـ، وإرتقى منصة الحكومة بعد هلاك أبيه المتوكل بعد عمر قضاه بسياسة الأرهاب والقسوة على آل محمّد (صلوات الله عليهم) وشيعتهم.أما أبنه المنتصر فقد قلع جذور سياسة أبيه من أصلها، وفعل كما فعل المأمون، بل استعاد من تجربية السياسية، فأتبع اسلوب المأمون بالتغيير بالنسبة لأبيه هارون الرشيد.فاطلق العنان للشيعة في ممارسة شعائرهم الدينية، وأتاحه لهم الفرصة في زيارة الحسين (عليه السلام) والاضرحة المقدسة الأخرى، وأعاد أموال العلويين التي كانت قد صادرها المتوكل ظلماً وعدواناً، وتعاطف مع آل أبي طالب (سلام الله عليهم) كثيراً، ففتح عنهم الخناق الذي ضق عليهم بشكلٍ كبير مِنْ قِبل سابقه في الحكم ـ أبيه المتوكل ـ كما يروي ذلك المؤرخون.فقد رو المسعودي في مروجه، قائلاً:«تقدّم ـ يعني المنتصر ـ بالكفّ عن آل أبي طالب وترك البحث عن أخبارهم، وأنْ لايمنع أحد زيارة الحيرة وقبر الحسين (رضي الله عنه) ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم».أما بالنسبة للاضرحة المقدسة للائمة الاطهار من آل محمد (صلوات الله عليهم)، فقد أولاها إهتماماً خاصاً، فبدأ بحملته العمرانية والاصلاحية لجميع الأضرحة الطاهرة التي كان قد خربها المتوكّل، كحرم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحرم سيد الشهداء الحسين بن علي ‘.وقد أفرد لمرقد الامام الحسين (عليه السلام) جهداً خاصاً، وبنى عليه بنياناً عالياً يحتوي على منارة شاهقة لكي يهتدي اليه الناس، وكثيراً ما شجع على زيارة الحسين (صلوات الله عليه)، ليكسب ودّ الشعب ولكي تهدأ له الأوضاع السياسية والاجتماعية، كما أسلفنا في ذكر سياسة من كان قبله في سياسته مع الشعب، نعم هذا هو ديدن بني العباس، فواحد يظهر العداوة والبعض لآل محمد، فيفشل ويسخط الله تعالى عليه، وآخر يتظاهر بالمودة الفارغة المحتوى لهم طلباً للسلطان، وسرعان ما ينتهي به الأمر وينكشف خبره.لكن ما الذي حصل بعد هذا العمران والاصلاح والبناء الشاهق..!!بعد مرور فترة من السنين على عمارة الحائر الحسيني على يد المنتصر، سقطت سفيقته، وكان وقت سقوطها( ).. في عهد المعتمد الذي بويع له بالخلافة (المزعومة) سنة 256 هجرية، والذي كان منهمكاً على اللهو واللذات، فاشتغل عن الرعية فكرهته الناس، وفي آخر أيامه مات أخيه الموفق، ثم أختلفت عليه الرعية فقتلوه... فمات سنة 279 هجرية( ).
المرحلة الرابعة: مرحلة إصلاحات الداعي الصغيربعد سقوط عمارة المنتصر عام 283 هـ ، قام بتجديدها محمد بن زيد بن الحسن بن محمد بن اسماعيل جالب الحجارة بن الحسن دفين الحاجر بن زيد بن الجواد بن الحسن بن السبط بن علي بن أبي طالب، الملقب بـ (الداعي الصغير)، وقد ملك طبرستان بَعْدَ أخيه الحسن الملقب بالداعي الكبير مدة عشرين سنة( ).وقد قام بتشييد البناء للمشهدين الغروي والحائري، وقد ذكر محمد بن أبي طالب بعد إعادة تعمير القبر في عهد المنتصر بالله فقال:«الى أن خرج الداعيان الحسن ومحمد إبنا زيد بن الحسن، فأمر محمد بعمارة المشهدين، مشهد أمير المؤمنين ومشهد أبي عبدالله الحسين، وأمر بالبناء عليهما».وقد شيّد (الداعي العلوي) قبة على القبر، لها بابان وبنى وأحاطها بسور، وكان ذلك سنة 280 هـ ، وقد بالغ محمد بن زيد في فخامة البناء، وحسّن الزيارة، ودق الصنعة في عمارة الحائر بما يتناسب ومنزلته.
المرحلة الخامسة: مرحلة العمران في عهد البويهيينعندما إستلم السلطة في العراق السلطان عضد فنا خسرو بن الحسن بن بويه الملقب بـ «عضد الدولة»( ) أهتم بتعمير العتبات المقدسة، وخصوصاً المشهدين الشريفين ـ أمير المؤمنين علي والحسين ‘ ـ اهتماماً واضحاً بلغت الانتباه، وإنْ توالت عليها عمارات متعددة ومختلفة، ولم يقتصر على هذا فقط؛ بل كان يكثر من زيارتهما، كما يذكر المؤرخون.فقد ذكر في تراث كربلاء:«في سنة 371 هـ شيّد عضد الدولة البويهي قبة ذات أروقة، وضريحاً من العاج، وعمّر حولها بيوتاً، وأحاط المدينة بسورٍ»( ).وذكر ابن الأثير: واصفاً لاعماله العمرانيّة والاصلاحيّة، فقال:«ولاننكر أعماله العظيمة ومآثره الاسلامية الجليلة، فقد بالغ في تشييد الأبنية حول المشهد في الحائر، فجدد تعمير القبة، وشيّد الأروقة من حوله، وبالغ في تزيينها وتزيين الضريح بالساج والديباج، وعمّر البيوت والأسواق من حول الحائر، وعصم مدينة كربلاء بالأسوار العالية فجعلها، كحصن منيع».لهذا كان يشهد له المؤرخون، بأنه أصبح سبباً في تقدم كربلاء وأزدهارها وشموخها في معالمها الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية.. الى غير ذلك مما يخص حركة هذه المدينة المقدّسة.وبقيت عمارة السلطان البويهي حتى سنة (407) هجرية، ثم إنهارت على أثر حريق حصل داخل الروضة المطهرة للحائر الحسيني( ) الشريف، وقد حصلت بعد هذا الحادث المذهل فتن ونزاعات كثيرة.فلما كثرت أعمال الفتن( ) واختل الأمن أسند منصب الوزارة الى رجلٍ قدير من ذوي الخبرة والمقدرة السياسية ألاّ وهو ابن سهلان الرامهرمزي، الذي حاول جاهداً في تهدئة الأوضاع، وإعادة الأمن، وإرجاع الطمأنينة والسكينة الى النفوس، ونكان ابن سهلان وزير السلطان البويهي... وهو الذي بنى سور الحائر بمشهد الحسين( ).* * *
المرحلة السادسة: مرحلة العمران والاصلاح في عهد السلاجقةبعد سقوط الدولة البويهية وإنقراض آثارها في العراق تسلم السلطة السلاجقة سنة 749 هجرية، وكانوا قد أبدوا إهتماماً ملفتاً للنظر بالعتبات والأضرحة المقدسة في أنحاء العراق، فقد بادر ملوكهم لزيارة العتبات والمراقد الطاهرة في مدينتي النجف وكربلاء، كما يذكر المؤرخون ذلك.قال ابن الجوزي في منتظمة:«وكان على رأسهم السلطان ملك شاه الذي زار الحائر في سنة 749 هـ مع وزيره نظام الملك، فأمر بتعمير سور الحائر»( ).حيث كان لهذه الزيارة مِن قبل سلطان اللاجقة أثر كبير في نفوس الناس، وكذلك تعتبر ضوءاً أخضراً في فسح المجال لهم بزيارة الحسين(عليه السلام)، فأخذت تتوافد عليه قوافل الزوّار من كل مِصر في عصر.الأمر الذي دعى الشيعة الى إظهار ولائهم لامامهم (عليه السلام)، وتلهفهم لزيارته باعداد هائلة لاتحصى، فظهر التشيّع بضوء ساطع غلب على جميع الناس، فأزال الظلمة، بل كشفها، برز بصورةٍ واسعة الأبعاد،لهذا سجل ابن الجوزي في حوادثه التأريخية هذه الحادثة الخالدة، فقال:«وفي سنة 529 هـ مضى الى زيارة علي ومشهد الحسين ‘ خلق لايحصون وظهر التشيّع»( ).لكن الذي يظهر من تعاقب الأحداث التأريخية على الحرم الحسيني المطهّر، ويراجع تصرفات الطغاة مع زوّار الامام الحسين (عليه السلام)، يجد أنّ الذي يفتح باب الزيارة على مصراعيه، كان قد سبقه من سد هذا الباب على الزائرين، بل تعامل معهم بشدة وقسوة لاتوصف، ليمنعهم من زيارة الأضرحة المقدسة لأئمتهم (عليهم السلام) ويرهبهم خوفاً مِنْ أنْ يظهر هذا المظهر الولائي.وهكذا يمكن أنْ نستفيد من التاريخ، إنّ تصرفات سلاطين السلاجقة كانت ليست أمراً طبيعياً، حين فسحوا المجال لزيارة العتبات المقدسة بشكل عام، وزيارة الامام الحسين بشكل خاص، وإنما كان ذلك لاجل كسب ودَّ الشعب والرأي العام في تأييد حكومتهم وإمضائّا، وإمتصاص لصدمات الأحداث التأريخية التي سبقتهم ـ وهذا ما نؤكد عليه مراراً ـ ، وكانت قد استحقت سخط الامة عليهم.ومن هنا نرى أنّ جميع ملوكهم بادروا لزيارة الامام الحسين (عليه السلام)، وتصرفوا مع زيارته وزوّاره كسابقهم في هذا المجال، كما سجَّل لنا ابن الجوزي ذلك، عندما ذكر كيفية توافدهم واحد تلو الآخر على زيارة العتبات المشرفة في عهده، حيث قال: «ففي سنة 553 هـ زار الخليفة المقتضي قبر الحسين، وزاره الخليفة الناصر..، والمستنصر...، والمستعصم..»( ).إنما فعلوا ذلك؛ لانهم كانوا يرون أنّ حكوماتهم لن تستقر إلا من خلال هذه السياسة؛ ليخمّدوا لهيب الثورة في ضمير الامة، لكن الشعب ليست بغافل عن هذا التعامل.* * *
المرحلة السابعة: مرحلة اصلاحات الناصربعد أن قام السلاجقة بتعمير الحرم الحسيني المطهر، ثم بادر سلطانهم لزيارة الحسين (عليه السلام)، أخذ المرقد الشريف يكتض بالزوّار، ويزهو شيئاً فشيئاً بالتعظيم من خلال أداء الشعائر الدنية فيه بمختلف أشكالها وصورها.الى أن وسَّع العمران وزير الحكومة السلجوقية ابن سهلان وبني سوراً كبيراً حول مشهد الحسين ـ كما تقدم ـ .وظلّت عمارة الحائر التي شيّدها الوزير أبن سهلان الرامهرمزي على حالها الى هذا التأريخ أي سنة (620) هـ، حيث لم يتعرض الحائر الى الهدم أو التخريب، ما عدا ما كان من أمر المسترشد بالله في سنة 526، فانه كان في حاجة للأموال لغرض صرفها على الجند، فأمتدت يده الخبيثة لسلب الحائر، فاخذ أمواله وموقوفاته؛ لينفقه على عساكره، كما ذكر صاحب المناقب حيث قال:«أخذ المسترشد من مال الحائر...، وقال: إنّ القبر لايحتاج الى الخزانة وأنفق على العسكر، فلما خرج قُتِلَ هو وابنه الراشد»( ).وبقي الحرم الشريف للحسين (عليه السلام) على هذه الحالة مِنَ العمران الذي شيّده ابن سهلان، حتى جاء الناصر( ).وفي عهده أزدهرت كربلاء والعتبات المقدسة، وأمر وزيره (مؤيد الدين محمد المقدادي العلقمي) أن يقوم بأصلاح شؤون الحائر، فقام الوزير في سنة (620 هـ) بتشييد القبر المطهر، فشيّد ذلك المقام الرفيع وكسا جدران الروضة بأخشاب الساج وزينه بالحرير( ).* * * المرحلة الثامنة: مرحلة إصلاحات الجلائريبعد أن تمَّ سقوط الدولة العباسية على يد هولاكو، أهتمَّ المغول في عهدهم بعمارة العتبات المقدسة، وبحرم الحسين (عليه آلاف التحية والسلام) بأمر سلطانهم المعروف بحبه الظاهري لآل البيت (سلام الله عليهم).جاء بعدهم السلطان الجزائري في سنة (767 هـ)( )، وبذل جهداً وسعى سعياً مشكوراً في توسعة وعمران واصلاحات شاملة للحرم الحسيني الشريف لم يسبقه به أحداً.لهذا ذكر المؤرخون أنّ العمارة الحالية لمرقد الحسين (صلوات الله عليه) هي من آثره.قال صاحب التراث:«أما عمارة القبر الموجودة حالياً فقد تمت في عهد السلطان أويس الأليخاني الجلائري، ثمّ أتمَّ بناءه بعده ولداه السلطان حسين والسلطان أحمد، وشيَّدا البهو الأمامي المعروف بإيوان الذهب.أما الرواق الغربي للروضة فقد شيّده عمران بن شاهين...، ويعرف اليوم برواق السيّد ابراهيم المجاب، ويطلق على الرواق الشرقي برواق آغا باقر البهبهاني شيخ الطائفة في عصره، وعلى قبره صندوق خشبي بديع الصنع، وفي الواجهة الأمامية للروضة رواق حبيب بن مظاهر الأسدي.أما الرواق الشمالي للروضة فيُعرف برواق الشاه نسبة الى وجود مقبرة بعض الملوك القاجاريين»( ).* * *
المرحلة التاسعة: مرحلة الأصلاحات في العهد الصفوي والقاجاريمن الاصلاحات التي حدثت في هذه المرحلة، مما يمكن أنْ نذكره على نحوين:1ـ العهد الصفويّ:ذكر المؤرّخون، إنّه لمّا استطاع اسماعيل الصفوي القضاء على الدولة التركمانية الحاكمة في العراق في سنة (914 هـ) توجه الى الاهتمام بالعتبات المقدسة بصورة عامة، والى مرقد الحسين (عليه السلام) بصورة خاصة إهتماماً بالغاً قد لايكون هناك أحداً ممن سبقه فيه.ففي تاريخ كربلاء، قال:«بعد أنْ تم فتح بغداد، ودخلها الشاه إسماعيل منتصراً في 25 جمادي الثانية سنة (914 هـ) بين هتاف الأهلين، ففزع في اليوم الثاني على طواف العتبات المقدسة، فتوجه الى كربلاء، وعند الوصول إليها أدى مراسم الزيارة بكل دقة، وراعى شروط التشرف بكل إحترام، فَقَبلَ العتبة المقدسة بخشوع وورع تام، ومرّغ خدّيه على تلك العتبة السامية، مناجياً روح سيد الشهداء عليه آلاف التحية والثناء، ومستمداً النصر من الله تعالى»( ).وذكر أيضاً:«وعند العودة الى بغداد إنصرف الشاه مرة أخرى الى تعظيم العتبات المقدسة وتجليلها، فقرر أنْ يكون لكل واحدة منها (نقارة خانة) تقوم بأداء التحية الملكية لتلك المشاهد صباحاً ومساءاً، على نمط بلاط الملوك وقصورهم، كما هو جار لحد الآن بمشده الرضا (عليه السلام)، ثمّ أمر بتجميع نحبة ممتازة من البارعين في صناعة الفسيفساء...، فأمر بصنع ستة صناديق خاتم من الفسيفساء مزيّنة بالنقوش... لمراقد الأئمة في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء»( ).وفي سنة 984 هـ مات الشاه طهماسب الصفوي مسموماً وخلفه أبنة اسماعيل...، وفي هذه الأيام صدرت الادارة الهمايونية بتعيين علي باشا والياً على بغداد، وبأمرمن السلطان شيّد ضريح سيد شباب أهل الجنّة.وقد اُمرت زوجة نادرشاه كريمة السلطان حسين الصفوي بتعمير المسجد المطهر عام (1153 هـ)، وأنفقت لذلك أموالاً طائفة( ).2ـ العهد القاجاري: تم تذهيب قبّة الحسين (عليه السلام) ثلاث مرّات، فقام السلطان محمد خان مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبة سنة (1207 هـ).أما التذهيب الثاني فقد حصل في عهد السلطان فتح علي شاه القاجاري؛ لان التذهيب كان أسوداً فكتب إليه أهالي كربلاء بذلك، فأمر الشاه بقلع الأحجار الذهبية ا لقديمة وأستبدلها بالذهب الجديد، كما أنّه أهدى شبكة فضية بتاريخ (1214 هـ) وهي الى اليوم مازالت موجودة على القبر الشريف، وفي هذا الدور تبرعت زوجته بتذهيب المأذنتين( ).* * *
* خاتمة الكلام :بعد أنْ حدثت الأحداث العدوانيّة على الحرم الحسينيّ المطهّر من قبل طغاة العصور، من حين تشييده ـ في فترات زمانيّة متواليّة أينما وجد حكّام البغي ـ الى يومنا هذا، لم يقف موالي عترة النبيّ، ومحبّي الحسين، وزوّاره، وإنّما عمدوا الى مبادرات عمرانيّة وإصلاحيّة، كلما فسحت لهم الظروف السياسيّة بذلك.وحينما يذكر التاريخ محاولات اصلاحيّة قام بها الحكّام اللاشرعيّون، فلمصالح حكوماتهم التي كان يهددها ولاء الشيعة، في الوقت الذي كانت تشهد لهم الساحة السياسيّة بالضعف، فلامجال للسيطرة على التحركات الثوريّة، إلاّ من خلال التظاهر الدينيّ، والمبادر للاعتناء بالعتبات المقدّسة.* * *
https://telegram.me/buratha