من اعداد الشيخ حيدر الربيعاوي وتاليف الدكتور الشيخ عباس الانصاري ومن اصدارات المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية النجف الاشرف
بعد إستشهاد سيّد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) تصدّت عقيلة بني هاشم السيّدة زينب بنت علي بن أبي طالب‘، لتحمل المسؤوليّة بعد أخيها الامام الحسين (عليه السلام) ظاهراً، وذلك لسببين:أحدهما: الحالة الصحيّة المتردية للإمام السجاد (عليه السلام)، لكنه ـ مع ما فيه من المرض ـ كان له الدور الأساس في إعطاء التوجيهات لزينب ÷، باعتباره الخليفة الشرعيّ والإمام المعصوم الذي استخلف أبيه الامام الحسين(عليه السلام) بعد شهادته، ولقد كان للسيدة زينب الكبرى الفضل الكبير والبصيرة النافذة في صغائر الامور وكبارها بشهادة الامام زين العابدين (عليه السلام) عندما خاطبها قائلاً:«ياعمّة!... وأنتِ بحمد ا، عالمة غير معلّمة، وفهمه غير مفهّمه...»( ).الآخر: هو الحفاظ على الامام علي بن الحسين ‘ من غدر الأعداء وكيدهم، وطلباً لسلامة حياته، من خلال إخفاء إ مامته في تلك الظروف الحرجة.عندها استطاعت السيّدة زينب (سلام الله عليها) أن تشتري بأسارتها وسبيها حياة كربلاء، بل استمرارها ودوامها رمزاً للتضحية والفداء، يتفاعل مع نفوس الموالين والأحرار، وينير درب الجهاد، ويكشف الظلمة عن حقائق الطواغيت، فيخيف حكام البغي والجور، ويرعب المنافقين على مدى العصور، رغم كيد الاعداء لتضعيفها، وإخماد حركتها السياسيّة.فوضعت الأُسس لمرقد أخيها الحسين، عندما صرحت لابن أخيها الامام علي بن الحسين (عليهم السلام) في يوم عاشوراء؛ في الوقت الذي كانت الظروف، والاعلام السياسي لبني أمية، يشير الى موت النهضة الحسينية، وإندراس آثار أصحابها الذين استشهدوا من أجلها، فقالت (سلام الله عليها) وهي تواسي ابن أخيها الامام زين العابدين (عليه السلام)، وذلك بكامل إيمانها ويقينها: «ينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لايُدرس أثره ولايُمحى رسمه، على مرور الليالي والأيام، وليجتهدون أئمة الكفر، وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلايزداد إلاّ علوّاً».المبادرة الأولى لبناء المرقد الطاهر:كان أوّل مَنْ بادر لبناء مرقد الامام الحسين (عليه السلام) هو أبنه الامام زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام)، كما ذكر ذلك أرباب التاريخ وأصحاب المقاتل، ويؤيد ذلك ما نعتقده، وقد نصّت عليه الروايات الشريفة: بأن المعصوم لايصلي عليه، ولايتولى تغسيله وتكفينه ودفنه، إلا معصوم من أهل البيت (عليهم السلام).ذكر السيد المقرّم في مقتل الحسين:«وفي اليوم الثالث لمّا أقبل السجّاد (عليه السلام) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين، لايدرون مايصنعون، ولم يهتدوا الى معرفتهم، وقد فرّق القوم بين ر ؤوسهم وأبدانهم، وربّما يسألون عن أهلهم وعشيرتهم.فأخبرهم (عليه السلام) عمّا جاء به من مواراته هذه الجسوم الطاهرة وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الاصحاب، فارتفع البكاء والعويل وسالت الدموع منهم كلّ مسيل، ونشرت الأسديات الشُّعور، ولطمن الخدود، ثم مشى الأمام زين العابدين الى جسد أبيه وأعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى الى موضع المرقد ورفع قليلاً من التُّراب، فبان موضعه محفوراً، وضريحه مشقوقاً، فبسط كفّيه تحت ظهره وقال:بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم»وأنزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم:«إنَّ معي مَنْ يُعينني».ولمّا أقرّه في لحده وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً:«طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمسّد، والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم، وعليك منّي السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته».وكتب على القبر:«وهذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاً غريباً».ثمّ مشى الى عمّه العباس (عليه السلام)، فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء، وأبكت الحور في غرف الجنان، ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً:«على الدنيا بعدك العفا، ياقمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته»وشقَّ له ضريحاً وأنزله وحده، كما فعل بأبيه الوصي وقال لبني أسد:«إِنَّ معي من يعينني»نعم، ترك مساغاً بني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعين لهم موضعين، وأمّرهم أن يحفروا حفرتين، ووضع في الأولى، بني هاشم وفي الثانية؛ الأصحاب»( ).وبعد هدم الرشيد للمرقد الشريف عام 193 هجرية، وإنتصار المأمون على الأمين في صراعهما على السلطة بعد أبيهما، فسح المأمون المجال للشيعة، فلم ينل المرقد المطهر من الاعمار، إلاّ اليسير.والظاهر أن شيعة الحسين هم الذين قاموا بحملة الاصلاح والبناء بحسب مالديهم من الامكانات، وكذا الحال في عهد المأمون الذي أتجه بنفسه لاعمار الحائر ـ كما تقدم ذكره ـ واعطى للشيعة الحريّة في ذلك أيضاً.وعندما أمر المتوكل بتخريب الضريح المقدس للحسين (عليه السلام) لاقى مواجهة كبيرة ومعارضة شديدة دعت أعوانه للانسحاب الى الكوفة بحجة الاهتمام بمصالحها.وقد أُعيد بناؤه بعد هدمه في سنة (237)، ويظهر أن الناس الغيارى من شيعة آل البيت هم الذين أعادوا بناء القبر في تلك الفترة( ).وهكذا كان شيعة آل محمّد، يعاودون صلاح الحرم الحسيني الشريف في كل عصر عندما تسمح لهم الظروف السياسية ويهتمون به، بتنسيق سابق وإجازة من المعصوم ـ الامام ـ عليه، كل في عصر، بل هم أول من يبادر للاصلاح.المرحلة الثانية: مرحلة الأصلاح والعمران في عهد المأمونبعد أن تسلّم السلطة الأمين خلفاً لأبيه هارون الشريد، نشبت الصراع بينه وبين أخيه المأمون على العرش الخاوي للخلافة المغتصبة، فأنشغل هؤلاء الطغاة عن أيِّ شيءٍ سوى منصة الحكم، وحدثت بين الطرفين وجيوشهم معارك دامية؛ مما أدى ذلك الى أن يبادر شيعة آل البيت، ومحبي الحسين (عليه السلام) الى حملةٍ عمرانية واصلاحية للمرقد المطهر لسيد الشهداء الامام الحسين (صلوات الله عليه)، وذلك بعد أنْ دمّره طاغية عصره هارون الرشيد (لعنه الله).بدأت نهضة إعمار نسبيّة أعادة للضريح المقدس هيبته الظاهرية بين الناس، فاتجه الموالون مسرعين الى زيارته، وأخذوا يتوفدون عليه بشكل مدهش.وعندما إنتصر المأمون وكسب نتيجة الحرب والصراع على السلطة الصالحه، تسلم مقاليد الحكومة، وحاول جهد إمكانه أنْ لايُثير غضب الامة، باذلاً كل جهده في إحتواء الرأي العام لصالحه، ففسح المجال للشيعة ببمارسة نشاطاتهم الدينية بحريّة تامة؛ بما فيها زيارة الحسين (عليه السلام)، وأعطى الحريّة لزوّار سيد الشهداء في جميع الأوقات والمناسبات، لكي تهدأ له الأوضاع وتسكُن الأوضاع السياسية، لئلا تتزعزع حكومته.أمّا مايخص الحائر الحسيني، فقد أعاد المأمون موضع القبر المطهر، وبنى عليه بناءاً شامخاً بقي حتى سنة (232) هجرية( ).فمارسة حملةً عمرانية شملت المرقد الشريف وما عليه وماحوله، ورجّع الناس الى مواضع دورهم السكنية المحيطة بالحرم الشريف، بعد هجرهم أبيه الرشيد وهدم سكناهم التي كانت تحف بالحرم آنذاك.فنستخلص من ذلك أنَّ المأمون كان يهدف من خلال سياسته هذه استقطاب الناس بصورة أو اُخرى، ليثبّت أركان سلطته بصورة هادئة، لهذا كان يفسح المجال في كل ما ترغب اليه الأمة، لكنه في حقيقة الأمر لايختلف في المنهج عن بني العباس، فلو كان صادقاً في نواياه تجاه العلويين لما غصب الخلافة مع وجود الامام الرضا (عليه السلام).
https://telegram.me/buratha