حافظ آل بشارة
الأزمات السياسية تضع القوى الوطنية عادة على المحك لتواجه امتحانا صعبا ، انه اختبار وجود ، فالعاصفة تقتلع الاشجار الواهنة ، اسماء تندثر وتجمعات تتلاشى وشعارات تتراجع الى زاوية النسيان مع اصحابها ومؤسسات كبيرة تصبح هباء منثورا ، موجات التغيير لا ترحم وقوانين التأريخ مثل قوانين الرياضيات لا تجامل أحدا ، كلما تذكرت هذه الحقيقة القاسية تذكرت معها قول مضاض بن عمرو الجرهمي في الحنين الى مكة التي كانت تقطنها قبيلته جرهم قبل ان تطردهم خزاعة منها اذ يقول : وقائلة والدمع سكب مبادر * وقد شرقت بالدمع منها المحاجر . كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر . بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر . وكنا ولاة البيت من بعد نابت * نطوف بذاك البيت والخير ظاهر . ولم يكن مضاض بن عمر نائبا في البرلمان بل كان شاعرا بدويا يقود الرأي العام ويؤرخ بهذه اللوعة والحسرة الصادقة لظاهرة الاستبدال السياسي لأنه ضحيته ، قبيلة جرهم تنسحب من المشهد بعد ان اصبح بقاؤها في مكة لا ينسجم مع منطق التأريخ ، فهي كتلة مهزومة لتتقدم خزاعة وتحتل الواجهة لاجل استحقاقات محددة ، نحن احفاد جرهم وخزاعة ، وقد تتكرر مشاهد الاستبدال ، فيطرد قوم من مكتنا ليحلها قوم آخرون ، القوى المخلصة ترى في الوصول الى السلطة فرصة لخدمة العباد واعمار البلاد ، ولكن لكل صنعة ادواتها فالاخلاق الحسنة والخلوص والزهد لا تكفي لبناء تيار سياسي قوي ومنتج ما لم تتوفر ادوات الصنعة الحديثة ، وهذا عصر السرعة والتجدد ولا يمكن لأي قديم ان يقاوم تيار التحديث المتدفق في كل لحظة ، ومن لا يستجيب لمنطق التغيير سيفشل فورا في ادارة الأزمات ، وأكثر التيارات والتنظيمات هشاشة وعجزا أمام الهزات هي تلك التي تفتقر للمرونة وترفض التجديد ، ولا تمتلك الشجاعة لمراجعة اخطائها ، وقد تكون في موقع السلطة فيصيبها الغرور فتعد سلطتها برهانا على عصمتها فترفض دعاوى الاصلاح فتقع كارثة انهيارها فجأة من فتق صغير ، في السياسة الحديثة تدار الأمور بفريق عمل لا بفرد محاط بالمصفقين بل هو مطوق بشركاء محترمين لكل موقعه في خارطة المبادرة ، ولا تنشأ المؤسسة الا في ظل العمل الجماعي الجاري على اساس خطط وجداول زمنية ونقد معياري وتقييم متواصل و تشخيص الفشل ومحاسبة اصحابه وتشخيص النجاح ومكافئة اصحابه ، فلا مقدسات ولا ثوابت عدا اهداف المؤسسة . هذا وقت مناسب للفت انظار من يهمهم الأمر الى ان ملاك العمل الصالح في الادارة والسياسة هو الكفاءة والنزاهة والسلامة النفسية لدى المتصدين ، ثم النقد والتقييم بتجرد للتجربة ومنجزاتها ، ثم المرونة وقدرة المناورة بدون تغيير في الاهداف العليا ، فمن صدق بهذه القاعدة وسعى لها سعيها بلغ المراد ، ومن كذبها فليبشر بيوم كيوم جرهم في مكة وقول كقول مضاض : كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا ...
https://telegram.me/buratha