بقلم: لاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:
يعد هذا البحث استكمالا لبحثي السابق (فلسفة العصمة)، والتي تصب في تقديم تصور حديث ينحو نحو تحليل قضية العصمة من منظور تعلقها بالانسان في الحياة الدنيا، وتطوير مراحلها لتكون استكشافا لقدرة الانسان على التسامي عن الاثار السلبية للمتعلقات الدنيوية، في سعيه لتحقيق غائية الحياة، وهنا سنطرح عددا من التساؤلات التي يسعى البحث للاجابة عنها مثل: هل العصمة تعني الزهد في الحياة الدنيا والتخلي عن الطيبات التي احلها الله للانسان؟ هل العصمة تعني محاربة الغرائز التي هي من طبيعة الفطرة الاولية، كما هي من الطبيعة الخلقية للانسان وإلى أي حد يمكن ذلك ان يحدث؟ كما سنبحث قيمة العصمة في التكليف الالهي، وهل ستصبح العصمة عائقا امام السلوك والتفاعل اليومي مع حركة الحياة أم انها ستكون عاملا في التعالي على الاني والوضعي وصولا إلى التكامل المعرفي، وقد نبحث اليقين والعصمة بحثا اوليا ليكون مدخلا لبحث اوسع.
إن في سعيي المستمر لتشكيل رؤيا معرفية خارج قيود الماضوية يدعوني لاضع الفكر الاسلامي تحت الموقف التحليلي المستمر، مما يعني الخروج من حالة الجمود التي قد يفرضها علينا بعض مفكري التشدد والتقييد، ففي الفكر الاسلامي سعة لامتناهية، ورحابة فكرية ونفسية ستسقط بالتالي كل الحواجز التي اوجدت لنا من قبل مؤسسي مدرسة الجمود الفكري، وليعود الاسلام نقيا، وهو المنهج المعتدل الوسطي الذي تخلينا عنه لصالح التشدد والتضييق، والتعنت الفكري: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ". البقرة/143. فلا يمكن للبشر ان يكونوا بشرا دون خوض التجارب والخضوع للاختبارات الالهية التي تكشف الغث من الثمين وتكون تمحيصا الهيا للخروج من ظلمات الجاهلية المعاصرة (الجاهلية الثانية) إلى نور التكامل المعرفي بذات الله وبشريعته، ومن هنا فان هذا النوع من البحوث قد يكون مدخلا لتاسيس منهج معرفي ينحو مناحي عقلانية.
العصمة والزهد:
هنا يحق لنا ان نطرح تساؤلا هل العصمة تعني الزهد بمفوهم التخلي عن الحياة الدنيا؟ لعل هذا التساؤل اكثر التساؤلات التي شغلت المؤمنين في طريقهم الى تبني موقف الزهد من الحياة الدنيا، والكثير منهم كان يفهم الزهد باعتباره إنقطاعا عن الحياة الدنيا والتخلي عن الطيبات التي احلها الله لعباده، في حين نجد الكتاب العزيز يحدد موقفه من الطيبات المحلله شرعا فيقول: " قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون ". الاعراف/32.
فنفي التحريم فقها وتشريعا دلالة على الاباحة، وقد قلنا سابقا ان معظم افعال الانسان تقع في حيز المباحات، وفي تعريف معنى (الزينة) يقول الحق سبحانه: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير عملا ". الكهف/46.
ولعل المال والبنون من اكثر ما يشغل تفكير الانسان، وهي من المباحات ما دامت في الحلال، وتقع حرمتها فقط إذا كانت من حرام، أو تم تفعيلها في الحرام، ولكن اكثر من يتعرض لذكر هذه الاية للاستدلال على اباحة جمع المال او الاكثار من البنين يتجاهل المقطع الاخير منها والذي يكشف قيمة هذه الاباحة، فالتركيز على قيمة المال والبنون كموقف دنيوي بحت، يخرجهما من المعايير الالهية التي ارادها الله لهما في ان يكونا مدخلا للاخرة، كما ان التشبث اللامنطقي بهما سيجعل منهما عبئا على حياة الانسان في مراحل تنامي معارفه الادراكية بالله عزوجل، باعتبار أن عبادة المال ستعني تبني الانسان لقيم منحطة قبال المثل العليا، والانشغال به وبالبنون سيؤدي إلى التخلي ولو جزئيا عن المسار الالهي، من جانب آخر فان محاولة منع الانسان من التمتع (بالزينة) وفق المعطيات الالهية يخالف النص الالهي الوارد فيها، مما يعني وجود الحاجة إلى قيم وسطية بين الافراط والتفريط، ومن هنا فان الموقف الاسلامي من (الزينة) يبنى على التعاطي الايجابي معها، فالمال شيء جميل لكن الاجمل توظيفه ايجابيا في خدمة الانسان والمجتمع، وبالتالي لايكون عبئا بل يصبح مفتاحا للتفاعل الاجتماعي، والاعتناء بالاولاد وتربيتهم سيعني تشكيل لبنات صالحة في البناء الاجتماعي، وموقف العصمة هنا ينطلق من تفسير الجزء الاخير من الاية " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " فالعصمة هنا تعني قدرة الانسان على ايجاد حالة من التوازن بين الاني والاخروي، ومتى تمكن من تغليب الاخروي على الاني كلما كانت العصمة الذاتية قد تخطت مراحل متقدمة في عملية التكامل نحو المطلق.
من هنا ندرك أن الزهد يمثل تراكما معرفيا في ذات الله، فالزاهد هو من يكون قادرا على التمتع بالمباهج الدنيوية لكنه لايسمح لها أن تستغرقه كليا بل هو يأخذ نصيبه منها ويحقق سعادته الدنيوية: " وإبتغ فيما أتاك الله الدار الاخرة وأحسن كما أحسن الله إليك ولاتبغ الفساد في الارض إن الله لايحب المفسدين ". القصص/77.
أن وصف الافراط بالفساد وصف دقيق، حيث ان الفساد بهذا المعنى لا يشمل الفساد المتعلق بالانسان وحده بل أن مؤداه يقود إلى الفساد الاجتماعي العام، مما سيعني التأثير في الوعي الجمعي نتيجة لهذا الافساد،، وبالتالي يفشل الفرد والمجتمع في تحقيق غائية الوجود، وفي طرح مفهوم الاسلام الحضاري، وعندما يصبح الافساد غاية عندها يمكن الحكم بقرب فناء هذه المجتمعات كما في الاشارات القرآنية الكثيرة حول حلول النقمة الالهية نتيجة لانتشار الفساد الاجتماعي: " وإذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ". الاسراء/16.
فاستنهاض الوعي الجمعي بضرورة تبني قيم عليا قبال قيم منحطة سيعني تحولا عاما في عصموية المجتمع لاعتبارات اختياره السبيل الرسالي والتطلع لفكرة أخروية تمثل غائية الحياة. وهذا بالتأكيد نتاج للتفاعلات الايجابية للافراد ابتداء.
إشكالية العصمة والغريزة:
الغريزة أتت في المفهوم القرآني في بعض المكامن بمعنى الفطرة: " فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ". الروم/30. وهي الالهام الالهي الكامن في تركيبة الانسان الجينية، فالانسان يحمل في ذاته فطرة الاعتقاد بالله إلاذا إذا تم تعليمه مايغايرها، وقد تأتي بمعنى النفس: " ونفس وما سواها * فالهمها فجورها وتقواها ". الشمس/6-7. والنفس احد اكبر العوائق امام تطور العصمة الذاتية، ومن هنا قال الحق سبحانه: " قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساهـا ". الشمس/8-9. فتزكية النفس بالطاعات تعني تساميا معنوياوماديا بها، كما تعني الارتقاء بالنفس من حالة الانحطاط الدنيوي للتعالي الالهي. فالانحطاط بالنفس واتباع الهوى مرتبة من مراتب الشرك بالله عزوجل فقد قال تعالى: " أفرايت من إتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ". الجاثية/23.
وهنا اشارات رائعة وفي غاية الكمال للدلالة على ان اتباع النفس والهوى ماهو ألا كالاصم الاعمى جامد القلب، وهذه تمثل ادنى درجات الانحطاط وبالتالي فهذا الانسان لايمكن ان يرتقي بعصمته الذاتية بعد ان فقد مقوماتها، كما ان اتباع الهوى هو احدى الضلالات الكبيرة التي تحول بين الانسان ومعرفة الله، مما سيعني خروجه من مدركات العقل الواعي، ليسقط في سلبية الهوى، وهذا بالتالي سيعني انحطاطا في مستويات العصمة الذاتية، باعتبار ان تبني قيما سلبية واحلالها محل القيم الايجابية يؤدي إلى إنهيار المعايير الاخلاقية، وهذا سيكون نتيجة حتمية لتدني مستويات الوعي الفردي المؤدي إلى تدني مستويات الوعي الجمعي.
العصمة والتكليف الالهي:
تتحدد قيمة الشريعة الاسلامية بالمنهج التطبيقي لها، فليس الغاية من التشريعات والقوانين أن تبقى في طيات الكتب، أو كنصوص جامدة غير قابلة للتطبيق، فقيمة الرسالات السماوية والشرائع انها قابلة للتطبيق اليومي والحياتي، والشارع (الله) لم يشرعها إلا لغاية، وقد ذكرنا في بحوث سابقة غائية التشريع، ومنها تحقيق النظام العام بين البشر، وتحقيق سعادة الانسان في العيش الامن الرغيد، ومن هنا كنا نجد أن المجتعات التي تبنت موقفا سلبيا من الشريعة السماوية لم تحقق معادلة التوازن الالهي بين الاني والاخرة، ولما كانالانسان النواة الاولى التي تتحقق فيها عملية التطبيق ليكون بعد ذلك هذا التطبيق منهجا اجتماعيا، فان تكليف الانسان ليكون محورا لتطبيق الشريعة السماوية يتحدد بعدد من العلاقات، وهي علاقات لامتناهية ولكن الظاهر منها:
1- علاقة الانسان بنفسه.2- علاقة الانسان بأخية الانسان.3- علاقة الانسان بالاسرة.4- علاقة الانسان بالمجتمع.5- علاقة الانسان بالدولة (السلطة).6- علاقة الانسان بالحياة (الطبيعة).7- علاقة الانسان بالاخرة (الموت والبرزخ وما ورائهما).8- علاقة الانسان بالموجودات الحية وغير الحية.9- علاقة الانسان بالكون.10-علاقة الانسان بالغيب (ماوراء الطبيعة).تشكل هذه العلاقات جزءا من السلوك اليومي للافراد سواء كان سلوكا واعيا عن تقصد وإدراك بطبيعة هذه العلائق، أو انه سلوك غير واعي بها لكنه مرتبط بها كنوع من ترتيبات الحياة واستمراريتها. وهذا سيؤدي بالتالي إلى ضرورة ان يتبنى الانسان موقفا ذاتيا من هذه العلاقات قد ينحو مرة منحا أيجابيا، وقد ينحو منحا سلبيا، وفق مناهج التفكير وقدرة الانسان على التفاعل اضافة إلى تقييمه لمفهوم الايمان.
ومن هنا فان الانسان يتحمل مسؤولية كبيرة في مسيرة الحياة، وهذه وحدها قادرة على نقض فكرة (الجبر) باعتبار أنه: " لاجبر ولا تفويض ولكنه أمر بين أمرين ". كما يقول الامام جعفر الصادق (عليه السلام). أنظر البحار للمجلسي.
إن التفاعل الايجابي في تطوير هذه العلاقات، يشكل تطورا في الوعي الادراكي بقيمة الاسلام دينا وعقيدة وشريعة، وبالتالي سيعني تناميا في مساحة الايمان وهذا يعني تطورا أيجابيا في مستويات العصمة، فالفرد الذي لايرتكب الفواحش وهو قادر على ارتكابها لانه يعيش صراعة اليومي مع الحياة، فهذا الفرد يكون قادرا على التحصن الذاتي وصولا للمعرفة الحقة. ومن هنا قال تعالى: " قد أفلح من زكاها ". الشمس/9. وقال ايضا في معنى خلاص الانسن وتجنبه للنار: " وسيجنبها الاتقى ".الليل/17. فالارتقاء في الاخلاص هو ارتقاء في العصمة الذاتية، ولكن البشر معرضون لاختبارات لامتناهية تعكسها طبيعة العلاقات سابقة الذكر، ومن هنا تظهر رحمته تعالى بعباده: " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ". النجم/32.
من هنا نفهم أن موقف الانسان من الشريعة ومن الحياة (سلبا أو إيجابا) يحدد مستويات ايمانه من عدمها ويرسم ملامح علاقته بالخالق، وهو بالتالي يحدد مستويات عصمته الذاتية وفق المعايير الالهية، إذ لامجال لفصل الانسان عن تفاعلات الحياة، فليس الانعزال والتنسك من مناهج الفكر الاسلامي: " لا رهبانية في الدين ". الرسول الخاتم. ولا مجال للانسان إلا أن يخوض غمار الحياة ويسى لتجنب المعاصي وصولا لتحقيق مستويات عليا في عصمته الذاتية، وهذه تعني بالذات تعاليا عن الموقف الاني وتطلعا ايجابيا للاخرة.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.uk رئيس ومؤسس الاتحاد الشيعي العالمي (أتشيع)المملكة المتحدة - لندن
https://telegram.me/buratha