إشكاليات مفهوم الامة العراقية / 3
رياض سعد ||
اقدم حضارة عرفها التاريخ البشري ؛ واول دولة انشئت على المعمورة ؛ هي في بلاد الرافدين ؛ وهذا الامر لا يختلف فيه اثنان , وتشير التقديرات الى ان عدد نفوس سكان ارض السواد قبل الفتح الاسلامي او السيطرة العسكرية العربية والاعرابية ؛ يتراوح بين 6 الى 9 ملايين نسمة ؛ بينما كان سكان الجزيرة العربية اقل من هذا الرقم بكثير جدا ؛ فقبائلهم معروفة ومناطق سكناهم محدودة ؛ وتشير بعض التقديرات الى ان عدد نفوس سكان الجزيرة يتراوح ما بين 2 الى 3 ملايين ؛ وانا اذهب الى ان هذا العدد مبالغ فيه جدا , فهم اقل من ذلك بكثير ؛ والشواهد التاريخية تؤكد ما ذهبت اليه .
وكانت في العراق لغات ولهجات عدة كما في بعض دول العالم ؛ وهذه اللغات واللهجات بينها قواسم مشتركة ؛ وان كان هنالك اختلافات جوهرية بين لغة واخرى ايضا , وهذا الامر سبب الارباك والتشويش لدى البعض ؛ فظن بعض الاعراب الجهلة ان بعض سكان العراق القدامى فرسا لانهم لا يتكلمون العربية ؛ بينما هم كانوا نبطا – كما اطلق العرب عليهم هذه التسمية – وهم اقرب للعرب منهم للعجم كما تشير الى ذلك بعض الدراسات والابحاث التاريخية – راجع كتابنا : قصة النبط : سكان العراق القدامى - ؛ فقد كان يظن بعض الاعراب وجهلة العرب ان كل من لا ينطق بالعربية فهو عجمي – بالمعنى الاخص اي فارسي ايراني - ؛ والحقيقة خلاف ذلك ؛ حتى ان البعض ذهب الى ان لغة حمير في اليمن لا تمت للعربية بصلة .
ان العراقيين قبل مجيء عرب واعراب الجزيرة كانوا على اصناف ؛ فمنهم اليهود الذين يتكلمون العبرية ومنهم النصارى الذين يتكلمون السريانية والعربية ايضا , ومنهم العرب الاقحاح كسكان مملكة ميسان والحضر والحيرة , ومنهم النبط القريبين من العرب نسبا ولهجة , ومنهم العجم ... الخ ؛ ولكن النسب تختلف بينما هؤلاء ؛ وبعد دخول عرب واعراب الجزيرة , اعتنق اغلب سكان العراق الاسلام ومن ثم استعربوا بمرور الايام – هذا بالنسبة لغير الناطقين بالعربية - ؛ واما عرب العراق الاقحاح فهم اول من وضع قواعد اللغة العربية لكل الناطقين بالعربية في العالم اجمع .
البعض يطلب منا ان نغض الطرف عن كل هذه الحقائق ونسلم بقضية نقيضها معها ؛ فهؤلاء يدعون ان سكان العراق القدامى والاوائل انقرضوا كما انقرض قوم عاد وثمود , والعراق اصبح عبارة عن ثكنة فارسية عسكرية والارض خالية من السكان ولا يوجد فيها سوى العسكر الايرانيين ؛ وعندما جاء العرب والاعراب ملئوا الفراغ وقطنوا العراق بعدما كان خاليا من خلق الله ...!!
والعجيب في الامر , ان هذه الفرضية المنكوسة والتافهة والسطحية لا يستخدمها هؤلاء الكتاب والباحثون مع باقي دول العالم ؛ فقط يعملون بها عندما يتعلق الامر بالعراق والعراقيين ...!! .
يطلبوا منا ان نصدق بأن ارض السواد والانهار والخيرات والثمار والثروات والاشجار ... الخ , والتي قطنها البشر منذ فجر التاريخ , واقاموا فيها اولى الحضارات وانشئوا فيها الدول والحكومات , وشنوا الغارات والغزوات على مختلف البقاع وجلبوا العبيد والسبايا من كل حدب وصوب ؛ قد خلت فجأة وبقدرة قادر من سكانها وهجرها اهلها , وتلاشوا وتبخروا كما يتبخر الماء في النار واندثروا كما الديناصورات المنقرضة ؛ وفي الوقت نفسه يريدون منا ان نؤمن بأن صحارى الجزيرة القاحلة والقبائل المعدودة الجائعة وسكان القفار والبراري الخالية من الثمار والانهار ... الخ ؛ قد تكاثر ابنائها كما الصين الشعبية وزحفوا على البلدان المختلفة في الشرق والغرب وتحولت هذه البلدان الى عربية بمجرد ان وطئت اقدام الاعراب وسكان الصحاري ارضها ...؟؟!! .
وصدق من قال : ( حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له ) .
وادعى اصحاب الفكر المنكوس بأن العراق ما هو الا جزء صغير من وطن كبير طوباوي لا حقيقة له على ارض الواقع ؛ فالعراق العظيم بنظرهم المنكوس جزء ناقص لا يكتمل الا مع الاتحاد مع الصومال وجيبوتي وموريتانيا , وقد نظروا لهذه الطامة الكبرى والفوا الكتب والابحاث المزيفة لإثبات تلك الدعوى ؛ نعم كلنا نتحدث العربية الا ان هذا الامر لا يعني اننا من عرق او قومية واحدة او ان تقاليدنا وعاداتنا وثقافتنا وتاريخنا مشترك ؛ وهذا الامر واضح للعيان ولا يحتاج الى برهان ؛ فما الذي يجمع العراقي بالصومالي او اليمني بالمغربي غير اللغة والاسلام وان كانت اللهجات مختلفة وايضا هنالك اديان ومعتقدات مختلفة غير الاسلام ؟! .
فمثلا اليكم هذه القائمة ببعض الدول التي تتحدث اللغة الاسبانية بل ان بعضها تعتبر الاسبانية لغة رسمية مع وجود بعض اللغات الاخرى ؛ وذلك بسبب التوسع الاستعماري الاسباني سابقا : المكسيك , كولومبيا , الأرجنتين , فنزويلا , بيرو , تشيلي , الإكوادور , غواتيمالا , كوبا , جمهورية الدومينيكان , هندوراس , بوليفيا , إلسالفادور , نيكاراغوا , باراغواي , كوستاريكا , أوروغواي , بنما , غينيا الإستوائية , في عام 1973 ألغيت الإسبانية كلغة رسمية في الفلبين ... ؛ فهل من الممكن القول بأن هذه الشعوب المختلفة تنتمي لامة واحدة الا وهي الامة الاسبانية لمجرد انها تتكلم اللغة الاسبانية او تعتنق المسيحية ؛ وما وجه الشبه بين الاسبان وابناء تلك الشعوب ؟؟!! .
لذلك فشلت كل الدعوات الوحدوية بين الدول الناطقة بالعربية ؛ وذلك بسبب اختلاف الاعراق والقوميات والثقافات والعادات والتقاليد والاشكال الجسمانية والسمات الوراثية فيما بينها ؛ نعم هنالك قواسم مشتركة بين العراقيين والسوريين او الحجازيين مثلا ؛ وكذلك بين بعض العراقيين وبعض الايرانيين ؛ الا ان هذا شيء والهوية الوطنية الحقيقية شيء اخر ... ؛ واخر المهازل ادعت دولة جزر القمر بكونها عربية ؛ طمعا بالمساعدات العربية , علما انها لا تتحدث العربية اصلا ...!!
فهل انا العراقي معني بشؤون تلك الدولة البعيدة والغريبة عني بكل شيء ؛ ولماذا ادفع لها اموال ومساعدات من الميزانية العراقية والتي هي من حق الامة العراقية وحدها لا غير ؛ فقد خصصت الحكومة العراقية مساعدات لدولة جزر القمر ؛ وحاولت احدى النائبات تبرير تلك الخطوة بالقول : ان جزر القمر فقيرة ..!!
وهل انا حلال المشاكل , وهل العراق منظمة غوث اللاجئين او مؤسسة انسانية لدفع الصدقات والمساعدات , وهل تخلص العراق من الفقر والبطالة , وارتفع رصيد العراق الى 9 بليون دولار ؛ كي اتصدق بالفائض عن الحاجة ...؟؟!!
إشكاليات مفهوم الامة العراقية / 4
رياض سعد
سيطر الرافدينيون الاوائل على الاراضي الشاسعة واستقروا فيها وحكموها , ومنها بدأت حكاية المدنية ونشأت بذرة الحكومة والدولة , وتبلورت الهويات الاجتماعية والسياسية والقومية ؛ حتى وصلت الى مرحلة انبثاق الامبراطوريات الكبيرة والعظيمة , ورافق هذا التطور العمراني والحضاري النزعات البدائية والمتأصلة في بني البشر الى يومنا هذا ؛ الا وهي حالات الصراع والاقتتال والحسد والطمع وحب التملك والسيطرة والغزو والتمدد والظلم واستعباد الاخرين وقهرهم وتهميشهم ... الخ ؛ فنشبت الصراعات والحروب والغزوات بين المدن والدويلات الرافدينية الاولى ؛ ولعل هذه الاشتباكات والصراعات كانت من اهم اسباب ظهور الإمبراطوريات العراقية العظيمة , ومن ثم نشوء الحضارات والحكومات الوطنية العظيمة وقتذاك ؛ وضم العراقيون القدامى الاراضي الشاسعة ومن الجهات الاربعة الى سلطانهم وسيطرتهم العسكرية والسياسية ؛ واكتسبت هذه الاراضي سمة الهوية العراقية القديمة كالسومرية والاكدية والبابلية والاشورية ؛ وبوتيرة قوية ومتسارعة وتسابق الزمن ... .
واستمر هذا المجد الرافديني لعدة قرون طويلة من الزمن , وكلما تعرضت الامبراطوريات والدويلات العراقية الى الغزوات الخارجية او الى التفكك والاضطرابات الداخلية والانقسامات الاجتماعية والسياسية ؛ اعادة بناء نفسها من جديد ونفضت الغبار عنها .
وبمرور الوقت تعلم بنو البشر من العراقيين القدامى ؛ بناء الدول والجيوش ؛ ومن ثم ظهرت العديد من الدول والإمبراطوريات المنافسة لأبناء بلاد النهرين , وبدأت هذه الدول والإمبراطوريات الاجنبية والغريبة بالتحرك نحو بلاد الرافدين ؛ بل وقضمت اراضيها التاريخية وضمتها لها بالقوة ... , واستطاع الهمج والبرابرة وسكان الجبال والكهوف المتوحشين والبدو الرحل وغيرهم من الهجوم على الإمبراطوريات والدول العراقية والتوغل فيها واسقاط حكوماتها وتدمير حضاراتها ... ؛ واستمرت هذه النكسة التاريخية والكبوة الحضارية عدة قرون طويلة ؛ انكفأ فيها العراقيون على انفسهم , واشتغلوا بالزراعة والصيد والتجارة والصناعة ... ؛ وغادرهم المجد , الا انهم كالنار خلف الرماد , يتحينون الفرص للانقضاض على الاعداء والنهوض مرة اخرى , وتم لهم ذلك من خلال المعارك والمناوشات الجانبية مع الساسانيين والتي تكللت بالانتصار على الاحتلال الساساني واسقاطه من خلال التعاون مع عرب واعراب الجزيرة ؛ ومن ثم انتقال عاصمة الإمبراطورية الاسلامية اليهم في الكوفة بعهد خلافة الامام علي , ومن ثم رجعت اليهم في بغداد بعهد الامبراطورية الإسلامية العباسية ... ؛ ودار الدهر دورته ليَرجَعَ القهقرى الى الوراء تارة اخرى , وذلك بسقوط بغداد على يد المغول , ومن بعدهم الاتراك العثمانيين , ومن بعدهم البريطانيين ... ؛ حتى وصلت النوبة الى الحكومات الهجينة والتي تتدعي انها وطنية وعراقية , والتي استمرت لمدة 83 عاما تقريبا , وقد اسقطها الاحتلال الامريكي واستبدلها ولأول مرة في التاريخ العراقي المعاصر بحكم الاغلبية وباقي مكونات الامة العراقية وتحت نظام جمهوري نيابي فيدرالي ديمقراطي ... .
مثلث الحملات العدوانية والغزوات الهمجية والاحتلالات الاجنبية التي واجهها العراق العظيم على مدى تاريخه الطويل ، آثارًا سلبية خطيرة تكرست آثارها على الامة العراقية ؛ فقد عمل الخط المنكوس ومنذ القدم على محو التراث الرافديني ومسخ الهوية العراقية وتهميش وتحقير وتدمير وتشويه سمعة العراقيين الاصلاء ... ؛ بالإضافة الى نهب ثرواته وسلب خيراته وقضم اراضيه وسرقة تراثه ... ؛ وتكريس حالة من الجهل والامية والتخلف والسلبية والانهزامية والظلامية والسوداوية والطوباوية بين اقوامه وجماعاته ؛ والسطو على عقولهم والتحكم بعواطفهم ؛ بواسطة الاعيب ومسرحيات وخدع ومؤامرات الخط المنكوس ومصاديقه الخارجيين واتباعه في الداخل .
والنقطة الجوهرية التي عمل هؤلاء الاعداء المنكوسون جيدًا على العبث بها هي التعليم والمعرفة والقوة ، حيث تم تجريد العراقيين من مصادر القوة , وحرمانهم من التعليم الجيد والمعرفة النافعة وبطرق ملتوية وخبيثة ومنكوسة ؛ لتمرير مخططاتهم السرية وتحقيق اهدافهم المسمومة ؛ والعمل على هدم البنية العراقية الاجتماعية وتشويه معالم الهوية الوطنية ومن الداخل فضلا عن الهجمات الاعلامية والثقافية والسياسية الخارجية المتواصلة والمستمرة ؛ وذلك عن طريق تغذية الانقسامات والتحزبات العنصرية والطائفية والقومية والفئوية ، والتجمعات المنكوسة والخلافات المفتعلة ، وتشجيع الحركات المنكوسة المضادة للامة العراقية ...
ولا زالت هذه السياسة الشيطانية تمارس حتى اليوم ، ولكن وفق إطار جديد وروح جديدة وأسلوب جديد، وهو ما يسمى بالاستعمار النفسي ، والذي نجح في تطويع العديد من أبناء العراق ليصبحوا صواريخ موجهة ضد بلادهم ، وأقلامًا تكتب ليل نهار فقط لتكسب رضا المستعمر الغاشم والاجنبي والغريب الظالم ، بل والعمل على ترسيخ قيمه وثقافته وتقاليده التي تتقاطع مع الروح العراقية الحضارية العظيمة ، وإضفاء الطابع المنكوس في كافة جوانب مجتمعنا العراقي , والقبول بأنصاف الحلول والاوضاع المزرية ؛ لا بل حتى بالمهانة والاذلال ... .
وسيبقى العراقيون الاحرار لهم بالمرصاد ؛ وها هي طلائع العراق وعلى الرغم من كل الصعاب ؛ تسعى جاهدة الان , لإحياء مشروع الامة العراقية العظيمة وترسيخ الهوية الوطنية العراقية الاصيلة الجامعة , ورأب الصدع , و إعادة المياه إلى مجاريها
https://telegram.me/buratha