د. أمل محمد الأسدي ||
نقول مدرسة ولا نقول فكر علي المؤمن؛ ذلك أننا سنتحدث عن مدرسة اجتماعية إسلامية حديثة بإزاء المدرسة الغربية التي تركت أثراً سلبياً علی الاجتماع الشيعي عموماً والعراقي خصوصاً، وفي هذه المدرسة الإسلامية تكون الريادة للدكتور المؤمن في تأسيس خطاب جديد، ووضع أسس كفيلة بتفكيك إشكاليات الهوية التي يعاني منها المجتمع؛ فقد ألصق متبنّوا النظرية الغربية الكثير من الاتهامات والعيوب والسلبيات بالمجتمع الشيعي، وخلطوا خلطاً عجيباً يتنافی مع المنهج العلمي.
علی سبيل المثال: علي الوردي، الذي خلط بين الديني العقدي والثقافي والأدبي والعلمي والإعلامي والاجتماعي، وحوّل الحالات الفردية إلی ظواهر اجتماعية، وراح يتحدث بمنتهی اللامنهجية واللاحيادية عن المجتمع الشيعي، ويضع استنتاجاته ويصدِّر حلولاً وضعها هو بحسب قناعاته وميوله، وتجد ذلك في كتبه "وعاظ السلاطين"، و"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، و"شخصية الفرد العراقي"؛ إذ تخلو من المنهجية، وكانت طروحاته علی طريقة السرد الحكواتي. وبطبيعة الحال؛ إن الإنسان يتعلق بالحكاية ويجذبه السرد القصصي، لهذا بقيت حكاياته عالقة في الأذهان من جهة، ومن جهة أخری نال دعماً كبيراً من الغرب، الذي يعد قضية تفتيت الهوية الإسلامية وتمييعها من أهم قضاياه؛ فهي الوسيلة التي تمكنه من تحقيق أهدافه الرأسمالية في السيطرة علی البلدان الغنية، وإلی الآن يتم الترويج لأفكار الوردي، وكأنّها مسلّمات وحقائق، وليست شطحات ورؤی غير مستندة إلی دليل وإحصاءات علمية دقيقة!.
وهذا المد العلماني الغربي، يدفع الذات الشيعية يوماً بعد يوم الى مستنقع الدونية، ويشوِّه كل ما لديها من إيجابيات، ويلهث نحو الغرب ليتلقّف كل ما يصدره حتی الفضلات الفكرية والنظريات الفاشلة التي أخفقت حتی في البيئة التي نشأت فيها. وبإزاء هذا المد ظهرت مدرسة علي المؤمن الفكرية الاجتماعية، التي تمثل الخط الإسلامي الحديث، الذي يسعی الی تعزيز الذات الشيعية، وترسيخ الهوية الشيعية الإسلامية، ويزيل عنها لغط المد الأول، ليدعو بكل وضوح إلی نبذ الطائفية، ويبيِّن أن الهويات تتعدد ولا تتصادم، وأن لكل إنسان مجموعة من الهويات التي تعرّفه وتجيب عن تساؤل: من هو؟ أو من أنتَ؟
ويقدم الدكتور علي المؤمن كل السبل التي تحفظ الهوية وتحافظ علی كيان الأمة، وهو في ذلك يتناول الاجتماع الشيعي بعيداً عن الجانب الديني العقدي، وبعيداً عن التزام الفرد دينياً من عدمه، هو يتعامل مع المجتمع الشيعي علی أنه كتلة بشرية متراصة، تجمعها خصائص مشتركة، وتمتلك عناصر قوةٍ عديدة، تؤهّلها أن تكون أمة، ولهذه الأمة نظام اجتماعي ينظمها وتنتظم به.
هذا الطرح الواعي المتطور، يضمن لنا تحقيق ما هو غائب عن ساحتنا العربية والإسلامية ألا وهو الوحدة، وحدة الصف، وحدة الكلمة، وحدة المنظومة القيمية، وحدة الاجتماع، بغض النظر عن الحدود التي تفصل الشعوب؛ فهو يجمع القدرات البشرية تحت جناحيه بعيداً عن قضية التزامهم وتديّنهم، وهذا من شأنه أن يغيِّر فهم المجتمع الشيعي للسلطة والمشاركة فيها، ويغيِّر وجهة نظرهم تجاهها، تلك الوجهة التي فُرضت عليهم نتيجة الظلم والاضطهاد حتی صارت طبعاً فيهم. ولو نظرنا نظرة مقارنة سريعة بين الغرب العلماني والشرق الإسلامي؛ سنلاحظ أن الشائع لديهم هو (توحيد الكلمة)، وأن الشائع لدينا هو(كلمة التوحيد)، وهنا نكون بإزاء معادلة مهمة ومحورية وهي:"كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة"؛ فهذه المعادلة تتكون من دفتين رئيستين، لا تتحق فائدةٌ لإحداهما من دون تحقق الفائدة للأخری، ولا يمكن أن نجد الثمار الاجتماعية المترتبة علی كلمة التوحيد من دون أن تتحقق الدفةُ الثانية من المعادلة وهي: توحيد الكلمة.
وفي الوقت نفسه لايمكن تحقيق الفائدة المنشودة من توحيد الكلمة من دون أن تتحقق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، ولايمكن تحقيق هذه المعادلة وتطبيقها من دون وجود عوامل مشتركة موحدة؛ فتوحيد الكلمة والاجتماع في الغرب، منحهم النجاح المادي علی حساب الروح؛ فهناك خواء روحي ينخر الحياة ويغتال فطرة الإنسان، ويحولها إلی حياة حيوانية، وهذا كله نتيجة الابتعاد عن كلمة التوحيد وتطبيقاتها. أما كلمة التوحيد في المجتمعات الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً؛ فهي حاضرة، ولكنها ــ غالباً ــ دون تفعيل وثمار اجتماعية؛ ذلك أنها تفتقد إلی توحيد الكلمة، وتفتقر إلی مفهوم الجسد الواحد والكيان الواحد.
من هنا؛ تكون أطروحة الدكتور المؤمن مهمّة ومُخلِّصة؛ فهي تزيل هذه الإشكالية الناجمة عن أسباب كثيرة، ذكرنا أغلبها آنفا، وكذلك ناجمة عن الخلط بين تديّن الفرد والتزامه من عدمه، وعلاقة ذلك بهويته، إذ وضع علي المؤمن التدين والالتزام جانباً؛ فذلك أمر خاص بين الفرد وربه، وتحدّث عن النظام الاجتماعي برمته، تحدث عن الأمة التي تمتلك عناصر قوة
وتأثير، تحدث عن العودة إلی منحنی الحضارات، تحدث عن نهضة الأمة، ونهضة المجتمع المرتبطة بنقطة مركزية وهي المرجعية الدينية الشيعية، وبيّن أن المرجعيات لايمكن بأي شكل من الأشكال أن تصطدم بالدولة الشرعية ونظامها؛ بل ــ علی العكس ــ هي توجب الالتزام بالقوانين والانتظام بها وعدم مخالفتها، وهو عنصر قوة ودعم للدولة برمتها.
جعل الدكتور المؤمن عناصر قوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي في اثني عشر عنصراً، وتأتي علی رأس هذه العناصر وأولها القضية المهدوية؛ فهو يری أن قضية انتظار الإمام المهدي(عج) قضية ميدانية حاضرة في الواقع الإسلامي الشيعي، حاضرةً كعنصرٍ فاعلٍ مؤثرٍ؛ لذلك بقيت محل استهدافٍ دائم من التيارات المناوئة للإسلام من الخارج الغربي والداخل العلماني المُتَّبِع لفكر الخارج!. وستمر عليكم في الفصول الآتية هذه العناصر بالتفصيل. وبطبيعة الحال لايروق لتابع الغرب، الحديث عن عناصرِ قوةٍ واقتدار، فهو يصدّر السلبيات دوماً ويضخِّمها، ويدلِّس علی سلبيات الغرب وهشاشة واقعهم.
وبناء على ماسبق؛ فإن كتاب "الاجتماع الديني الشيعي" للدكتور علي المؤمن، يعد أهم الكتب التي عالجت إشكالية الهوية الشيعية والهوية، دون مجاملات أو تخفٍّ خلف مصطلحات رومانسية موجهة لطمس الهوية، وهو في الوقت نفسه يحمِّل كل فرد، وكل عالِم، كما يحمِّل المؤسسة الدينية، المسؤولية تجاه ما اصطلح عليه "النظام الاجتماعي الديني الشيعي" المترابط، أو لنقل هو يدعوها إلی التعامل بهذا المنطق، منطق "علم الاجتماع الديني الشيعي" الذي وضع قواعده ومعالمه، والذي يثبت أن الشيعة كتلة بشرية واحدة، عابرة الحدود، بعيداً عن إشكاليات تدين الأفراد والتزامهم، ودون الاصطدام بباقي الهويات، ودون اختراق ضوابط القوانين الوطنية والدولية.
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha