علي المؤمن ||
رغم أن الوحدة الوطنية مفهوم ضروري ومصيري، يضمن التعايش الحقيقي بين مكونات الوطن الدينية والمذهبية والقومية والايديولوجية، في كثير من بلداننا العربية والإسلامية، لكنه يبدو مفهوماً نظرياً فضفاضاً طوبائياً لاقيمة عملية له، بسبب تعارض الأهداف والسلوكيات بين المكونات الدينية والمذهبية والقومية والايديولوجية في البلد الواحد من جهة، وبسبب عقيدة الدولة الطائفية أو العنصرية وسياساتها في تهميش بعض المكونات، والتمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب أو القومية من جهة أخرى؛ فيكون هناك مواطن من الدرجة الأولى، ومواطنون من الدرجات الثانية والثالثة.
ولاتقتصر هذه التعارضات على الأهداف والسلوكيات السياسية الطبيعية الموجودة في كل دول العالم المتحضرة، التي تعتمد معايير المساواة في الحقوق والحريات بين مواطنيها، أو الخلافات المقبولة بين المكونات، بل تتعداها الى مظاهر كسر الإرادات والاحتراب، ومخططات تخريب الدولة والوطن والانفصال عنه، ومحاصرة بعض المكونات عقدياً ومذهبياً ومعيشياً، والتضحية بأبنائه في الحروب الداخلية والخارجية، والضغوط عليهم من اجل التنازل عن الهوية الخاصة، تحت شعار الوحدة الوطنية والتضحية من أجل الوطن، وهي في حقيقتها تضحية من أجل أن يبقى الدكتاتور الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة تعض على السلطة بقوة.
وبالتالي؛ لن يكون مبدأ الوحدة الوطنية منتجاً في بلداننا إلّا أذا توافر شرطان:
١- أن تكون الدولة التي يتحقق فيها مبدأ الوحدة الوطنية، هي دولة المواطنة والقانون، التي تحترم رأي الأكثرية وتضمن حقوق الأقلية، وينعدم فيها التمييز بين المواطنين، على مختلف مذاهبهم وأفكارهم، وتتكافأ الفرص بينهم، ويكون هناك فصل بين الوطن والدولة وسلطاتها والحكومة. أما إذا كان شخص الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة هو الوطن وهي الدولة والحكومة والسلطة، وكانت الدولة تابعة لحاضنة طائفية اجتماعية معينة أو مكون قومي معين؛ فإن الوحدة الوطنية لن يكون لها أي موضوع ومعنى، لأنها ليست وحدة من أجل الوطن، بل مجرد شعار سلبي يستغله الحاكم والأسرة والحزب أبشع استغلال، من أجل استحكام سلطتهم والاستقواء على التحديات التي تواجه بقاءهم.
٢- أن تكون هناك رغبة حقيقية من المكونات الدينية والمذهبية والقومية في البلد، بتحقيق الوحدة الوطنية، على أساس المشتركات التي تُنشِيء قواعد التعايش والتعاون والتحالف. أما إذا كان بعض المكونات يعيش تحت حراب مكون آخر وقمعه وتهميشه، وكان مكون آخر يخطط ويعمل على الانفصال عن الوطن، ومكون ثالث يعمل على تخريب الوطن والدولة، لإحساسه بأن الدولة لاتمثله؛ فحينها تكون الوحدة الوطنية شعاراً للمناورات السياسية والابتزاز والمزايدات لا أكثر.
ولذلك؛ نرى في بعض بلداننا أن أبناء البلد الواحد، المختلفين دينياً ومذهبياً وقومياً، لايجمع بينهم سوى الرابط السياسي القانوني المتمثل بالجنسية وجواز السفر، وأحياناً اللغة وفريق كرة القدم وبعض الرمزيات، أي أنها وحدة الانتماء السياسي للبلد فقط، بينما تفرقهم الأهداف والطموحات والثقافات والسلوكيات والعلاقات.
وللتغطية على هذه التعارضات العميقة؛ يصرخ بعض حسني النية والمثاليين والمتحمسين، بأن التعارضات والفوارق لاوجود لها بين أبناء البلد، وإن وجدت؛ فلابد أن تزول فوراً، ويتحدث عن المشتركات وعن حب الوطن الذي (يجمعنا)، وبين هؤلاء المتحمسين من يرى بأن المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية واللغوية وجودات زائدة يجب إلغاؤها، أو إلغاء تأثيرها في الحياة السياسية، أو أن لايكون لها مدخلية في بنية الدولة وتشكيلة الحكومة. والحال أن هذا الحماس يعبر عن خطاب طوباوي وغير واقعي، لأنه سرعان ما سيصطدم بالواقع عند أول مفترق أو حدث.
وهناك من يعتبر أن السياسيين والأحزاب أو الاستعمار، هم سبب إيجاد هذه التعارضات. وهذا الخطاب - هو الآخر - يقرأ الواقع وحقائقه بتبسيط ودون عمق؛ فلا شك أن الاستعمار والسياسيين والأحزاب يلعبون جميعاً دوراً مهماً في تكريس هذه التعارضات، لكنهم لايخلقونها ولا يوجدونها، بل يكرسونها، لأنها موجودة أساساً، ولها عمق تاريخي، وترتبط بتكوين الوطن والدولة والنظام السياسي والتشريعات والاعراف التأسيسية، ولو لم يجد الاستعمار والأحزاب والسلطات حواضن اجتماعية أساسية نشات على هذه التعارضات وشكّلت عقلها وخطابها الاجتماعي؛ لما استطاعوا استغلالها وتكريسها والنفوذ والسيطرة من خلالها.
ينبغي أن تذعن مكونات الوطن جميعاً، أن قدرها العيش في رقعة جغرافية واحدة توحدها الحدود السياسية والهوية القانونية للمواطنين، وأن عليها العمل على خدمة الوطن وبنائه وعلى تعزيز قوة الدولة وسيادتها وفاعليتها ونجاحها، دون النظر الى البقعة الجغرافية التي يسكنها كل مكون أو المذهب الذي ينتمي اليه المكون، ويكون ذلك بإرادة مشتركة وخطوات مشتركة، لا أن تتبادر بعض المكونات الى ذلك وتتردد أخرى أو تعمل بعكس الاتجاه؛ بحجة أن المكون الأكبر ــ مثلاً ــ هو (أم الولد) و(الأخ الأكبر)، وعليه أن يضحي ويتنازل للمكونات الأخرى، أو أن المكون الأصغر هو (مجتمع الأقلية) و(الأخ الأصغر) الذي يجب أن يضحي ويتنازل لمصلحة المكون الأكبر أو المكونات الأُخر؛ فهذه المفاهيم خاطئة أساساً ولاتبني دولة ولاتحقق الوحدة الوطنية.
كما ينبغي أن يذعن من يمسك بالسطة، سواء تمثل بشخص أو أسرة أو حزب؛ بأنّ الوطن والدولة والسلطة ليست ملكاً له، إنما هي مجرد أداة لخدمة الوطن والمواطن، دون تمييز بين مواطن وآخر، وأنّ تمثيله للوطن والدولة والسلطة هو بمقدار تخويل الشعب له، وأنّ تداول المسؤوليات، من قمة هرم الدولة الى قاعدتها، هو حق طبيعي لكل من ينتمي الى الوطن.
حينها؛ تتحول الوحدة الوطنية من مجرد شعار فارغ للتغطية على الأهداف المتعارضة للمكونات الطائفية والقومية في البلد، وعلى سوءات السلطة وسياساتها التمييزية، وأهدافها في إخضاع الشعب لعقيدتها ومخططاتها الخاصة؛ تتحول الى واقع منتج يقوم على قاعدتي: التعايش والتعاضد.
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha