الدكتور علي زناد كلش البيضاني ||
لا شك بأن المنظومة الكلامية لأمير البلغاء علي بن أبي طالب (ع) ذات محتوى غائي لا تنطلق من فراغ ، وهذه الغائيّة التي يريد الإمام (ع) رسم صورتها تمثل البعد الإرتكازي لقصديّة يمكن من خلالها أن يوظفها الإنسان في حياته ليسلك طريقاً يوصله إلى المرامي والغايات التي أختطها السماء ، كما أن لغة التدريب عند الإمام (ع) تقوم على أساسيات عديدة من أهم أهدافها هي البناء الفكري المعنوي أو خلق أو أنتاج ملكات فكرية تلقي بظلالها وتسطع بأضوائها على الجوانب المختلفة للحياة ـ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ـ فكل كلمات الإمام (ع) ذات دلالة وتربية وتثقيف فكري ناضج ، إذ ترتسم ملامح هذه اللغة من خلال الإيحاءات المباشرة أو غير المباشرة وما الصورة التشبيّهية في كلامه (ع) ألا واحدة من هذه الصور الدلالية ، فالإمام (ع) عندما يتكلم ويصف الحيوان والنبات والمرأة واللون وغيرها هي في الحقيقة ليست وصفاً وتبياناً لهذه الأشياء بقدر ما يمثل إيصال رسالة للمتلقي في رسم صورة ذهنية فكرية تقوم على أساس قولبة الشخصية الإنسانية بالاتجاه الصحيح ولنا أن نأخذ عدة أمثلة كمصداق على ما ندعيه من قول .
عندما يتكلم (ع) عن حق الله (عز وجل ) ويقول (مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ ) هنا نجده (ع) قد أسس لنظرية الوحدة غير العددية فالظاهر للكلام هو حق الله ( عز وجل ) نعم أراد بذلك ولكن المحتوى والمضمون والقصديّة أرادت شيء أخر أشرنا أليه ، والأمر يندرج كذلك عبر بوابة خطبة التوحيد ( أَوَّلَ الدّينِ مَعْرِفَتُهُ ) وهنا يقرر الإمام (ع) ضابطة وهي المعرفة الحقّة للمعبود الذي تتعبدهُ هذا في الجانب الديني أما لغة التدريب عنده (ع) فهي تنسحب على باقي الأشياء وهو ضرورة بل الإلزام الواجب في معرفة كل عمل يقدم على فعله الإنسان لأن معرفة الشيء قبل الدخول فيه كفيل بالوصول إلى أفضل النتائج فيما بعد ، وليس هذا فقط فإن العلاقة الطردية بين ( المعرفة ـ النتائج ) حاضرة وبقوة في هذا الميدان إذ أن اشتداد هذا الأمر ونضوجه يعود بالفضل إلى نقطة البداية وإلى ذلك الأساس وهو المعرفة التامة بالشيء قبل الولوج فيه .
وعندما يُعرّج الإمام (ع) على وصف الحيوان فأنه في حقيقة الأمر قد رسم منهجاً قيّماً من خلال اشتباك الخطوط العريضة للغائية من هذا الوصف وعلى كافة المستويات فمن تتبع حيثيات ولاته على الأمصار ورسم طريق العمل في التعامل مع المجتمع إلى وضع الدروس في كيفية التعامل مع الفتنة إذا أصابت الإنسان إلى أعطاء الصفة التمييزية للشخص العقلائي من غيره وهو بهذا يضع المصداق مع الفكرة التي يريد طرحها في فلك واحد حتى يكون التدريب مُركّز ومبني على حقيقة واقعية مُشاهدة من قبل المتلقي لكي تؤثر في النفوس بصورة أكبر وتؤدي إلى السعي الحقيقي للابتعاد عن هذا النموذج الفاضح ومنها الكتاب الذي أرسله إلى عامله ( مالك الأشتر ـ رض ـ ) وهو يوصيه في رسم منهجية التعامل مع المجتمع إذ جاء فيه ( وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ ) وبهذا فقد بيّن الإمام (ع) النقاط السلبية في تعامل الإنسان غير العقلائي مع المجتمع فانه قد وظف الحيوان في منهج التشبيه الأمثل لهكذا تصرف ، وهذا ما نجده أيضاً في إيضاح وتبيان قيمة مكانة العقل ودوره عند العقلاء من غيرهم إذ يقول في الإنسان الذي لا يستثمر ملكاته الفكرية ولا يجعل عقله قائداً له حيث وصفه ( كَالْبَهيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا ، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغْلُهَا تَقَمُّمُهَا ، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا ، وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا ) وكذا الأمر يندرج في رسم منهج التعامل مع الفتنة وطرق الوقاية منها إذ قال (ع) (كُنْ فِي الْفِتْنَةِ عِنْدَ ذَلِكَ ، يَا بُنَيَّ ، كَابْنِ اللَّبُونِ ، لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبُ ، وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبُ ، وَ لاَ وَبَرٌ فَيُسْلَبُ ) .
أما ما طرحه الإمام (ع) بخصوص المرأة وصوّره البعض أنه انتقاص لها فهذا مردود لأنهم لم يدركوا الفلسفة الحقيقية للقصديّة الإمامية من هذا الكلام إذ أن الطرح لم يكن انتقائي بل شمولي للرجل والمرأة لأنه (ع) أنطلق من منطلق ( تسمية الجزء بإسم الكل ) فالكل يعلم أن الرجل والمرأة كلاهما يشتركان بجملة من الصفات والتراكيب البايلوجية والنفسية وغيرها ، لكن هذا الوصف لا يخرج من وضع اليد على واقع حال مُعاش للمرأة داخل المنظومة المجتمعية وبهذا ينطلق الإمام في وصفها باتجاهات ثلاثة ( فكري ـ تبليغي ـ إصلاحي ) ومن هنا عندما يوصي أبنه الإمام الحسن (ع) بقوله (إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلى أَفْنٍ ، وَ عَزْمَهُنَّ إِلى وَهْنٍ ) النتيجة من هذا المعنى إن الإمام (ع) أشار إلى النقص الحاصل في رأي النساء فكلمة ( أفن تعني
الناقص ) و ( وهن هو الضعف ) ولذلك لا يجب إقحامهن في ميدان لا يستوعب حجمهن الفعلي نظراً لعدم مرورها بسلسلة من التجارب واحتكاكها بميادين الحياة إذ أن تكوين المرأة جعلها قد جعلها تختص بمساحة ليست بالكبيرة ربما تشمل بالدرجة الأساس هو البيت ، كما أن الإمام (ع) ومن خلال سياق الكلام قصد المشاورة في أمور الدولة بشكل أساس وهو أشبه ما يكون بوصية عامة لكل من يتصدى لموقع القيادة ولم يكن الإمام الحسن (ع) هو المقصود .
وكذا الأمر في القول (الْمَرْأَةُ شَرُّ كُلُّهَا ، وَ شَرُّ مَا فيهَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا ) أن الحديث لا يتعلق بالمرأة كإنسانة وإنما هو أمر يختص بأنوثتها وما تعنيه وما قد تسببه من فتنة مذمومة يقع الرجال في شباكها ، وألا أن صفة الشر هي صفة مشتركة للرجل والمرأة لكن أراد الإمام (ع) من اتخاذه للكلام في النساء لتكون أداة غير مباشرة للوصول إلى الرجال ووعظهم من خطأ الوقوع في شرك فتنة النساء المتمثل
بالأنوثة .
ونجد نفس الصور التدريبية للإنسان عندما يصف الإمام النبات فعندما يقول (ع) (أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رَعْيِهَا فَتَبْرُكَ ، وَ تَشْبَعُ الرَّبيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ ) فلفظة العشب وردت في سياق تمثيلي أراد من خلاله (ع) أن يوضح للمُخاطب طبيعة الإنسان القيادي وما يجب أن يكون عليه من حسن التمثيل لرعيته وواجب أن يشعرهم من خلال افعاله وتصرفاته أنه واحدً مهم والأمثلة كثيرة في هذا المجال لكننا نختصر خشية الإطالة ، إذ يتبين أن الإمام (ع) قد وظف الفاظ النبات لضرب المثل والعبرة وسوق الحكمة فكانت تلك الألفاظ ومدلولاتها وسيلة ناجعة للتأثير في مستعميه وتقريب ما بعد عنهم .
كما ويلاحظ ذلك من خلال الدلالة الإيحائية للألوان وسوف نقتصر على مثال واحد في بيان ذكره لقصديّة اللون الأسود وما يعنيه ( ثُمَّ إِنَّ هذَا الإِسْلامَ دينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَاصْطَنَعَهُ عَلى عَيْنِهِ ، وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ ، وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلى مَحَبَّتِهِ ، أَذَلَّ الأَدْيَانَ بِعِزَّهِ ... وَ لا سَوَادَ لِوَضْحِهِ ) إذ يوحي اللون الأسود بالظلام النفسي الذي كان يعم النفوس قبل الإسلام لا سيما وان سيمائية اللون الأسود تشير إلى الحزن والتشاؤم لارتباطه بأشياء مُنفّرة في الطبيعة دون سائر الألوان فهو مرتبط بالليل والظلام ، كما بيّن الإمام من خلاله فضل الإسلام على الناس وما أشاعه في النفوس من السكينة والطمأنينة.
كل هذه الأمور التي نستطيع أن نسميها لغة التدريب في نهج البلاغة لم يكن طرحها اعتباطياً كما هو واضح وإنما أراد الإمام علي (ع) أن يزرع القواعد الحقيقية في ذهنية كل إنسان لأنه لا يمكن ضخ الكثير من المعلومات في مدة زمنية محددة وإنما تنضيج هذا الأمر يتأتى من خلال التدريب والتعليم على استخدام القوانين التي تقوم عليها هذه التعليمات في كل مصداق مستقبلي بغض النظر عن نوعه .
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha